عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
مفهوم المراجعة وحاجتنا لتطبيقه

مفهوم المراجعة وحاجتنا لتطبيقه

بقلم : د. عصمت نصار

لم يشغل مصطلح المراجعات الفلسفية موقعه -الذي يستحقه- على مائدة البحث الفلسفي، ولم تدرجه معظم المعاجم المتخصصة ضمن موادها. وذلك على الرغم من عنايتها بالمصطلحات التي انبثقت منه أو احتواها في جوفه؛ مثل الشرح والتفسير والتأويل والتأكد من سلامة أسس المناهج وكذا الرؤى النقدية للقراءات المعاصرة. فجميع تلك المصطلحات لا تعدو أن تكون ماصدقات لمفهوم المراجعة.



فقد نزع النهضويون والمجددون من الفلاسفة بداية من "هيرقليطس" إلى "جاك دريدا"، إلى أن القيمة الحقيقية للعقل تكمن في قدرته على المراجعة الحرة بمنأى عن السلطات السابقة التي حددت معاني الكلمات وفسرت العبارات وأولت النصوص ووجهت القراءات. فإن العقلية الناقدة المبدعة هي وحدها القادرة على المراجعة. لذا نجد فرنسيس بيكون وديكارت يناشدان العلماء ضرورة تطبيق آلية المراجعة لاختبار معارفهم ومشاهداتهم.

وقد ذهب التجريبيون بداية من جابر بن حيان، وابن الهيثم، وإخوان الصفا، ثم فرنسيس بيكون إلى ضرورة مراجعة ما علق في الذهن من معارف وأخبار ومعتقدات قبل أن نشرع في تأسيس المعرفة العلمية على أسس حقيقية مستمدة من الواقع. فالعقل البشري أشبه بالمرآة التي لا تقوم بوظيفتها كاملة إلا إذا تم صقلها صقلاً تاماً حتى تزول عنها الأوساخ ثم توجيهها التوجيه المناسب نحو الضوء، الأمر الذي يمكنها من ظهور الشيء المراد رؤيته ظهورا كاملا على سطحها؛ وهذا ما ينطبق على العقل إذ يجب أولاً أن يبدأ الإنسان بتطهير عقله مما علق به من أوهام تعوق تفكيره السليم حتى يمكنه التوجه نحو المعرفة اليقينية ثم يُمّكن العقل صاحبه من المعرفة الصحيحة بالفعل. وتكمن المراجعة في عمليتي تنظيف المرآة حتى لا ينعكس على سطحها أشياء غير موجودة في الواقع بفعل ما حاق بها من فساد، ثم مراجعة المعارف الذهنية المتوهمة التي اختزنها العقل دون تدقيق أو نقد أو شك. وصفوة القول أن المراجعة عند بيكون هي المدخل الرئيس الذي لا غنى عنه للوصول للحقيقة العلمية والآلية الأقوم لتنقية الذهن من أوهامه.

وإذا ما انتقلنا إلى ديكارت فسوف نجده يلح في جل كتبه (مقال في هداية الذهن، التأملات، ومقال عن المنهج) على ضرورة مراجعة المعارف الذهنية التي اختزنها العقل من الموروث الثقافي أو المعارف الحسية أو المقولات الذهنية غير المتسقة، وذلك عن طريق الشك في مصداقيتها ثم نقد سياقاتها. وذلك عن طريق خطوات أربعة أولها عدم قبول الغامض والملتبس والمعتم من المصطلحات والأفكار والمعتقدات، وقبول ما هو واضح ومتميز بذاته أي بديهي، ثم تحليل مضمون ما سلمنا بصحته من الأفكار، ثم إعادة ترتيبه، وأخيرا مراجعة ما استقر العقل على صحته من حيث الشكل والمضمون ثم إحصاء الأفكار الصحيحة وإدخالها ثانية للذهن باعتبارها معارف معقولة وأقرب إلى اليقين منها إلى الشك. فيقول ديكارت في كتاب هداية الذهن "لا أستطيع عندما يكون لدي سلسلة من الروابط أن أحدد بدقة إذا كنت أتذكرها كلها، لذلك يجب علي أن أعيد النظر فيها مرات عدة بحركة متصلة من حركات الفكر حتى إذا تصورت إحداها بالحدس والبديهة انتقلت منها إلى غيرها وهكذا إلى أن أتبين كيف يمكنني الانتقال من رابطة إلى رابطة بسرعة لا تدع مجالا للذاكرة فأحصل بمثل هذا على حدس للكل في وقت واحد". ويقول في كتابه مقال عن المنهج، عن القاعدة الرابعة "أن أعمل في جميع الأحوال من الإحصاءات الكاملة و المراجعات الوافية ما يجعلني على ثقة من أنني لم أغفل شيئا يتصل بالمشكلة المعروضة للبحث". ويحدثنا في كتابه التأملات، عن المراجعة باعتبارها ملكة ناقدة قادرة على الاستقصاء والتحليل والوصول إلى الحقائق متسقة الأجزاء، وتكشف في الوقت نفسه عن علة الأخطاء التي يمكن للذهن أن يقع فيها بفعل السلطات السائدة أو المعارف الزائفة. ويضيف أن عملية الإثبات أو النفي والحكم على الأفكار التي يحويها الذهن لا يمكن وقوعها إلا بإرادة حرة، فيقول "لكي نثبت أو ننفي الأشياء التي يفرضها الذهن علينا ولكي نقدم عليها أو نحجم عنها، إنما نتصرف بمحض اختيارنا دون أن نحس ضغطا من الخارج يملي علينا ذلك التصرف".

والخلاصة أن ديكارت لم ينظر لقاعدة المراجعة على إنها آلية للتأكد من صحة خطوات منهجه، بل كانت نظرته أشمل وأوسع إذ جعل المراجعة الركن الرئيس لإثبات صحة الحكم والاستنتاج والاستنباط وإزالة اللبس والغموض من مفاهيمنا وأذهاننا، وذلك إذا ما توفر فيها ثلاث خصائص هي: الأناة والروية، الشمول والإحاطة، النظام والترتيب.

وإذا ما انتقلنا إلى معنى أخر من معاني المراجعة ألا وهو الشرح، فإننا سوف ندرك أن معظم الكتب التي أُدرجت في هذا الباب لا تخلو من الجدة والأصالة والابتكار فلم تكن مجرد كتب مفسرة أو راصدة للمعاني والدلالات بل كانت مقوّمة ومنقحة وحاوية لوجهة نظر الشارح فيما تحمله من رؤى وأفكار ومعارف، وأقرب الأمثلة على ذلك كتاب الشكوك على جالينوس لأبوبكر الرازي، وكتاب الشكوك على بطليموس للحسن بن الهيثم، وشروح ابن النفيس لكتب ابن سينا، وشروح ابن رشد لكتب أرسطو.

أما المراجعات بمعنى التأويل فيمكننا التماسها في كتابات فيلون السكندري في مراجعته لنصوص التوراة ومحاولاته حل العديد من المشكلات اللاهوتية عن طريق التأويل الرمزي؛ وكذا كتابات هيدجر عن التأويل باعتباره أداة للوصول إلى معنى الفهم ووضع المعايير للفهم الصحيح للألفاظ والمعاني والدلالات في ضوء الواقع المعيش.

ولا يخرج التحقيق والقراءات النقدية عن كونهما بعض ثمار المراجعة، فإن في تحقيقاتنا للنصوص التراثية يعمد العقل إلى التحري والدقة وإعمال الذهن في استجلاء المعاني والدلالات الخفية، ويقوم بفحص الوقائع والأحداث لتقويمها وتأصيلها ثم يقوم بعرض مضمون النص وشرح أبعاده الثقافية وتوضيح أهميته في الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه ثم تبيان مدى أحقيته في الإحياء ثانية. أما القراءات النقدية على تشعباتها المعاصرة لا تعدو أن تكون إبداعا يعبر عن وجهة نظر المتلقي وليس مجرد تلخيصا لمحتويات المقروء وأفكاره ومضامينه.

وصفوة القول إننا أحوج ما نكون لتفعيل مصطلح المراجعة، ليس في دراساتنا الفلسفية والعلمية فحسب بل في جل نواحي حياتنا، بداية من الموروث والمقدس إلى ما نعتقد في صدقه من أخبار وتفسيرات للأحداث والمواقف، وذلك إذا ما أردنا إصلاح ما نعانيه من فساد في الأذواق والقيم وأكاذيب في الأقوال والأخبار وضلالات في الفتاوى والأحكام واستبداد في التصورات والرؤى. 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز