عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
أمين الخولى وتجديد الفكر الدينى (3)

أمين الخولى وتجديد الفكر الدينى (3)

بقلم : د. عزة بدر

«المجددون فى الإسلام» من أهم مؤلفات أمين الخولى (1895-1966)، وكان هدفه فى هذا الكتاب هو استخلاص ما فى أقوال أولئك المجددين الأسلاف وأفعالهم مما تفيد منه الحياة فتتجدد وتتطور، وتبرأ من آفات آراء أو أضرار أفعال وممارسات تتسم بالجمود، وعدم مواكبة الحياة فى تغيرها وتطورها.
 
• القيم الفكرية للمجددين
وقد قدم المجددون الأوائل للحياة الدينية والفكرية قيما وحقائق مهمة حول التطور الاعتقادى، وحق الفهم الصحيح للدين، وسعة الأفق، والتسامح الدينى، كما قدموا للحياة الخلقية نقاء الروح وسلامة وسعة الصدر فى معاملة المثقفين بل قدموا إسهامات واضحة للحياة العاطفية والفنية، وقد عرض الخولى لهذه الإسهامات من خلال ترجمته لحياة وأعمال ومؤلفات المجددين الأوائل وهم: الخليفة عمر بن عبدالعزيز، والإمام الشافعى، وابن سريج، وأبوسهل الصعلوكى، وأبوالحسن الأشعرى، والباقلانى وهم مجددو القرون الأربعة من خلال مخطوط السيوطى (911 هـ) المسمى «التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كل مائة».
وكتاب المراغى الجرجاوى (ق13هـ) فَدَوَّنَ بذلك قول القدماء بعبارتهم فى فكرة تجديد الدين على رأس كل مائة سنة، ثم أكمل هذه الصورة التاريخية بترجمة عن هؤلاء المجددين ترجمة تقصد إلى بيان أعمالهم وأفكارهم فى التجديد.




• الشعور بالمسئولية
وقد كانت أولى القيم التى أرساها الخليفة عمر بن عبدالعزيز أول مجدد على رأس المائة من الهجرة : الشعور بالمسئولية فيقول عمر بن عبدالعزيز: «إنى تقلدت من أمر أمة محمد «صلى الله عليه وسلم» فتفكرت فى الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعارى المجهول، والمظلوم المقهور، والغريب الأسير، والشيخ الكبير، وذوى العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم فى أقطار الأرض وأطراف البلاد فعلمت أن ربى سائلى عنهم يوم القيامة فخشيت ألا تثبت لى حجة فبكيت».


«وهو من خشية هذه المسئولية أقام رجلين من أفضل الرجال ليجلسا قبالته حين يعقد مجلس الإمارة فلا يكون لهما عمل إلا النظر إليه، فإذا رأيا منه شيئا لا يوافق الحق خَوَّفاه وذكراه بالله».


وعمر بن عبدالعزيز هو ابن مروان بن الحكم بن العاص ابن أمية ولد بحلوان فى مصر عام 61هـ أو 63هـ على خلاف، وأبوه عبدالعزيز بن مروان، تولى حكم مصر ولاية امتدت إلى أكثر من عشرين عاما.


وقد ارتبط شعور عمر بن عبدالعزيز بالمسئولية برغبته فى إقامة العدل الاجتماعى أو الإصلاح الثائر فكان يوجه المال لحاجات الناس الحيوية، ويصرفه عن ظواهر دينية يهتم بها الحكام، ومن ذلك أن كتب الحجبة إليه أن يأمر للبيت بكسوة كما فعل من كان قبله فكتب إليهم: «إنى رأيت أن أجعل ذلك فى أكباد جائعة فإنه أولى بذلك من البيت».
( أمين الخولى: 2010 «المجددون فى الإسلام»، أخبار اليوم ص87)
ويضيف الخولى أن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز درأ الحد عن سارق حين أتى إليه يشكو الحاجة فعذره، ولم يكتف بإعفائه من الحد بل أمر له بنحو عشرة دراهم، ويقول الخولى: «إن الخليفة بذلك يقرر مسئولية المجتمع عن خطأ المخطئ أو انحراف المنحرف، ولا يرى ذلك الرأى القائل بإقرار العقوبة دون تحرٍ عن سبب الجريمة بل كان يعهد إلى عامله على الصدقات أن يأتى الحى فيقبض الصدقات ثم يدعو فقراء الحى فيقسمها فيهم، فما يفارق الحى وفيه فقير ثم ينتقل إلى بقية الأحياء فينفعل مثل ذلك، وما يعود إلى الخليفة بدرهم.


(أمين الخولى: «المجددون فى الإسلام» ص87، ص88 ).


• حرية الرأى والاعتقاد
وأرسى الخليفة عمر بن عبدالعزيز قيما أخرى مهمة منها: حرية الرأى والاعتقاد فقد كتب إلى زعيم هؤلاء الخوارج يدعوه قائلا: «إنه بلغنى أنك خرجت غضبا لله ولنبيه، ولست بأولى بذلك منى فهلم أناظرك فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان فى يدك نظرنا فى أمرنا»


فكتب إليه زعيم الخوارج قائلا:
«قد أنصفت، وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك».


ودخل الرجلان عليه فوصلا به فى المناظرة إلى درجة أن طلب أن ينظراه ثلاثة أيام ».


وفى موقف آخر أشار عليه بعض جلسائه أن يرهب قوما ذاكروه شيئا فلم يزل عمر يرفق بهم حتى رضوا منه أن يرزقهم ويكسوهم ما بقى، فلما خرجوا من  عنده قال لرجل من أصحابه : «يا فلان إذا قدرت على دواء تشفى به صاحبك دون الكى فلا تكوينه أبدا».


• السلم وحقن الدماء
وتقدير عمر بن عبدالعزيز لحرية الاعتقاد كان يعززه حبه للسلم حبا جعله يقول: «والله لزوال الدنيا أهون عَليَّ من أن يراق فى سبى محجم من دم»
  أى قدر يؤخذ من الدم (فى العلاج بالحجامة)
وكتب إليه  وإليه على خراسان أن أهلها لا يصلحون إلا بالسيف والسوط ويستأذنه فى ذلك، فرد عليه بقوله : قد كذبت بل يصلحهم العدل والحق فابسط ذلك فيهم».
• نصيب المجدد من جوانب الثقافة المختلفة


ويشير الخولى فى ترجمته لشخصية الخليفة عمر بن عبدالعزيز إلى البيئتين المادية والمعنوية اللتين نشأ فيهما الخليفة إذ يولى أمين الخولى عناية خاصة للأثر الاجتماعى والمعنوى للبيئة على نفس مجدد الدين وتفكيره فيقول: (إن البيئة المادية والمعنوية فى مصر وفى المدينة قد أثرتا فى رقة طبع  الخليفة  فقد كان مؤدبه الخاص أحد فقهاء المدينة السبعة، ولعل فساد  الحكم فى الأسرة الأموية قد كان مثيرا عكسيا لنفسه فقد رأى فيهم الضراوة القاسية فى اغتيال مخالفيهم، وفى صراعهم على ولاية العهد).


 وبالإضافة إلى ذلك فقد كانت لعمر بن عبدالعزيز نفس ذواقة تواقة، وقد عبر عن ذلك الطور الأول من حياته الذى بدت فيه رقة طبعه، وفنية ذوقه حتى ليعدونه فى طبقات المغنين، ولعله لهذا دافع عن المغنين فى عهد سلفه سليمان إذ سمع فى عسكره غناء بالليل فأراد عقابهم فرده عن ذلك عمر بن عبدالعزيز  فخلَّى سليمان سبيلهم.


ويؤكد أمين الخولى دائما فكرة تكامل شخصيات أولئك المجددين العلماء، وكيانهم الثقافى، ونصيبهم من جوانب الثقافة المختلفة التى تتلاقى جميعها فى تكوينهم فيقول الإمام الشافعى رضى الله عنه فى هذا المعنى: (من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر فى الفقه نبل قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر فى اللغة رقّ طبعه، ومن نظر فى الحساب جزل رأيه»..


• الترجمة عن الأجانب
 وقد كان عند الشافعى - المجدد الثانى حسب الأقدمين باتفاق كبير التقدير للعلوم الدنيوية ولاسيما الطب، ويظهر ذلك من حديثه فى كتابه (الأم) فيقول فى الأخذ عن الأجانب من هذه العلوم : (وما وجد من كتبهم فهو مغنم، وينبغى للإمام أن يدعو من يترجمه).


• حب الحقيقة
ومن  معالم منهج تفكير الإمام الشافعى:
حبه للحقيقة وإيثارها على كل ما عداها من غنم شخصى فهو يقول فى ذلك: (ما ناظرت أحدا قط إلا أحببت أن يوفق، ويُسدد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله عز وجل).


ويقول أيضا: (ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها حتى هبته، واعتقدت مودته، ولا كابرنى أحد  على الحق، ودافع الحجة إلا سقط من عينى ورفضته ».


• من أراد الدنيا فعليه بالعلم
وقد آمن الشافعى بالعلم، ورأى أن العلم مهمة يقوم بها الفرد وجوبا لخير مجتمعه لا لميزة شخصية تكون له بعلمه فكان يقول: ( وددت أن الناس انتفعوا بهذا العلم، ولم يُنْسب إليَّ منه شىء).


وأكد الشافعى دائما الاهتمام بتحصيل العلوم فقال: (من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ولم يُعط الإنسان فى الدنيا بعد النبوة أفضل من العلم).


بل يمكن أن يقال: إن أصحاب الثقافة الإسلامية على اختلاف ميادينهم فى عصور حيويتها ونهضتها كانوا يشعرون بواجبهم فى ذلك المجال شعورا ساميا مترفعا عن أعراض الدنيا حتى لقد كان فيهم من يعتبر طلب أعراض الدنيا بالعلم مطعنا فى أمانة صاحب هذا الطلب للعلم فيقول أحمد بن حنبل فى ذلك:


(لا تكتبوا العلم عمن يطلب به أعراض الدنيا)
 • العقل التجربة
ومن معالم المنهج العقلى عند الشافعى المجدد  انتباهه إلى التجربة وأنها العقل الحق، وقد اهتم الشافعى بفكرة إعمال العقل كقيمة، وحرص وهو يلقى درسه على حرية الطلبة العقلية، وشعوره باستحالة القهر العقلى مادام العقل يؤدى عمله فهو يقول لتلاميذه: «إذا ذكرت لكم ما لم تقبله عقولكم فلا تقبلوه فإن العقل مضطر إلى قبول الحق».


ومن مظاهر الدقة فى طلبه للمعرفة أن سأله بعض أصحابه قائلاً: «يا أبا عبدالله تُملى علينا السُنن التى صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» فيقول الشافعى: «السُنن الصحيحة قليلة عند أهل المعرفة، إذا كان أبو بكر الصديق لا يصح له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سبعة أحاديث، وعمر بن الخطاب  رضى الله عنه  لا يصح له إلا خمسون حديثًا مع طول عمره بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعن عثمان بن عفان أقل، وعن على بن أبى طالب مع ما كان يُحض الناس على الأخذ عنه لا يصح له حديث كثير لأنه كان مشغولاً ممتحنًا، وأكثر ما أخذ عنه فى زمان عمر وعثمان لأنهما كانا يسألانه ويرجعان إلى علمه.


(وقد ورد ذلك فى كتاب «المجددون فى الإسلام) لأمين الخولى ص102، ص103، نقلاً عن كتاب الرازى: مناقب الشافعى، ص86، ص87).
وكان الشافعى يتحرى الدقة، وكان بتواضعه المحتاط يقول لأحمد بن حنبل وهو تلميذه: «أما أنتم فأعلم بالحديث والرجال منى فإذا كان الحديث صحيحًا فأعلمونى أن يكون كوفيًا أو بَصْريا أو شاميًا أذهب إليه إذا كان صحيحًا».
• النهى عن التقليد فى الاجتهاد
والشافعى الذى يقدر التجربة، ويجعلها العقل، ويحتاط فى الرواية والنقل هو الذى يؤمن بالحرية العقلية، وينهى عن تقليده هو أو تقليد غيره من الناس، ويبدو حرصه على هذا من أن «المزنى» صاحبه المصرى (توفى 264هـ)، وأعلم أصحاب الشافعى يحرص فى أول فقرة من مختصره فى الفقه الشافعى على أن يقول: «إن مذهب الشافعى هو: أنه لا يجوز للمجتهد أن يُقلد مجتهدًا غيره».


• التطور فى مذهبه الفقهى
ومن ألمع معالم منهج تفكير الشافعى ما هو بحق أمس ما يكون بقضية التجديد الدينى وهو: تطور الشافعى العقلى والفقهى تطورًا ملموسًا باقى الأثر فقد أعاد الإمام النظر فيما كتب، فوضع رسالته المشهورة التى يعد بها واضع أصول الفقه، ويُنِّظر له القدماء أنفسهم فى هذا الموضع بأرسطو فى وضع المنطق، فقد كتب هذه الرسالة مرة ببغداد، ولما انتقل إلى مصر أعاد تصنيفها ولم يكن هذا فى الرسالة وحدها لجدة موضوعها أو لابتداء بحث جديد بها بل كانت هذه المعاودة المتطورة لمذهبه الفقهى كذلك، ففى الفقه يكون له القولان: أحدهما قديم، وهو الذى صنفه فى بغداد، والآخر جديد، وهو الذى صنفه بمصر، والجديد بالنسبة إلى القديم كالناسخ له، والقديم بمنزلة المنسوخ والرازى يؤكد فى كتابه «مناقب الشافعى ص122 أن هذا التطور الفقهى كان يقوم به الصحابة أيضًا، فقد قال عمر بن الخطاب فى كتابه إلى عبدالله بن قيس فى آداب القضاء: لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه عقلك وهديت لرشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادى فى الباطل».


• الحديث عن رؤية الجن يُبْطِل الشهادة
وكان للشافعى المجدد نظرات قيمة صالحة لأن تعالج أوهاما لا تزال متغلغلة فى البيئات الدينية حتى اليوم، وقد تكون عبارات الإمام الشافعى أقوى إقناعا لأصحاب هذه الأوهام، وأبعد أثرا فى نفوسهم، فمن نظراته تلك ما يتصل بمنهجه العقلى، وتقديره للتجربة إذ يمضى من ذلك إلى إنكاره رؤية الجن فيقول الرازى فى «مناقب الشافعى» ص219: «من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته» وينتهى إلى أن المدعين رؤية الجن غير صادقين، مع أن هذه الدعوى قد سُمعت من فقهاء حدثوا عن الزواج بالجنيات!.. ويكفى الحياة من هذه الآفة ما يصنع الدجالون بعقول الناس وأموالهم، وما يضيعونه على الحياة العامة، فنظرة الشافعى إلى هذا الإنكار وربطه بمسألة عملية هى إبطاله الشهادة ــ كما يقول أمين الخولى  هو تأديب إيجابى مفيد أفضل من مجرد الإنكار القولى.

• كتمان النصيحة ظلم للناس وللحاكم

الدين النصيحة لله ولرسوله ولعامة المسلمين وأئمتهم، لكن نظرة الشافعى إلى هذه النصيحة نظرة حيوية وعميقة إذ يقول: «ثلاث خصال من كتمها ظلم نفسه: العلة من الطبيب، الفاقة من الصديق، والنصيحة للإمام».
وهذه رؤية اجتماعية جليلة منبعثة من شعور عميق بعلاقة الفرد بمجتمعه.

وتحدث الشافعى أيضا عن واجب كل فرد نحو صاحب الحق الضعيف فيقول:

«إن الله لا يقدس أمة لا يؤخذ للضعيف منهم حقه».

مما يكشف عن الشخصية الحيوية للشافعى، ذلك الكشف الذى يبين وجوب نظر المشتغلين بالشأن الدينى إلى ما حولهم من الحياة، وعدم الغفلة عن تطورها المستمر، وتعمق عُرْف الناس الذى تصنعه وتغيره عوامل مختلفة، تارة تكون اقتصادية، وتارة تكون اجتماعية أو سياسية.

• المجدد والانفتاح الثقافى

لقد هيأت البيئات الطبيعية والمعنوية والاجتماعية للشافعى  كما يقول أمين الخولى  تلك الحيوية العقلية والعملية التى تلاقت كلها فى كيانه، وأفاد منها فقد اتصل اتصالا مباشرا، وكافيا بمدارس الثقافة الإسلامية المختلفة فى النصف الثانى من القرن الثانى الهجرى، وتتلمذ تلمذة حقيقية لمالك ومدرسته الحديثة فى الحجاز بعد الذى أخذه فى بدء تعلمه بمكة، واتصل اتصالا قويا بمدرسة الرأى العراقية، وصار إليه من كتبها مقدار كثير، كما أخذ الشافعى فى روايته العلمية كذلك من آفاق واسعة فروى عن أصحاب الحديث الحجازيين، وأصحاب الرأى العراقيين، وروى عن غيرهم من أصحاب المقالات فكان له شيخان من المعتزلة أصحاب العقل الحر، وروى عن السيدة نفيسة بنت الحسن العلوية.


وهذا التنوع الثقافى، وتعدد مصادر المعرفة فى رأيى هو الذى أثر فى اجتهاده وتجديده، وهى العوامل التى لابد أن تتوافر لشخصية المجدد الدينى. •

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز