عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
بين العلمانية والإلحاد في الثقافة العربية

بين العلمانية والإلحاد في الثقافة العربية

بقلم : د. عصمت نصار

 تخلط العديد من الكتابات العربية بين مصطلحي العلمانية  (Secularization)والإلحاد (Atheism) إلى درجة الترادف، وقد انعكس ذلك الخلط في أحكام النقاد والمحللين على جل الاتجاهات والخطابات والمواقف التي حملتها مصنفات النهضويين العرب في مصر والشام وتونس والعراق منذ أخريات القرن الثامن عشر.



وأعتقد أن علة ذلك الخلط يرجع إلى جهل أو تجاهل بعض النقاد لحقيقة البنية العقدية والفلسفية التي لفظت المصطلحين، ذلك فضلا عن إهمالها الأشكال المتباينة والبواعث الخاصة والسياقات التي ورد فيها مصطلحي الإلحاد والعلمانية. فإذا نظرنا إلى مصطلح الإلحاد التام فإننا سوف نجده يدل على نقض وإنكار كل ما نصفه بالقداسة وكل المعارف الغيبية التي وردت في الأديان؛ أما العلمانية بوصفها أيدولوجية ووجهة فلسفية مادية فإنها تعبر عن فصل الدين عن كل شئون الحياة وإخضاع المقدس لدائرة النقد شأنه في ذلك كل المعارف التي يختزنها العقل أو يتلقاها عن طريق الحواس والتجربة.

وإذا كان للإلحاد أشكال تجمع بين الإنكار التام للألوهية ونقد ما نطلق عليه الثابت والقطعي من الأمور العقدية، فإننا نجد كذلك أشكال عديدة للعلمانية تجمع هي الأخرى بين الفصل التام بين الدين من جهة والأخلاق والسياسة والاقتصاد والعلم والاجتماع من جهة أخرى، وكذا حصر الدين في دائرة الأخلاق دون الفلسفة والسياسة والعلم ورفض كل المحاولات التلفيقية أو التوفيقية بين الدين وهذه الدوائر الإنسانية.

وقد درج الكتاب المحافظون –في الثقافة العربية مسلمين كانوا أو مسيحيين- الجمع بين تهمة الإلحاد والعلمانية والتغريب في سياق واحد، ووصفوا بها كل من يخالف الموروث الثقافي بعامة، أو من يقترب –بعين النقد- من المعتقدات (بكتب التفسير والفقه والسيرة والحديث والفرق) بخاصة، أو نصوص الكتاب المقدس وشروح الكهنة والمعلمين على وجه الخصوص.

في حين اجتهد المحافظون المستنيرون بداية من حسن العطار وتلاميذه، ومحمد عبده ومدرسته، وأحمد لطفي السيد ورصفاؤه من الليبراليين، في توضيح الفارق بين الإلحاد والفلسفات المادية والنزعات اللاأدرية والكتابات المشككة في العقيدة والطاعنة فيها من جهة، ومصطلح العلمانية الذي يحمل في جوفه أسس المدنية ومبادئ العمران وقواعد العلم من جهة أخرى. وميزوا كذلك بين الفكر الديني الموروث، وأصول العقيدة والثوابت الشرعية والقطعي من أحكامها وظني الدلالة من نصوص الآيات والأحاديث. وذلك كله في مشروعهم للتجديد والتحديث وتحرير العقل من قيد التقليد والفصل بين الشريعة ومقاصدها واجتهادات المفسرين والفقهاء والمؤرخين لإنهاض الأمة الإسلامية من كبوتها. وقد سلك مسلكهم بدرجات مختلفة خيرالدين التونسي، وأحمد فارس الشدياق وحسين الجسر في بلاد الشام، وعبدالقادر الجزائري، وعبدالرحمن الكواكبي؛ ومن النهضويين المسيحيين نجد: بطرس البستاني، وسعيد الشرتوني، وجورجي زيدان، ويعقوب صروف، وفليكس فارس. فجميعهم حاول إقناع العقل الجمعي ومثقفي الطبقة الوسطى -المسئولين عن تربية الرأي العام-، بأن كتاباتهم عن العلم والمدنية وحرية المرأة ونبذ الطائفية والتسامح بين الأديان واقتباس النظم الحديثة من الغرب والدعوة لحرية الفكر لا تتعارض مع جوهر الدين ولا الأصيل من المعتقدات الموروثة والمشخصات الحضارية، بل مع الفكر الديني السائد وكتابات الرجعيين من القساوسة والشيوخ.

  وعلى مقربة من هؤلاء نجد طه حسين، وعلي عبدالرازق، وأحمد ذكي شيخ العروبة، وعبدالمتعال الصعيدي، وخالد محمد خالد، ومحمد حسين هيكل، وغيرهم من المجددين الذين أعملوا العقل في الموروث الثقافي قد اُتهموا بالعلمانية والإلحاد والتغريب، وهم في الحقيقة يمثلون الجناح اليساري الحر من الاتجاه المحافظ المستنير، وذلك لأن اعتراضاتهم ونقداتهم لم تكن ضد الدين ولم تشكك في قطعي الثبوت والدلالة ولم تنكر الألوهية أو النبوات والكتب المقدسة وما ورد فيها من غيبيات ولا المعجزات.

أما الاتجاه العلماني التغريبي في الثقافة العربية فهو المناهض الأول للاتجاه المحافظ التقليدي (أو إن شئت قل السلفي الحديث)، وينقسم بدوره إلى عدة تيارات متباينة في المنطلقات ومتوافقة في المقصد، فنجد على سبيل المثال شبلي شميل، وفرح أنطون، وسلامة موسى، وجميل صدقي الزهاوي، وحسين فوزي السندباد، ومحمود عزمي، وإسماعيل أدهم، يجمعون في آرائهم بين الإلحاد والعلمانية والتغريب بدرجات متفاوتة، ويتمثل ذلك في تصريحاتهم المجترئة على الثقافة العربية الإسلامية وانتصارهم للعقل والفلسفات المادية والنظم والسياسات الغربية، غير عابئين بثقافة العقل الجمعي ولا السلطات المعارضة لخطاباتهم.

ونجد من بين العلمانيين من تأثر بالنزعات النقدية الأوروبية تجاه الموروث مثل أديب إسحاق، ومنصور فهمي، وإسماعيل مظهر، وشاهين مكاريوس، وفارس نمر، وفتح الله مرّاش، وعبدالحميد الزهراوي، وجلال العظم، وعصام الدين حفني ناصف، وجلهم اُتهم بالعلمانية والتغريب وذلك على الرغم من أن نقودهم واعتراضاتهم كانت موجهة –في المقام الأول- إلى الفكر الديني وليس وحدانية الله أو الشرائع السماوية، فمنهم من أراد فصل الدين عن الدولة أو إعمال العقل في الكتب المقدسة وتنقيتها من التحريف، ومنهم من شكك في كتب السيرة أو كتب التفسير التي تتعارض مع الحقائق العلمية.

أما الاتجاه الأخير فيمثله أمين الريحاني (1876-1940)، وأحمد ذكي أبوشادي، فكلاهما تأثر بالفلسفات الروحية والكتابات الصوفية، غير أن نقداتهما للثقافة السائدة -وما أصابها من جمود وتخلف ورجعية، ذلك فضلاً عن التعصب العقدي والطائفي والاستبداد السياسي والجور الاجتماعي والاعتداء على الحريات باسم الدين ومعاداة العلم باسم المقدس- قد قادهما إلى الطعن في الثوابت العقدية والاجتراء على التعاليم الدينية والمطالبة بفصل الدين عن شئون الحياة (التعليم والتربية، العلاقات الاجتماعية، الشئون السياسية)، ونادا بحرية الفكر والاعتقاد والنقد، وروجا للنزعة الثيوصوفية في الثقافة العربية. وقد رفع الأول شعار القومية العربية وجعله الأساس لوحدة الأقطار العربية، ونقض في الوقت نفسه كل مظاهر الطائفية والتعصب الملي والربط بين العروبة والإسلام وكل محاولات التوفيق بين ما انتهى إليه العلم وما ورد في الكتب المقدسة، وأفسح المجال للعقلانية والنقد إلى درجة أنه صرح برغبته في إقامة الدين على أسس علمية وليس معتقدات غيبية أو ميتافيزيقية.

وعلى الرغم أن كليهما لم يتخصص في الدراسات الفلسفية ولم يتخرج في كلياتها إلا أنهما قد تأثرا بمعظم فلاسفتها العقليين والوضعيين والماديين، بالإضافة إلى تصورات الماسونية للعالم ودعوتها للحرية والعدالة والإخاء بين البشر.

وللحديث بقية

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز