عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
فن بلا حياء وحرية بلا أخلاق

فن بلا حياء وحرية بلا أخلاق

بقلم : د. عصمت نصار

إن أوجه الاعتراض على سلطة الإلزام الخلقي تجاه الفن لم تقابل بترحاب، ليس من قبل المحافظين من رجالات الدين وعلماءه فحسب، بل من القائمين على التربية والتعليم وعلماء النفس والاجتماع والنقاد المعنيين بدراسة الأعمال الفنية أيضًا. وحجتهم في ذلك أن الحرية التي ينشدها المبدعون ليست مطلقة شأنها في ذلك شأن سائر أشكال الحريات التي تمارس على أرض الواقع, وإذا كان نقيض الحرية هو الكبت والقمع وسجن الأفكار وفرض القيود على الملكات فإن خطر الفوضى أعظم بكثير على ذوق الفرد وسلامة المجتمعات وبنية الثقافات ومشخصاتها؛ وإذا كان الالتزام الخلقي يجب أن ينبع من داخل الفنان المبدع، فلما لا يكون هذا الالتزام محاط بضوابط أخلاقية نابعة من وعي الفنان ولا تتعارض في الوقت نفسه مع حريته، فطالما أكد "هايدجر" على أن حرية الفن لا تستقيم بمعزل عن الوعي. وقد ذهب التربويون وفلاسفة الأخلاق المعاصرون إلى إنه يجب التمييز بين الفنون الراقية التي تستحق الوصف بالجمال من جهة، والصنعة الفنية التي لا تعبأ بأثر ما تنتجه من أعمال على الذوق العام والأعراف السائدة من جهة أخرى، مبينين أن أفلام العري والقصص والمسرحيات التي تجترئ على الأديان ومشخصات الهوية القومية وتهزأ من الأبطال والقادة والشخصيات التي احتلت في الوجدان الجمعي مكانًا راقيًا وتستخدم ألفاظ القدح والشتم في تعليقاتها النقدية ورسوماتها الكاريكاتيرية، لا يمكن وصفها بأنها فنون جميلة، فالبذاءة والقبح والتدني وغيرها من الرذائل التي يتعمد بعض الاحترافيين إبرازها في أشكال فنية براقة ومضامين تناقش قضايا ساخنة بمنحى شاذ، لا يمكن وصفها بأنها إبداعات فنية راقية؛ فما القيمة التي يحملها الرقص الذي يتعمد القائمون به في إبراز مفاتن المرأة ليثير الشهوات والغرائز، وما فائدة الخوض في تفاصيل ما يحدث على المخادع في الأغاني والأعمال الروائية، وما الفائدة من تعظيم مكانة البلطجية والأشرار والمفسدين في الأعمال السنيمائية والمسرحية والتمثيلية بالإضافة إلى تيئيس المتلقي من معالجة المشكلة أو إصلاح ما فسد أو تغلب الشر على الخير، بحجة تجسيد الواقع والتعبير عنه والتحريض على الثورة لتغييره متجاهلين الأثر السلبي الذي يقع على النشء والإحباط الذي يثير المشاهد وتفشي ظاهرة العنف بين المقلدين من الشباب.



وقد حظر أفلاطون، وجان جاك روسو، والناقد الفرنسي فردناند برونتير (1849-1906م) من تجاهل أثر الأعمال الفنية على الفرد والمجتمع والانتصار إلى التذوق الفردي والرؤى الخاصة، الأمر الذي دفعهم إلى تقييم الأعمال الأدبية والقيم التي تحملها المنتجات الفنية والصور الإبداعية من زاويتين، أولهما مفهوم الجميل باعتباره جنس تتولد عنه العديد من الأنواع التي تحمل خصائصه الرئيسة، وثانيهما الأثر الذي تخلفه تلك الأعمال على المتلقي. ويضيف الأخير أن المحاسن لا تتضح أو تفسر إلا بأضدادها وعليه يمكن أن تنطوي الفنون ذاتها على ما يمكن وصفه بالبذاءة، غير أن عين الفنان المبدع تلقي الضوء على هذه البذاءات أو إن شئت تلك الملوثات لفضح حقيقتها وليس لهدف قيم أخلاقية بعينها وعلى ذلك فينبغي علينا الفصل في ميدان النقد بين المبادئ الأخلاقية وانطباع علماء الأخلاق والتربية تجاه الأعمال الفنية. ويضيف معظم الواقعيين أن الفنون ليس في إمكانها تجاهل القبح أو الشرور لأنها موجودة في الواقع ومن ثم يجب الحديث عنها، فالأصوب القول بأنه لا ينبغي على الفنون التحريض على تلك الملوثات أو هاتيك الرذائل وذلك بعد التأكد من أثرها السلبي على الفرد والمجتمع، مثل السرقة أو القتل أو الخيانات الزوجية أو الكذب والاحتيال؛ فإذا كان المتلقي يستمتع بجمال جسد المرأة والقبلة التي تعبر عن الدفء العاطفي، فلا ينبغي على الفنان المبدع الانصراف إلى تصوير العري والتمادي في فضح ما سوف يحدث بعد القُبلة ولاسيما في أفلام البورنو والإسقاطات التي تحملها، وذلك لأنه ينتقل من التعبير عن القيمة إلى الوصف المحسوس الذي لا غرض منه سوى الإثارة. غير أن بعض النقاد ينزع إلى أن الفن ليس تابعًا أو خادمًا للأخلاق أو مسئولا عن تربية المجتمع أو ترسيخ المعتقدات الدينية، فالفنان ليس مسئولا إذا ما أحب أو تأثر المتلقي بصورة الشيطان أو أعجبت الفتيات بسلوك الغانيات أو افتتن الشباب بصور المغامرين وأبطال الروايات ومعاركهم الدامية. فإن المحاذير التي ينادي بها الأخلاقيون تريد أن تحول الفنان إلى واعظ من فوق منبر الفضيلة. ويذهب التطبيقيون إلى أن الالتزام الخلقي الذي يدين به المبدع لا يكفي ليصبح هو المعيار الأوحد للحكم على تلك الأعمال التي ينتجها ثم يعرضها ويسوقها ويبيعها للجمهور، فهناك شروط للصلاحية يجب على المبدع الانصياع لها لكي يسمح له المجتمع لنشرها أو إذاعاتها حتى لا يفسد المجتمع من جراء تعاطيه لملوثات الذوق. فمن غير المعقول السماح لانتشار الأعمال التي تروج للأفكار الهدامة مثل (العنصرية والأنانية والاستبداد والإباحية والصراع والتشاؤم والتواكل والاغتراب والانتحار وازدراء الأديان وجحد المشخصات). ولكل مجتمع الحق في معايير للصلاحية حفاظًا على أمان المجتمع والذوق العام معًا. فإذا كان "بقراط" قد وضع قدرة إبعاد الضرر ومحاربة المرض من أوائل المهام والمؤهلات التي لا غنى عنها لمن يرغب ممارسة مهنة الطب وعلاج المرض، فإننا لا ينبغي علينا استنكار الدعوات التي تنادي بمنع المبدعين من إنتاج معاول لهدم قيم المجتمع أو وضع السموم في الخبز وخلط الهروين بلبن الأطفال باسم الحرية. فإذا كنا نعتبر التعليم مهنة لها آداب وصلاحيات وأخلاقيات، فكيف ننظر إلى الفن بعين مغايرة، مع أن الأعمال الفنية لها نفس الأثر -أو يزيد- عن تلك الدروس والمهارات التي تقدم في دور العلم.

وعندي أن المشكلة سوف تظل قائمة بين المعايير الإلزامية التي يفرضها المجتمع على الفنانين والمبدعين من جهة، وقناعات المبدع التي يلتزم بها في أعماله التي تعبر عن حريته واستقلاليته من جهة أخرى. وأعتقد أن الحل يكمن في أمرين: أولهما التفرقة بين المبدع الحقيقي والمدعي الحرفي أو المقلد، فالحرية ليست هبة أو منحة تُمنح وتُمنع بل هي حق لا ينادي به إلا الوعاة الأيقاظ، وثانيهما تعدد مستويات الخطاب بالقدر الذي يجعل الأفكار الجانحة الناقدة للمألوف، والرؤى الثورية الداعية للتغيير، والآراء الإصلاحية الساعية للتقويم، أقرب إلى اللغة الرمزية ليستقبلها المثقف الواعي القادر على التمييز بين الدلالة والرمز والمعنى والمقصد. وبذلك تتحقق الغاية من الخطاب الإبداعي المتجسد في العمل الفني، ويتجنب المبدعون بذلك شبهة الإجتراء ونقد الثوابت والمشخصات التي تدين بها الثقافة السائدة والعقل الجمعي.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                              

أما الأعمال الفاسدة التي لا يصدق على مضمونها أو شكلها صفة الجمال أو الفن، فينبغي القضاء عليها شأن الملوثات والنفايات والأجنة المشوهة والجراثيم الضارة والأوبئة المهلكة.

وأخيرا لم يتبقى لنا سوى مناقشة علة وجود أعمال فنية بلا حياء وحرية بلا أخلاق؟ أعتقد إن علة ظهور مثل ذلك الفصام يرجع في المقام الأول إلى عدم وجود النظام وسيادة التناقضات والاضرابات في شتى نواحي الحياة، أي في بنية الثقافة، فإذا كان الانسجام والانتظام هما اللذان يميزان الفن عن غيره فإنهما أيضا علة وجود الجميل وفي غيابهما يتفشى القبح ويختفي الحياء. وفي ثقافتنا العربية المعاصرة خير مثال على ذلك؛ فقد عانى المجتمع العربي من ثنائيات حالت بينه وبين الشعور بالانسجام والانتظام (الامكانيات والطموحات، الواقع والوهم) وذلك في ظل تزايد الفروق الطبقية وانسحاق الطبقة الوسطى وغيبة المنابر التثقيفية وتصارع المتطرفين وغيبة الوعي والشعور الجمعي وفساد الأذواق وانحطاط القيم؛ ذلك بالإضافة إلى المخططات الغربية التي ما زالت تسعى إلى إفساد المجتمع العربي وثقافته بالقدر الذي لا يمكنها من النهوض ثانية.

ولا أشك في إن هذا الرأي لا يروق للكثيرين الذين يرفضون نظرية المؤامرة ويتهكمون على الدعوة لإحياء النفيس من مشخصاتنا وعوائدنا، ولا يسعني إلا أن أسوق إليهم هذه الحقائق؛ أن الكتابات الشاذة والرؤى الجانحة والأعمال الفنية الإباحية هي التي تلقى رواجًا أو تقابل بالمدح والثناء من المحافل الغربية وذلك لتشجيع هذا الدرب من الإبداع للاستمرار والنماء، أضف إلى ذلك أن المواقع الإباحية قد تعمدت منذ نشأتها على تخصيص جانب كبير من خطاباتها إلى المجتمعات التي تعاني من ضعف القيم وتشتت الوعي وعلى رأسها المجتمعات العربية، فقد خصصت أفلامًا جنسية يقوم ببطولتها المحجبات والمنتقبات ومرتديات زي الرهبنة بالإضافة إلى مجموعة أخرى من الأفلام ترغب في زنا المحارم ومجموعة ثالثة تنشر فيها فضائح بعض المشاهير؛ والغريب في ذلك كله أن هناك مئات الأفلام قد صُورت وأُنتجت داخل البلدان العربية وبأبطال عرب. ناهيك عن الأثر الذي تخلفه تلك الأفلام وما فيها من خداع وإبهار ولذة حسية على سلوك جل أفراد المجتمع، الأمر الذي ظهر بوضوح في الكثير من الظواهر التي لم تكن موجودة من قبل على نطاق واسع مثل التحرش وزنا المحارم والخلافات الجنسية بين الأزواج وتعاطي المخدرات والإقبال على المنشطات الجنسية بالإضافة إلى تزايد أعداد الشواذ من الجنسين.

وأعتقد أنني لن أكون واعظًا في دعوتي لإحياء فضيلة الحياء، ففيها الإصلاح المنشود ولا يستقيم بدونها الدعاء والرجاء ولا العقوبات والمصادرة لرفع ما نعانيه من بلاء.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز