عاجل
الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الحياء في الدين والسياسة والفن

الحياء في الدين والسياسة والفن

بقلم : د. عصمت نصار

في العقيدة والأخلاق



أعتقد أن ليس هناك أقبح، وأشر، وأحط ثقافة من تلك التي لا يعرف أهلها فضيلة الحياء، ويجعلونها ديدنهم ودستور حياتهم وميثاق سلوكهم والقانون الضابط لأقوالهم وأفكارهم وإبدعاتهم. ولا أكون مبالغا أو متشائما عندما أقرر أن مثل هذه الثقافة لا يرجى منها خيرا ولا يؤمل من أفرادها النجاح والفلاح ولا ينُتظر من مؤسساتها أدنى درجات الاستجابة لخطب الوعظ وترانيم التقوى وخطط الإصلاح وآليات محاربة الفساد والتطرف والعنف. والحياء الذي نفتقده وننشده لا يعني الخضوع والانصياع والطاعة العمياء لأوامر أو عادات وتقاليد وثوابت موروثة بحجة أنها الأيقونة المقدسة والقول الفصل والحكمة الخالدة التي خلفها لنا التراث العقدي والاجتماعي والسياسي. فإن ذلك نقيض المراد، فالحياء لا يمنع العالم العاقل والباحث المدقق من إعمال العقل في كل ما يتلقاه، أما تطاول الجاهل وبذاءة الأحمق وتمرد الهمجي فهو من الرذائل التي تناقض الحياء.

وإذا ما حاولنا الوقوف على مفهوم الحياء فسوف ندرك إن معنى اللفظة يعبر عن الخجل من القول أو السلوك السيء، والاحتشام والوقار الذي يتوج السرائر النقية والطبائع الخيرة، وهو أصل العديد من المكارم والخصال الحميدة مثل العفة والتسامح والورع، وهو مصاحب للنفس اللوامة التي تنأى بالفرد عن الشروع في ارتكاب المعاصي، وهو الصوت المكين الذي ينهى النفس الأمارة بالسوء عن الظهور في مظهر لا يستحسنه الشرع والعقل والذوق معًا. فالحياء والبذاء نقيدان لا يجتمعان في قول أو فعل أو مظهر.

ويميز أبوالهلال العسكري بين الخجل والحياء، فالأول هو أسف وندم عما كان، أما الثاني فهو مانع ورادع داخلي عن ارتكاب السوء قبل وقوعه. واختلف العلماء فيما بينهم حول طبيعة الحياء من حيث هو خلق فطري أو مكتسب، والمرجح عندهم أن الفطرة السليمة تعزف عن ارتكاب الشرور والعيوب، أما الحياء فيكتسب بالتربية والتوجيه وذلك لتخلية النفس من الوقاحة والخضوع للشهوات وتعويد الذوق على استحسان المكارم من الفضائل وبغض المكاره في القول والعمل.

وقد ورد مصطلح الاستحياء في القرآن ولم تخرج دلالاته الأخلاقية والمعرفية عما أوردنا، وما يؤكد أنه لا حياء ولا استحياء في القول بالحق ودفع الظلم والانتصار إلى العفة والذود عن الكرامة.

أما الحياء في الحديث الشريف فقد جاء معبرًا عن أعظم الفضائل شأنا ألا وهي فضيلة الإيمان بوجود الله الحي الذي لا يخفى عليه شيء؛ ومن ثم يكره عز وجل أن يرى عباده في مخبر أو مظهر لا حسن فيه ولا طاعة. لذا جعل النبي (صلى الله عليه وسلم) الحياء والإيمان صنوين لا يفترقين، وبيّن أن خلق الإسلام الحياء. ولا يأتي الحياء إلا بخير. وأوضح أن أعلى درجات الحياء هي الاستحياء من الله ولا يبلغها إلا من اتقى البارئ فيما يعقل ويشتهي، فيرغب عن هوى الدنيا حتى لا ينسى الموت والحساب واللقى.

والحياء عند الصوفية هو النور الجامع بين الإيمان واليقين، والهيبة والاحتشام، والحذر من الذم وترك المعاصي طواعية، واستحياء العبد في طلب نعمة من الله لا يستحقها، في سياق واحد. ويقسم جعفر الصادق الحياء إلى خمسة شعب (حياء ذنب، وتقصير، وكرامة، وحب، وهيبة). أما أبوالحسن الماوردي فقد جعل الحياء في ثلاثة أوجه الحياء من الله والناس والنفس، فمن لم يدركها لن يسلم من البذاء والقبح والشر. والحياء عند الغزالي هو الفزع من النقيصة. والحياء عند ابن عربي لا يتعارض مع طلب العلم والتأكد من بلوغ الحقيقة.

وعليه لا يمكننا تصور الإيمان والورع والتدين والوقوف على منبر الدعوى والجهاد للذود عن أصول العقيدة وارتداء عباءة العلماء والصالحين في النقد والتقويم، بمعزل عن فضيلة الحياء. والعجب كل العجب أن نجد في أيامنا هذه من يجلسون على أريكة العلم الشرعي ويأمرون بالمنكر، فيكفّرون ويرمون الناس بالباطل ويسبون خصومهم ويحرضون على قتلهم ويفتون بالهوى ويجيزون ما حرم الله ويحللون ما نهى عنه.

ولسنا في حاجة –بطبيعة الحال- إلى ضرب الأمثلة أو الاستشهاد بواقعات، فما أكثر فتاوى الجهال وافتراءات المتأسلمين وإفك الخوارج المعاصرين من أرباب الجماعات وفحش من استباحوا قتل المسلمين واغتيال الآمنين من الأغيار وسلب أموالهم وأعراضهم؛ كل ذلك دون حياء أو استحياء، بل يخرجون على الناس بوجوه قبيحة وعيون متبجحة ويذكرون اسم الله، تارة باسم إحياء الخلافة وأخرى باسم الجهاد فشوهوا الدين واقتلعوا قيامه من جذورها؛ الأمر الذي أطاح تماما بفضيلة الحياء التي جعلها الله ورسوله من أصول الشرع. ناهيك عن المخادعين والمنافقين الذين تمسكوا بالقشور دون اللباب فأطلقوا اللحى وارتدوا الخمار والنقاب وتتوجوا بالعمائم وتزينوا بالسبح، وذلك ليسترون سوء مخبرهم وخبث نواياهم وقبح فعالهم والحقد الدفين في صدورهم، وهم في ذلك كله يخشون الناس في الله ولم يستحوا في صلواتهم بين يدي البصير العليم من بذاءة مخبرهم ووقاحة معتقدهم.

وليس هناك أخطر على الأمة من تلك السفالة وذلك الانحطاط الذي أضحى ظاهرة لا يمكن إنكارها، وذلك إلى درجة أنه بات التدين والانضباط الخلقي والاحتشام في المظهر مرادف للإرهاب والخبث والتطرف العقدي والخيانة والعنف؛ وقد انعكس ذلك بطبيعة الحال على الخطاب الدعوي الإسلامي، ومد الطاعنين في الدين –في الوقت نفسه- والمشككين في سلامة العقيدة والملاحدة بأدلة وبراهين، لا سبيل لدفعها إلا بإحياء فضيلة الحياء لثقافتنا ثانية. وقد صدق (صلى الله عليه وسلم) بقوله "إذا لم تستح فافعل ما شئت"، وللحديث تأويلين ذكرهما الماوردي (972 – 1058م) في كتابه أدب الدنيا والدين: أولهما يعني أن ضياع الحياء والعزوف عنه تبجحا وعنتا وتطاولا واجتراء يضيع أصول العقيدة وخلق الدين، فلا يشفع التمسك بالفروع ضياع الأصول وجحد الثوابت؛ أما التأويل الثاني فهو يفسر على الإباحة من قبل الذين جُبلوا على الحياء -ورعًا وطمعًا في الشفاعة التي يُحرم منها من غفل عن معاتبة الله لعباده- وربوا أبناءهم على الاستحياء، فكل الأمور حسنة ما دامت لا تخدش الحياء ولا تتعلق بالبذاء، وذلك لأن الحياء هو الرادع النفسي والمانع الداخلي للقيام بأي أمر يناهض الأدب ويعادي الذوق الجميل. ولا ريب في أن الدلالتين مقبولتان إذا ما أعملنا العقل فيهما ومن ثم لا سبيل لنا إلا تفعيلهما في سرائرنا وحياتنا. 

وللحديث بقية

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز