عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
مراجعات لمفاهيم في ميدان التعليم

مراجعات لمفاهيم في ميدان التعليم

بقلم : د. عصمت نصار

ما زال الآباء والقائمون على التعليم في مصر -منذ الربع الأخير من القرن العشرين- يجهلون الفارق بين المعاني اللغوية والاصطلاحية من جهة، والإجرائية التي تبرهن التجربة والاستقراء على صحتها من جهة أخرى، ولاسيما في ميدان التربية والتعليم وبالأخص في أحاديثهم عن الامتحانات ونتائجها ومستوى الطلاب ومقدار ذكائهم والتخطيط للنهوض بالتعليم عن طريق الاستثمار (المدارس والجامعات والمعاهد الخاصة المصرية والأجنبية). ولعل أشهر الكلمات في هذا السياق هي (النجاح، النبوغ، الاستثمار).



وإذا ما حاولنا تطبيق قواعد المراجعة والتقييم العلمي لهذه المصطلحات سوف نجدها أبعد ما تكون عن الحقيقة، وليس أدل على ذلك من تدني مستوى التعليم في جل مراحله، الأمر الذي أكدته عدة نتائج، فتأتي مصر في ذيل الإحصائيات الدولية في جودة التعليم وتشغل المرتبة 135 من 139 دولة، وتراجع مستوى طلاب المدارس في كل المراحل على نحو لا يؤهلهم للالتحاق بالتعليم الجامعي الذي تدنى بدوره حتى فقد مصداقيته. ومن ثم حمل خريجو الجامعات صفة أنصاف المثقفين، أما خريجي المدارس والمعاهد الفنية المتوسطة فحدث ولا حرج، فهم أقرب إلى أمية القراءة والكتابة وعشوائية التفكير منهم إلى من كنا نطلق عليهم متعلمين. وقد انعكس ذلك كله على سوق العمل –في الداخل والخارج- من جهة، ووعي الطبقة الوسطى وكفاءة الموظفين وأصحاب الحرف من جهة أخرى، وباتت الشهادات التي يحملها الناجحون في شتى مراحل التعليم لا تساوي قيمة الأحبار التي كُتبت بها.

وإذا ما أردنا فحص الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج، فإننا يمكننا إيجازها في:-

- عدم وجود إستراتيجية واضحة للتعليم تستطيع الإجابة عن السؤال المطروح (لماذا نتعلم؟ وكيفية تحقيق الغاية من التعليم؟).

- انتحال الخطط التربوية والتعليمية وبرامج الجودة من الخارج دون استيعاب ومراعاة الفارق بين الثقافة الوافدة والواقع الفعلي لمدارسنا وجامعاتنا.

- فساد البنية التنظيمية بداية من البيئة المدرسية، ونهاية بالكليات والمعاهد الكرتونية الحكومية والكليات الخاصة التي لا يرمي أصحابها إلا الربح المادي.

ولم يقف مستنقع الفساد عند هذا الحد بل حاق بالقائمين على التعليم في المدارس والجامعات واستحالت رسالة التعليم والتعلم إلى صنعة أو مهنة لا أخلاق ولا ضمير ولا كفاءة ولا وعي فيها. وتحت ضغط الأعباء الاقتصادية سكتت الأصوات الإصلاحية وتسرب اليأس إلى سواعد وعقول الراغبين في النهوض بالتعليم وتقويمه.

وعندي أن إصلاح التعليم في مصر ليس معضلة بقدر احتياجه إلى قرارات جريئة وحاسمة ووعي اجتماعي ورقابة غيورة على صالح مصر، وعقول وسواعد مؤمنة بأن العملية التعليمية هي حجر الزاوية لإنهاض الأمة وشفاءها مما حاق بها من جراثيم التخلف والانحطاط الأخلاقي وفساد الأذواق وضياع مكانة المتعلم في ميدان الاستثمار البشري، ومدركا كذلك أن إهماله يؤدي حتما إلى إهدار المال العام والطاقات البشرية، ناهيك عن تهيئة المناخ الأمثل لانتشار البدع والخرافات وذيوع الأكاذيب والشائعات وسيادة التطرف والعنف والجنوح في شتى صوره على سلوك المجتمع.

ولما كانت فلسفة التعليم تعد من أعرق المباحث الفلسفية التي انصرفت إليها جهود التربويين والفلاسفة في الشرق والغرب منذ أقدم العصور، فسوف أقتبس في عجالة ما يمكن الاستفادة به في مراجعة المصطلحات الثلاثة التي أشرنا إليها (النجاح، النبوغ، الاستثمار).

أولها جعل مصطلح النجاح معيارا حقيقيا لتحقيق المآل والظفر والفوز والوصول إلى ما ينبغي أن يكون، وذلك تبعا لبرنامج علمي دقيق في فصله بين ثوابت الهوية الشخصية والوطنية والعقدية والمتغيرات الثقافية والحضارية، ويعني ذلك أن ميزان التقييم يجب أن ينصب على مقومات بناء الشخصية والكشف عن الطاقات والملكات الذهنية والتأكيد على غرس روح الانتماء والولاء للمجتمع وحب العلم وأهله، وذلك في المراحل الأولية في التعليم (رياض الأطفال، الابتدائي، الإعدادي)، أما المرحلة الثانوية فيجب أن تهتم في وضع معايير تقييمها -بتحديد وبشكل دقيق- بمواطن القوة والضعف والميول والمواهب والقدرات التي بمقتضاها يوجه الطالب إلى التعليم الجامعي، حيث البحث الحر الذي يمّكن الطلاب من الوقوف على أصول العلم ومناهجه.

أما النبوغ فينبغي ألا نطلقه إلا على العقول المجيدة واسعة المعارف، والفائقة والظاهرة على الأنداد، فالنابغ الحقيقي هو ذو العقلية العبقرية المبدعة وليست الحافظة أو التابعة دون نقد أو تمحيص، وهي التي تقدم الحلول المبتكرة المستوعبة للواقع والمخططة لتصورات أفضل، فإنني أعجب ممن نطلق عليهم أوائل المتفوقين في المرحلة الثانوية ثم تأتي المرحلة الجامعية بنتيجة مناقضة لهذا التقييم، الأمر الذي يكشف عن تهافت معايير التقييم. وعندي أن النجاح في الحفظ وصحة التلقين لا يكشف عن مواطن القوة الذهنية والقدرات الإبداعية، بل يجب أن يكون النبوغ في الوقوف على الإجابات غير التقليدية لأسئلة وُضعت خصيصًا لأصحاب المهارات الخاصة. وعليه لا يلتحق بالجامعات إلا العقليات النابغة المؤهلة لاستيعاب أصول العلم والتدريب على طرائق التفكير في ضوء المعارف التي يتلقاها عن طريق الحوار والمناقشة بين جدران الجامعات. فالدراسات الإمبريقية تشهد بأن ليس كل من التحق بالتعليم الجامعي والكليات التي أطلقنا عليها (كليات القمة) نبغ في تخصصه وأجاد فيه واستفاد المجتمع من تعليمه، ولا يرجع ذلك لعدم وجود فرص في سوق العمل في الداخل أو الخارج، بل يرجع لأن الطالب لم يصل إلى درجة الإجادة التي توهم أنه حصل عليها؛ أما الدراسات النظرية الإنسانية فحدث ولا حرج، فمعظم خريجيها عالة على سوق العمل ويشكلون أحد الأسباب في تضخم حجم البطالة بين الشباب، الأمر الذي يدفع معظمهم إلى تغيير مساره فيعمل أعمال حرفية بعيدة كل البعد عن مجال دراسته.

وأخيرا مصطلح الاستثمار في ميدان التعليم، فلا يصدق عليه سوى معنى الاستغلال والنفعية، وليس إثمار الجهود وتوظيفها لصالح المجتمع والعلم. فإذا نظرنا إلى المدارس الخاصة الأولية (ابتدائي، إعدادي) سوف نجد شرها أكثر من نفعها، وذلك لأنها تعمل على تعدد الولاءات واستقطاب العقول وتزايد الفروق الطبقية بين أفراد المجتمع، وكذب من يزعم أن خريجيها أفضل من خريجي المدارس الحكومية، ولعل نتائج اختبارات التعليم الثانوي خير شاهد على ذلك، فلم تحظ المدارس الخاصة إلا بنسبة 20% تقريبا في قوائم الأوائل الناجحين. ويتراءى لي ضرورة توحيد البنية التنظيمية في المدارس الأولية وإتاحة المجال للتعليم الخاص في المرحلة الثانوية، وذلك تحت رقابة نزيهة وصارمة من قبل مؤسسات الدولة لمتابعة سير العمل فيها وإلغاء التصاريح للمدارس التي تحمل طابع أيدلوجي أو عقدي (مدارس الإخوان والسلفية). أما الاستثمار في التعليم العالي فيجب إعادة توجيهه للتخصص في المجالات العلمية المبتكرة، المتمثل في الجامعات الأجنبية التي ينبغي عليها هي الأخرى مراعاة مصلحة المجتمع المصري واحتياجاته في المقام الأول، وذلك في مناهجها وبرامجها الدراسية، ومن ثم يجب إلغاء كل الجامعات الموازية التي تسعى إلى التربح والمتاجرة، وليس أدل على إخفاق وفساد معظمها من تسكع خرجيها وعدم قدرتهم على المنافسة في سوق العمل.

وأعتقد أن ميدان الاستثمار الحقيقي يكمن في التعليم الفني والتدريب المهني والدبلومات المهنية المتخصصة، الأمر الذي يستلزم توعية الرأي العام بقيمة هذا الضرب من ضروب التعليم وأهميته التي لا تقل عن التعليم الجامعي، وإدراك أصحاب المصانع والمشروعات الاستثمارية الضخمة وشركات التنقيب والملاحة والنقل والسياحة ضرورة استثمار الأموال والطاقات لإنشاء مدارس متخصصة لتخريج عمالة مدربة، ذلك فضلا عن مؤسسات الدولة التي سوف تتخلص تمامًا من قوائم البطالة وذلك لأنها تستثمر مخصصات ميزانيتها في التعليم في المجال الأهم والأصلح، فغمر سوق العمل للأيدي العاملة الفنية المدربة هو الطريق الأصوب من إهدار ميزانية الدولة وأموال أفراد المجتمع في ميدان التعليم العام الذي لم يحقق الإثمار المأمول ولم يكفل كذلك العمل المناسب لخريجيه. أما الفائض من تلك الطاقات الفنية المدربة فسوف تجد مكان لها في السوق الدولية وذلك لأنها تجمع بين النجاح والنبوغ والعبقرية.

وإذا ما راجعنا المصطلحات السابقة انطلاقًا من هذه القراءة سوف تختفي تمامًا الفروق بين معانيها ودلالاتها في الواقع.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز