عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
أسباب للفرح

أسباب للفرح

بقلم : د. عزة بدر

الكرسى يبدو ملكيا فعلا , ظهره منجد بالقطيفة الحمراء التى تتخللها زخات من رياش مموهة الأطراف باللون الأسود المُذهب , تاج الكرسى مزين بسلال من الورد البارز المنقوش مطعمة بسيوف صغيرة تلمع فى ضوء الشمس , يدا الكرسى مطوقتان بتكايا من القطيفة أكثر دُكنة من ظهر الكرسى ومقعدته . , وكان عم أحمد الفاكهى هو الجالس متربعا على الكرسى وسط صناديق الفاكهة المرصوصة , كان يبتسم لحبات الكمثرى , ويمرر مشمشات راعشة على خده ثم يوشوش حبات البلح , يقسم البلحة نصفين فإذا بان له الداخل البيض الحميم همس بكلام كثير من الصعب أن أتبينه .



كان المشهد ساحرا .. عم أحمد جالسا على كرسى مَلَكى من بقايا القصور القديمة كأنه خارج لتوه من سراىّ أجبرت على الإخلاء ثم الهدم قسرا ! .

نظرت إلى الكرسى وقد حلا فى عينى , أبهته , حواشيه

تاجه , مساند ذراعيه , فكرت أن أشتريه منه بأى مبلغ يطلبه .. تريثت قليلا بعد أن انتقيت حبات من الكمثرى وأخرى من التفاح ثم أشرت إلى سباطة الموز الضخمة
فقام ليقتطع منها ما أشرت إليه , اختلست النظر إلى الكرسى الخالى , وأنا أتخيله فى هذا الركن النائى من حجرتى , ومن فوقه ثريا صغيرة ذات ضوء بهى , تخيلت يدى على المساند الملكية , وأنا أرتدى فستانا حريريا , وأضع ساقا على ساق , وفى قدمى خفين مشغولين بالخز والترتر , وفى يدى صولجان أضعه على يد الكرسى , وبجانبى شمعدان شمعاته باكيات
تحت وطأة سهرى الليلى حتى الصباح .

محاكمات كثيرة سوف أجريها من فوق هذا الكرسى .. ربما أصدر أحكاما بالفراق على عدد من عشاقى , وقرارا واحدا بالعفو لأسباب صحية على أحدهم ثم أطلق النفير ليستيقظ كل من فى البيت  , الأحياء والموتى :

خالتى فاطمة التى علقها زوجها حتى اليوم ,  منذ عشرين عاما وهو فى بلاد الخليج  , يعدها كل عام بزيارتها أو اصطحابها معه ثم لايأتى , سمعت بزواجه من أخرى فتسمرت على مقعد متحرك .
جارتى وردة التى داهمتها نوبة ربوية , وزوجها كان يعرف أن اسطوانة الأكسيجين الخاصة بها فارغة نبهناه إلى ذلك فقال : " أن مخزن أنابيب الأكسيجين قريب , انحنيت رويدا رويدا لأمنحها قبلة الحياة كما يفعلون مع الغرقى فقال زوجها أنى قتلتها بزفيرى ! .
محاكمات عديدة , وملفات ضخمة  ذات أوراق كثيرة كان علىّ أن أردفها بقرارات حاسمة , الرجل الذى دأب على مغازلتى فى الهاتف .. قبلاته التى تندفع من سلك الهاتف كاندفاع رشاش الماء من دش البانيو , الأرض التى تغص بقبلاته , وتشرق وتسعل سعالا متواصلا , سماعة الهاتف التى ألقيها غاضبة على فم الهاتف ثم عودته معتذرا , ومقترفا نفس القبلات ! .
الرجل الذى علقنى من شعرى على شجرته عامين , يجرنى فى الليل من شعرى ويعلقنى على شجرته ويهمس : قولى  شكرا .. شكرا .. شكرا !
ثم يزداد صوته خفوتا : أحبك .. أحبك .. أحبك !
وبالأمس وجدته يعلق امرأتين من شعرهما على فرع الشجرة نفسها , ويهمس بنفس الطريقة , نفس الصوت والكلمات ! , وهن يبتسمن فى وله بينما عيناه تلمعان لمعة مخيفة وفمه يبتسم ابتسامة ساخرة وقاسية معا .
المرأة التى تتحين الفرص وتنظر من شباكها على حياتى  : أتراك ستخرجين يوم الأحد ؟ , وإلى أين تذهبين ؟
  ومع من ؟
  هل ذهبت لأمك ؟ , وماذا أكلت عندها ؟ !
هل حقا مازلت تحيضين ؟ ! ,
ألم أقل لك لاتذهبى بعيدا بهذه الألوان الساخنة  ؟!
المزيد من حبات الكمثرى , وإضافات من المشمش والمانجو التقطها عم أحمد باسما وهو يقول : مانجة "سينيه "  ماركة !
ملفات كثيرة مفتوحة .. أحكام بالهجر , وبالخصام  سأصدرها بمجرد جلوسى على الكرسى الملكىّ .
حملت أكياس الفاكهة على ذراعى كأطفال بلا والد , وسألت عم أحمد : من أين لك بالكرسى الفخم ؟
ابتسم حتى بانت نواجذه , قال : أعطاه لى رجل موسر لأجلس عليه فى العيد .
ابتعد حلمى بامتلاكه فالكرسى منحة .. عطية .. هبة ليس من اللائق أن أطلبه لنفسى .
بعد عدة أيام ذهبت لأتملى من الكرسى بحجة شراء الفاكهة رغم أن ماعندى لم ينفد بعد . ماركة ! .
ابتسمت وقبل أن يتوجه بسكينه لقطع الموز من سباطته هالنى المقعد الذى يجلس عليه , كان ممزق الحواشى قديما متسخا , الكرسى نفسه الذى كان يجلس عليه  منذ  عشرة أعوام على الأقل .
هالنى ذلك , .... هتفت : هل سرق الكرسى الأحمر
الملكىّ ؟ .

قال عم أحمد : لايمكن .. لا أحد يجرؤ على سرقتى هنا
عبرت عن قلقى , ولم أستطع أن أسأله : هل بعته ؟
لكنه طمأننى , قال : سيد حتة الكبابجى استأذننى أن يجلس عليه يومين ! .
قلت : إذن سيعود الكرسى إليك ثانية
قال : طبعا
بعد عدة أيام .. غاب الكرسى , وزادت أسئلتى
قال عم أحمد أن أم سعيد الخياطة طلبت الكرسى ليلة واحدة لتصور به ابنتها العروس وهى جالسة على ركبتىّ عريسها فابتسمت , وهمست لنفسى .. يستطيع عم أحمد أن يؤجره للأفراح والعرسان بالشىء الفلانى

دار الكرسى على مقاه عدة , ودكاكين , وبقالات , رجال المدينة ونساؤها تبادلوا الجلوس على الكرسى

اتكأ عليه باعة الذهب , وباعة الفضة , والباعة الجوالون بالفول الحراتى , والذرة المشوى , والتين الشوكى .

بالأمس وجدت الكرسى نفسه فى دكان المزين الرجالى ثم وجدته بعد ذلك عند الكوافير النسائى .

تم تداول الكرسى فى أكثر الطبقات شعبية , فى أكثرها فقرا , وكان عم أحمد سعيدا بأنه كان السبب فى كل ذلك الفرح الذى يعم المدينة , كان يبتسم راضيا وهو يقول : لو دامت  لغيرك  ماراحت لك , ولو دامت  لك  ماراحت لغيرك .. المُلك لله .

ثم يقوم إلى فاكهته فيقتطع منها , ويزيد مالى على كفة الميزان .

ويهمس : لا أحد يأخذ معه شيئا .

أبتسم بدورى .. أصرف النظر عن فكرة امتلاك الكرسى أو شرائه أو الإستئثار به .

كل محاكماتى ذهبت هباء ! , لم يعد بوسعى الآن أن أحاكم أحدا , ولا أن أضع يدى على الصولجان , ولاعلى مساند الكرسى , ولن أسند رأسى بالطبع على تاجه الملكى .

كان علىّ فقط أن أقص جدائلى من شجرة رجل الليل , وأن ألقى بالهاتف من النافذة , وأن أتردد كل يوم على عم أحمد لأشترى المزيد من الفاكهة , وأعرف كل مايتعلق برحلة الكرسى , والبسطاء , والفقراء , و الرجال والنساء , والعرسان , والعرائس ,

كل الذين اقتنعوا بأن يتركوا الكرسى عن طيب خاطر , لايستأثرون به , ولايمتلكوه.
 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز