عاجل
الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
حياء الراعي واستحياء الرعية

حياء الراعي واستحياء الرعية

بقلم : د. عصمت نصار

في التربية والسياسة



اتفق الأصوليون والفلاسفة على عدم الفصل في الإسلام بين النظر والعمل وأن الحق لا يضاد الحق، ومن ثم لا يجوز تناقض التعاليم الشرعية مع بعضها؛ وعليه فالفصل بين الأخلاق والسياسة لا يجيزه إلا من عجز عن فهم صحيح المنقول ولم يفطن إلى المقاصد الشرعية وما تحمله من قيم أخلاقية.

فإذا ما انتقلنا إلى ميدان السياسة بشقيها (إدارة البيت المسلم بالدستور التربوي، وتدبير شئون الحكم وتسيير أمور الدولة بالسياسة الشرعية)، فسوف نقف بوضوح على ما ورد في كتابات الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة بداية من ابن المقفع إلى ابن تيمية، التي تقطع بأصالة الروابط النقلية والعقلية تلك التي تجمع بين القيم الأخلاقية والمبادئ السياسية بدربيها.

وعلى رأس هذه القيم فضيلة الحياء، فجعلت الرجل يستحي من أبويه فلا يغضبهما ويتفانى في خدمتهما، ويستحي من زوجته فيمسكها ويسرحها بمعروف وإحسان، ويعاشرها بالحب والإخلاص والرفق واللين، وينشئ أولاده على طاعة الله واجتناب المعاصي، وتؤجر الزوجة الصالحة على رعايتها لزوجها وأولادها. وتبدو فضيلة الحياء في تجنب الأبوين الظهور أمام أولادهما في مظهر أو مخبر يمكن وصفه بالبذاءة والقبح، وتشجيعهم في الوقت نفسه على الشجاعة في قول الحق والشهادة به والانتصار له وطلب العلم والالتزام بالحياء في المخاطبة والرجاء والدعاء وعند الإقرار بالذنب؛ ناهيك عن الاستحياء في الأخلاقيات العامة مثل احترام الكبير، والتحشم في المظهر، وعدم الرقاعة والخلاعة والتبجح في الحديث، ومراعاة آداب النقاش والحوار والطلب والتقويم.

أما في أمور إدارة الدولة وشئون الحكم فنجد الحياء على رأس الخصال الأخلاقية التي يجب أن يتحلى بها الحاكم والرعية، إذ يجب على الحاكم أن يستحي من الله ويخشاه في الناس -وقد أكد على ذلك جل فلاسفة السياسة في المشرق والمغرب-، فيقيم العدل بينهم ويكرم ضعيفهم وفقيرهم ويعمل لما فيه صالحهم ويدفع عنهم كل أشكال الشرور والمضار ويحسن مخاطبتهم فيتجنب الكذب والخداع والغش والرياء والنفاق والممالأة حتى لا يصيب معيته بالتجبر والتبجح ويضيع هيبته فيهم. ولا يستحي الحاكم من مصارحة الرعية بالأزمات والمخاطر التي تحيط بهم وذلك ليعينوه على التغلب عليها ولا يجبن عن معاقبة المتجبرين والفاسدين ولا الغزاة المعتدين، الأمر الذي ينمي روح الانتماء والولاء والشعور بالطمأنينة والثقة في نفوس الرعية في حاكمها وقائدها. أما الحياء الذي يجب أن يتسم به سلوك الرعية هو الابتعاد عن كل صور الرذيلة والقبح في القول والسلوك فيقدم التسامح على العنف في معاملاتهم وتغليب المصلحة العامة على منافعهم الشخصية والابتعاد كل البعد عن الانتهازية والجشع وخيانة الأمانة والفساد وبذل كل الجهد في خدمة المجتمع والعمل على تماسكه وتجنب الفعال التي تسيء للناس أو تبدد أمنهم أو تشجع وقوع الجرائم من سلب ونهب وسطو واغتصاب وغير ذلك من الشرور والجنايات التي تتناقض بطبيعة الحال مع الحياء. أما الاستحياء من الحاكم فيبدو في صدق أهل الدربة والدراية والعلم، في النصح إليه وتبصيره بما خفي عليه من مظالم وحاجيات ومصالح ومنافع قد غفل عنها وولاته، وعدم التبجح في مخاطبته أو رميه بما ليس فيه وشتمه أو القدح في نسبه أو الحط من شأنه وقدره أو وصفه بالجور أو الاستبداد كيدا وحقدا وخصومة وكره. وعلى النقيض من ذلك لا يجوز للرعية منافقة الحاكم ومداهنته أو تزيين المعاصي له وتسهيل الجرائم أمامه، فإن مثل ذلك يتعارض مع الحياء بمعنى قول الحق وعدم الخجل من مجابهة الظالم بظلمه. فالحياء في الجرأة وليس الاجتراء وفي المجاهرة بالحق وليس في الشتم والسباب والكذب والافتراء وهو كذلك في الدفاع عن حرية الأنا الواعية وليس في تبجح الجاهلين ولا إباحية الفوضويين والهمجيين. وبالجملة فغيبة الحياء في التربية والسياسة يؤدي حتما إلى الفساد بكل أشكاله والجور بكل دروبه والسفالة والوضاعة بكل مسالكها، وليس هناك أصدق من المرايا التي تعكس ثقافتنا التي نعيشها من تفكك أسري وغيبة البر والإحسان والاحتشام والاحترام والأدب واللياقة والصدق والصراحة والتضامن والتعاون والعفة والخجل والنخوة، فكل هذه الفضائل لا نبصرها ولا ندركها في سياستنا التربوية ولا مؤسسات الإدارة والحكم.

وحسبنا أن نعيد بعض الأسئلة التي أثارها الأمير شكيب أرسلان في كتابه لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟، والشيخ أبوالحسن الندوي ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين!

ونقول ردًا على ما جاء في الكتابين إن عدم قدرتنا على الفصل بين الثوابت والمشخصات والمبادئ التي لا غنى عنها من جهة، وتلك العادات التي تتغير وتتبدل والآليات التي تتطور بمقتضى العلم والمعرفة وحاجيات الواقع من جهة أخرى، هو علة تخلفنا وتقدم الأغيار، وعندما توهمنا أن النقد العلمي والتجديد والتحديث اجتراء على الموروث واستحيينا تحرير أفكارنا من قيد التقليد، خالفنا أصول المدنية التي وضعناها وارتقينا بالحفاظ عليها في الماضي. بينما أدرك الغرب أن ما يقطع بصحته العلم وتؤكده التجربة وتبرهن عليه الممارسة يجب تفعيله وإن خالف تراث الأجداد وحوته الكتب المقدسة؛ والعجب كل العجب أننا هدمنا الثوابت وكفرنا بالمشخصات اعتقادًا منا بأن ذلك الصنيع هو بوابة المدنية.

نعم خسر العالم بانحطاطنا وذلك لأننا كنا نمثل ضمير الإنسانية يوم كان الحياء هو الدستور الذي يحكم أخلاقياتنا فكنا نحسن لأنفسنا وللأغيار معًا، وعندما نجح الغرب في تبديل ذلك الدستور ونزع من معظمنا فضيلة الاستحياء، قذف بنا إلى مستنقع الهمجية والبربرية والوحشية وكان من الطبيعي أن يحصد بعض ما غرس فأضحى ذلك الوحش المهدد الأول لاستقرار العالم والمحطم الأخطر لأسوار الأمن والأمان.

أقولها واثقًا أن سياستنا في تربية أبناءنا وفي حكم وتسيير أمور أوطاننا بمعزل عن الحياء هو الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم. ألم نبتضع جيف المدنية وطحناها وخبزناها وأطعمناها لأبنائنا فمرضوا وتقيحت أخلاقهم! فماتت فيهم الكرامة والنخوة والقناعة والعفة وعشرات الفضائل التي كان الحياء يفيض بها في حياتنا الأسرية والاجتماعية. ألم يغتسل أبناءنا بأوحال أمريكا وملوثات أوروبا فباتت قيمهم مستمدة من المظاهر البراقة والشعارات الرنانة والأفكار الشاذة! طمعًا في إدراك الحرية والانعتاق من سلطة الآباء والقيم الشرقية والعادات والتقاليد التي تشكل الهوية، وغفلوا جميعًا أن الصين واليابان وكوريا والهند لم يفرطوا في آدابهم ولم تتأثر عوائدهم بثقافة الأغيار إلا بالقدر الذي يغذيها وينميها فقوّموا الخرافة بالعلم وحاربوا التقليد بالنقد. ألم نصلب الحياء يوم استبدلنا هويته الفاضلة واعتنقنا عوضًا عنها الرياء، والمداهنة، والسكوت على الظلم، والصبر على الاستبداد، والاستسلام لقوى الفساد، والخضوع للمطامع والرغبات؛ فأصبح فينا الراعي الخائن لرسالته، والديوث الذي لا يغار على عرضه ومعيته، والمرأة الفاجرة، والبنت المتبجحة، والشاب البذيء الذي اغتر بأوهام عالمه الافتراضي، فملأ عقله وحشر بطنه بمئات الأطعمة والأشربة المسرطنة اعتقادًا منه لأنها هرمونات القوة والنبوغ والعبقرية.

نعم ونعم حطمنا بأيدينا ميزان القيم ومعيار الفضائل فعجزنا عن التمييز بين الحياء والبذاء، والاحترام والخنوع، والطاعة والخضوع، والورع والاستسلام، وخلطنا الحلال بالحرام فاعتدينا على المحارم وحرفنا النصوص وبدلنا الفضائل. ولا أكون واعظًا عندما أقرر أن صلاحنا في إعادة الحياء ملكًا متوجًا بحكم أخلاقنا وحماية أذواقنا وموجهًا لسلوكنا.

                                                                     وللحديث بقية

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز