عاجل
الثلاثاء 19 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
حرية الإبداع بين الالزام والالتزام

حرية الإبداع بين الالزام والالتزام

بقلم : د. عصمت نصار

لعل أشهر القضايا الفلسفية -التي ناقشت ما ينبغي على الفنان والمبدع مراعاته في أعماله، إلزامًا وانتصارًا لتعاليم مقدسة أو أعراف وتقاليد اجتماعية سائدة، وكذا ما يجب الالتزام به من آداب وقيم تنبع من داخله فتصبح برهانًا على صدق إبداعه وجمال مقصده، وتبيت جزءا منه فتحمل قناعاته وحريته في التعبير- هي قضية العلاقة بين الأخلاق والفن، وقضية الفن للفن أو الفن للمجتمع، وقضية حرية الأنا المبدعة وسلطة الواقع المعيش.



وقد حرص أفلاطون في برنامجه التربوي على ربط ما يوصف بالجمال وما يُدرج في الأعمال الإبداعية بالفضائل الأخلاقية العليا والمبادئ السامية التي تعمل على ترقية الأذواق وتنقية الأنفس من الشهوات والبذاءات، تلك التي تحول بين الفنان والفلسفة الحقة وإدراك عالم المثل الشاغل بالكمالات.

وقد نحى جل متكلمي وفلاسفة المسيحية والإسلام عين المنحى فكان لهم موقف محافظ إلى حد كبير من معظم الفنون مخافة منهم على أصول عقيدتهم وآدابهم.

فيحدثنا الكتاب المقدس أن أي عمل فني –من شعر وتصوير ونحت ونقش ورسم وموسيقى وغناء- لا يمكن وصفه بالجميل إلا إذا كان مقصده لا يخدش الحياء ولا ينتمي إلى البذاءة، فالرقص إذا كان طقسًا يعبر عن فضيلة الشكر لله أو ابتهاجًا بعيد فهو محمود، أما إذا كان مثيرًا للشهوات الجسدية أو طقسًا لمعبود دون الرب فلا يمكن اعتباره فنا أو إبداعا لأنه مناقض لطبيعة الله. وتتفق المجامع الكنسية على أن الرقص الماجن من الأفعال المشينة التي لا ينبغي على المسيحي القيام بها لأن الشيطان يباركها، قد وضح ذلك امبرواز وأغسطين ويوحنا ذهبي الفم؛ بينما نزع توما الإكويني إلى أن الفنون بعامة والرقص بخاصة لا يُذم في ذاته بل يُحكم عليه بمآلاته وأثره على السلوك فإذا كان الفن يعبر عن ابتهاج النفس فلا إثم فيه. وصفوة القول أن الكتاب المقدس يُحرم تمامًا كل الفنون التي لا حياء فيها ويبيح كل عمل إبداعي يعود بالخير والنفع على الفرد والمجتمع، ومن ثم فهو ينظر إلى العري والمشاهد الجنسية وأفلام البورنو والموسيقى الماجنة والأشعار الخادشة للحياء والقصص والروايات المحرضة على العنف بكل أشكاله على أنها من البذاءات المحرمة.

ولم يختلف موقف فلاسفة الإسلام عما انتهى إليه الفكر المسيحي، إذ ذهب الجاحظ وابن سينا والغزالي وأبوحيان التوحيدي والماوردي وابن حزم والشوكاني إلى الربط بين الحسن والجميل. ولما كان الحياء من المحاسن فإن كل ما يناقضه ينضوي تحت القبيح والبذيء. ولقد اجتهد الفقهاء لتحديد موقف الشريعة الإسلامية من الفنون فالتزم بعضهم بحرفية النصوص دون النظر لمقاصدها وعللها ومآلاتها، بينما نظر البعض الأخر إلى المقدس بمنهج عقلي تأويلي فبينوا أن الأصل في الأشياء الإباحة وأن التحريم لا يقع إلا بنص قطعي الثبوت وقطعي الدلالة. وعليه يجب النظر إلى الفنون بميزان النفع والضرر في ضوء القيم الرئيسة والمبادئ الراسخة التي حث عليها الدين، ومن ثم فلا تحريم للفنون في ذاتها بل الحكم يقع على الصورة والهيئة التي  تبدو فيها ثم المقصد والأثر والمآل، فلا كراهة في نظم الشعر إلا ما كان منه يخدش الحياء ويفضح العورات ويمدح المحرم ويثير الشهوات ويدفع إلى المعاصي والجنايات أو يلهي عن أداء الفرائض، ولا عيب في الاستماع للإذاعة ومشاهدة التلفزيون لأن منافعها أكثر من ضررها وفي مقدور الإنسان اجتناب الاستماع أو رؤية ما يفسد ذوقه أو يخدش حياءه مما تقدمه من أعمال، ولا جناح على الغناء وعزف الموسيقى والرقص التعبيري المحتشم؛ أما إذا اقترنت هذه الفنون بما نهى الله عنه مثل شرب الخمر أو العري أو فضح المحاسن الجسدية أو المحرض على الشر فإن مثل هذه الألوان محرمة بالقطع. وما يصدق على الموسيقى والغناء يصدق على التصوير بكل أشكاله إلا ما دعا إلى الشرك أو عبودية غير الله أو ما تعمد فساد الأذواق وانحطاط الإحساس وتدني المشاعر.

وخلاصة القول أن كل فن وإبداع لا تناقض صورته الحياء، ولا يحرض مضمونه على المعصية، ولا يدفع الفرد والمجتمع إلى التبذل والبذاءة واللهو والخلاعة، ويهبط به إلى الوضاعة والحقارة، ويزين له اللغو والسفسطة والسخافة فهو مباح، وقد أكد هذا الرأي من الفقهاء المعاصرين عبدالمتعال الصعيدي ومحمد الغزالي وعلي عزت بيكوفيتش ويوسف القرضاوي (قبل عثرته).

وإذا ما انتقلنا إلى الفكر الأوروبي في العصر الحديث سوف نجد عصبة من الكتاب والفنانين يرفعون شعار علمانية الفن، منتصرين بذلك إلى حرية الإبداع من جهة ورفض الإلزام في كل صوره من جهة ثانية والنظر للعمل الفني على إنه موضوع مستقل بذاته وأن الجمال أقرب إلى العلم منه إلى النزعات والاتجاهات الفلسفية والاجتماعية والدينية من جهة ثالثة؛ وأضحى الالتزام الذي يعبر عن قناعة المبدع هو المعيار الأوحد لصدق العمل الفني. ثم جاء كانط ليؤكد استقلالية علم الجمال عن أي سلطة خارجية عن الشكل أو المضمون؛ ومع بدايات القرن التاسع عشر ظهر مصطلح آخر هو الفن للفن على يد يوهان جوتة وأوسكار وايلد ثم ت. س. إليوت، وكان يرمي أيضًا إلى التخلص من الإلزام الاجتماعي والعقدي والأخلاقي، وبيّن أنصار هذا المصطلح أن الأدب والفن غاية في ذاتهما وليسا وسيلة للتعبير عن الأحاسيس والمشاعر أو آلية لإصلاح المجتمع. أما "جورجي بليخانوف" فقد رفض نظرية الفن للفن من أساسها مؤكدا أن أنصارها أرادوا عزل القيمة الجمالية عن الفن، فلم ينتجوا إلا رؤى شاذة وتصورات متطرفة لا تقوى على الوجود، وقد نحى نحو كل النقاد الاشتراكيين والماركسيين من أمثال "سان سيمون" و"لا مارتين" و"هوجو" الذين بينوا أن كل أدب وفن لا يأخذ في اعتباره نواحي الكمال والنصح بالأخلاق والمثل الأعلى والمصلحة العامة، بالاختصار هو أدب مريض يولد ميتا؛ فقد ربطوا بين علم الجمال والوعي الاجتماعي ونظروا للفن على إنه يحمل بين طياته رسالة نقدية وإصلاحية وثورية ترمي إلى إسعاد المجتمع، وكيف لا؟ فالفن هو مرآته التي تعكس همومه ومشكلاته وتدفعه إلى تحقيق آماله وطموحاته. وأضاف جيلبرت موراي أنه يجب على الفن الاضطلاع بوظيفة اجتماعية وسياسية وأخلاقية ترمي إلى تقدمه ومنفعته. أما سارتر فرفض الفصل بين الجمال الفني والقيمة وأكد في الوقت نفسه مع "ألبير كامي" جدلية العلاقة بين العمل الفني والمجتمع بكل ما فيه من حيث التأثير والتأثر. وأوضح جورج جادامير أنه من العسير فهم أي عمل فني وتحليل مقاصده وفك رموزه بمنأى عن الثقافة التي لفظته. وقد أكد جل هؤلاء أن انحيازهم لنظرية الفن للمجتمع وإعلائهم لقيمة الإلزام الخلقي لا يعني أبدًا استحالة الفنانين والمبدعين إلى آليات لخدمة المجتمع أو الترويج للسائد من الأفكار والقيم والتنازل عن قناعتهم والتضحية بحريتهم في الإبداع من أجل صوت الجماهير، بل على العكس من ذلك تمامًا إذ جعلوا التزام الفنان والأديب والمبدع ضمير عصره والمدافع الأول عن صوالح أمته ومشخصاتها وهو أيضًا الحامي للقيم الإنسانية بمنأى عن التعصب الملي والعرقي، أي أن القيمة الجمالية لا تخضع لسلطة أخرى بقدر إعانتها وتضامنها مع المبادئ والقيم الخيرة التي تعمل لصالح الإنسانية من جهة والارتقاء بالأذواق والمشاعر من جهة أخرى.

ووسط هذا الزخم النقدي والتناظر الحاد بين أنصار الفن للفن، والفن للمجتمع، طرح النقاد قضية جديدة ترمي إلى فصل علم الجمال عن كل ما هو ثابت، وذلك بحجة أن عين الفنان المبدع تتغير من ثقافة إلى أخرى ومن عصر إلى عصر في إدراكها للجمال ويتبع ذلك شعور المتذوق والناقد أيضا؛ وعليه فلا يمكنهم ربط الجميل بالمقدس والجليل، لأن مثل ذلك الربط ضد سنة الكون في التطور وتحولات الواقع وحرية المبدع ومن ثم لا يرى أنصار هذا الاتجاه وعلى رأسهم "إمبرتو إيكو" أي غضاضة في وصف القبيح بالجميل والشر بالخير تبعًا لقاعدة النسبية في تقييم الأشياء (وفي الماضي كان الرومان يتلذذون برؤية الوحوش الضارية وهي تلتهم المسيحيين الأوائل ولم ينظروا إلى هذا الفعل العنيف الوحشي على أنه جريمة أو شر أو قبح، وكذا مقاييس الوسامة والرشاقة فهي تختلف من ثقافة إلى أخرى) ومن هذا السبيل يمكن النظر إلى الأعمال الفنية المختلفة بنظرة محايدة من حيث قيمتها الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، ثم تقييمها بمقتضى الانطباعات الشخصية وأحاسيس وشعور الفنان المبدع الذي لا يُسأل في العمل الفني سوى عن صدق التزامه وعمق إبداعه. وقد ترتب على ذلك ذيوع ما نطلق عليه شعار حرية الإبداع.

وللحديث بقية 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز