عاجل
الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
قضية التجديد ومعوقات الطرح والمعالجة

قضية التجديد ومعوقات الطرح والمعالجة

بقلم : د. عصمت نصار

 



لا يخفى على المتخصصين -في مراكز الأبحاث، والمعنيين بدراسة الفكر الإسلامي بعامة والحديث والمعاصر منه بخاصة- أن قضية التجديد من أكثر قضايا الثقافة الإسلامية أهمية وأصالة، وأن أكثر الحقول المعرفية تناولا لها هو الحقل الفلسفي؛ ويرجع ذلك إلى أنها تتعلق تعلقًا مباشرًا بأصول الدين من جهة وتحديد العلاقة بين الموروث والوافد والأنا والأخر ومشخصات الهوية والسمات الحضارية من جهة أخرى.

وعلى الرغم من ذلك فإننا نجد العديد من الكتابات الصحفية المعاصرة تخلط بين المصطلحات الفلسفية المتعلقة بهذه القضية، الأمر الذي انعكس انعكاسا سلبيا على المتلقي وحال بينه والفهم الصحيح لجوهرها ومشكلاتها والسياقات المتداخلة معا. ومن ثم كان لزامًا علينا التصدي لذلك الخلط قبل الحديث عن معوقات الطرح والمعالجة في الفكر الإسلامي المعاصر.

فمصطلح تجديد الدين قد ورد في الحديث الشريف (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)؛ والمقصود بالتجديد هنا هو إحياء صلب العقيدة فهمًا وقولاً وعملاً، وهو ما ورد في أصول الشرع والآيات والأحاديث قطعية الثبوت والدلالة، وفتح باب الاجتهاد لتفسير وتأويل الآيات والأحاديث قطعية الثبوت وظنية الدلالة.

أما مصطلح (تجديد الخطاب الديني) فيشتمل على مبحثين: الأول يختص بالرد على المخالفين والأغيار، من الملاحدة والمتشككين والمتنطعين في الدين والمتعصبين والغلاة والجانحين، وتتسم لغته بالطابع الجدلي المنطقي الجامع بين المنقول والمعقول؛ أما الثاني فيهتم بالجانب الدعوي لتبصير المسلمين ومن يدعوهم إلى الإسلام بحقيقة الأصول الشرعية وضوابطها ومقاصدها وحدودها، مؤكدا على عدم وجود تعارض بين ما يأمر به الخطاب الشرعي والحكمة العقلية التي وهبها الله للإنسان وميزه بها عن سائر المخلوقات (صحيح المنقول وصريح المعقول)، وقد اضطلع بهذا الخطاب المتكلمون والفلاسفة، منذ أخريات القرن الأول الهجري.

أما مصطلح (تجديد الفكر الديني) فهو يعبر عن الوجهة النقدية الإصلاحية للعلوم الثلاثة التي تمثل فلسفة المسلمين، ألا وهي علم أصول الدين وعلم أصول الفقه وعلم أصول الحديث، بالإضافة إلى مبحثي الأخلاق والسياسة (التصوف وأصول الحكم أو السياسة الشرعية).

ولعل الأستاذ الإمام محمد عبده ومن بعده محمد إقبال وعبدالمتعال الصعيدي خير من أفصح عن دلالة هذا المصطلح (تحرير الفكر من قيد التقليد، رد الدين إلى ينابيعه الأولى قبل ظهور الخلاف وتخليص أصوله مما حاق بها من عوالق وعادات واجتهادات جنحت عن حقيقتها وثوابتها) فظنها الناس إنها من جوهرها، فأقعدت العلوم الشرعية عن تطورها وتحديثها وهيئت مجالا للطاعنين في الدين لرميه بما ليس فيه.

وأخيرا مصطلح (تجديد الثقافة العربية الإسلامية) وهو يناقش العديد من ثنائيات الفكر التي ما زالت تناقش حتى الآن (القديم والجديد، الموروث والوافد، التراث والحداثة، ثوابت الثقافة ومتغيرات الحضارة، الدين والعلم، الحكومة الإسلامية والدولة المدنية، الاجتهاد والاجتراء، التقويم والتبديد، الحوار والتصاول).

ولا ريب في أن خلط بعض الكتاب بين هذه المصطلحات يعد من أكبر معوقات الطرح وقد انعكس ذلك بطبيعة الحال على سبل المعالجة.

وقد عكف قادة الرأي وزعماء الإصلاح ورواد التنوير في مصر والشام والعراق واليمن منذ قرنين من الزمان على دراسة علة تخلف الثقافة العربية الإسلامية عن ركب الحضارة الأوروبية، واجتمعت تصوراتهم المتباينة على أن: العزلة الحضارية، وإهمال العلوم الحديثة، والاستغراق في تقديس الموروث، وغلق باب الاجتهاد، وغيبة الحس النقدي، بالإضافة إلى انعدام الرؤية السياسية وغيبة الوعي وقادة الفكر؛ هي الأسباب الحقيقية التي أدت إلى كل مظاهر الانحطاط الأخلاقي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ذلك فضلا عن جمود الفكر الديني وانصراف الخطاب الأدبي إلى المحاكاة والتقليد والشروح والحواشي التي لم تنتج جديدا ولم تأتي بإبداع حديث إلا في النذر القليل.

الأمر الذي دفعهم لطرح قضية التجديد على مائدة البحث والتناظر والتساوي، وذلك عن طريق إثارة العديد من الأسئلة في حلقاتهم العلمية ومجالسهم الثقافية ثم صالوناتهم الأدبية حول مفهوم التجديد وقضاياها ومشكلاته ومعوقاته وآليات تفعيل إثماره وسبل التطبيق في المجتمع؛ فأدركوا استحالة النهوض بالأمة إلا بطرح قضية التجديد على نحو فلسفي ينطلق من الرؤية العامة الشاملة لتحليل الواقع ثم الانتقال إلى الجزئيات بنظرة استقرائية عملية لمعالجة المعوقات وانتخاب الحلول. وقد عُرف هذا النهج بالتحدي والاستجابة، أي تحدي المستنيرين لمعوقات التغيير بعد استيعاب كامل لمشكلات الواقع وسبل التغلب عليها ثم العمل على وضع خطة للإصلاح والتوجيه وصياغتها في خطاب يستوعبه الجمهور أو الرأي العام التابع ويؤمن به ثم يعمد إلى تفعيله من جهة، ويتجنب في الوقت نفسه الصدام مع السلطات القائمة إذا ما عجز عن استمالتها إلى خطابه من جهة أخرى.

ويعني ذلك أن قضية التجديد لم تطرح على نحو جزئي بل طُرحت في نسق فلسفي يجعل منها حجر الزاوية أو الإطار الجامع بينها وقضايا التراث والوعي والحرية والإصلاح. والذي نعنيه من ذلك السرد التاريخي هو التأكيد على أن الأصوات المنادية بتجديد الخطاب الديني وإعادة فتح باب الاجتهاد لمحاربة التعصب والعنف والإرهاب لم تفطن إلى:- أن طرح قضية التجديد على أنها مشكلة جزئية بمعزل عن بنيتها النسقية لا يعدو أن يكون طرحًا هشًا لا طائل منه؛ فتجديد الخطاب الديني لا يمكن حصر آلياته في تقويم المناهج الأزهرية أو محاربة الفرق الضالة ومكافحة التطرف ومعاقبة الإرهابيين أو القضاء على الفتنة الطائفية، بل يجب قبل ذلك كله إعادة بناء الطبقة الوسطى وهي المنوطة دون غيرها -كما ذكرنا- بتثقيف الرأي العام، وتحديد الثوابت والمتغيرات في شتى الدروب المتصلة اتصالا مباشرا بالمجتمع؛ ويعني ذلك أننا أمام معوقين، أولهما: غيبة قادة الرأي وأمراء المنابر الذين لديهم القدرة على التأثير في الرأي العام، وثانيهما: تفكك الجمهور وانقسامه إلى جماعات وأحزاب وفرق هشة لا يجمع بينها إلا التمرد وانعدام الثقة في الأخر وضعف الانتماء والولاء وتفشي بينهم روح اليأس والقلق والارتياب في كل ما يحيط بهم.

وعليه لا سبيل أمامنا لاستحالة خطاب التجديد إلى مشروع إصلاحي إلا إعادة بناء منظومة القيم الأخلاقية للمجتمع؛ فقد تبين لنا أن قاعدتي التحدي والاستجابة لا يمكن الحديث عنهما وسط ذلك الانحطاط الخلقي السائد في المجتمع العربي الإسلامي، فما جدوى الحديث عن الأصول الشرعية والقيم الحضارية التي يؤكدها المنقول والمعقول معا، وما الفائدة من لغة الوعظ –وإن جاءت على ألسنة السلطة الحاكمة- في مجتمع لم يدرك من صور التدين سوى العنف ولم يعي من الأخلاق إلا التبجح والسفالة ومن المعارف والأخبار إلا الشك والارتياب.

وقد بينت في غير موضع من كتاباتي أن قضية التجديد ومراميها الإصلاحية لا يمكن طرحها والتغلب على معوقاتها وإيجاد السبل والآليات لجني ثمارها بمنأى عن وعي الأنا، فالعلاج يجب أن يبدأ من الذات والقناعات الشخصية التي تسعى إلى إحياء الأمل في العقول والصدور من جديد (من جوا نبدأ).

وحري بي أن أنبه على أن أخطر معوقات التجديد يكمن في التصورات النظرية والحلول الخطابية بمنأى عن الواقع المعيش بكل ما فيه من مظاهر وظواهر وعوائد ومعتقدات. فالتجديد مشروع إصلاحي وليس خطابا فلسفي، أي أن قضايا التجديد لم تطرح على مائدة الفلسفة لتصبح ميدانا للسفسطة بل لوضع خطة للتقويم والإصلاح ومشروع للنهضة.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز