عاجل
السبت 21 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
We
البنك الاهلي
رائد التنوير.. والتكفيريون

رائد التنوير.. والتكفيريون

بقلم : عاطف بشاى

ونحن نحتفل هذه الأيام بالذكرى الرابعة والأربعين لرحيل «طه حسين» التنويرى العظيم وواحد من مؤسسى النهضة الأدبية الحديثة والذى قاد مشروعًا فكريًا شاملاً ومكتملا، وخاض فى سبيله معارك ضارية ضد الاستبداد السياسي.. وضد الأصولية والجمود الديني، وفى مواجهة ردة حضارية وتخلف إنسانى واجتماعي.. لا بد أن نتأسى لأحوالنا الراهنة؛ وقد عادت السلفية الظلامية أدراجها تطل برؤوسها الكريهة محاولة أن تفرض سيطرتها، وتؤثر فى الشارع المصرى بنفس فتاواها السامة وتحجرها العقلى وغلطتها الإنسانية التى خاض «طه حسين» تحدياته  لاقتلاعها منذ عشرينيات القرن الماضي.. ولعل بيتًا من أدبيات شعر ركيك وعدوانى لسيكوباتى انطلقت بها حنجرته.. وهو عضو تكفيرى من أعضاء مجلس النواب.. مخاطبًا رئيس مجلس الوزراء «إسماعيل صدقي» مادحًا ومنافقًا قرار مجلس الوزراء بفصل د.«طه حسين» أفندى الموظف بوزارة المعارف العمومية من خدمة الحكومة التى كان قد نقل إليها من الجامعة بتاريخ (1933) وحرم بموجبها من منصبه الرفيع كعميد لكلية الآداب كعقوبة له عن تأليف ونشر كتاب «فى الشعر الجاهلي» (1926) والتى برأه منها النائب العمومى الأستاذ الشاب «محمد نور».. قال:
يكفيك أن أنقذت دين محمد من شر طغيان اللئيم المفسد لو أن شرع الله يجرى حكمه / لقضى بإعدام الشقى الملحد.. لكن عقوبة النقل تلك لم تشف غليل التكفيريين الظلاميين وقتها فانتهزوا فرصة اختيار الملك «فؤاد» لإسماعيل صدقى رئيسًا للوزراء ليحكم بيد من حديد.. وقد استهل هذا الحكم رافعًا شعار أنه سوف يجعل كل اثنين من الفلاحين يرتديان جلبابًا واحدًا.. وهو خطاب ذو توجه استبدادي.. إقطاعى يكشف عن تكريس لظلم اجتماعى بين.. ذلك بالإضافة إلى كبت حريات الرأى والفكر والتعبير.. وقدم المعارضون استجوابًا فى مجلس النواب لوزير المعارف بدأ بشكره لإنجازاته العظيمة لتحريم وتجريم الفنون..  وانتصارًا لوأد الإبداع.. وتدعيمًا لقوى التخلف والجهل.. وذلك بإغلاقه معهد التمثيل والرقص التوقيعى لأن بهما مساسًا بآدابنا العامة وتقاليد الدين.. ثم حدد الاستجواب الاتهامين اللذين ينسبهما للدكتور «طه حسين» أولهما : أطلعنا على صورة نشرت بجريدة الأهرام تمثل طلبة كلية الآداب بالجامعة المصرية حول عميدهم الدكتور «طه حسين» وقد جلست كل شابة إلى جانب شاب.. كيف وقع هذا؟!.. وكيف تستمر وزارة المعارف على عدم احترام الشعور الدينى والآداب القومية؟! 
(وجدير بالذكر أن هذا الاستجواب لم يعد واردًا أن يقدم الآن فى الألفية الجديدة فقد أعاد عمداء الكليات الفصل بين الطلبة والطالبات فى مدرجات وفصول الدرس دون اعتراض وبسلطة منفردة.. كما أن عميد إحدى الكليات تجول فى بداية العام الدراسى الحالى فى فناء الجامعة برفقة مسئول الأمن فراعه الزى غير المحتشم الذى ترتديه الطالبات.. والذى يرتكز فى البنطلونات المقطعة فأصدر تعليماته بمنعهن من إتيان هذه الفعلة النكراء وإلا حرمهن من دخول الحرم الجامعي.. بينما فصل عميد آخر طالبًا وطالبة احتفلا فى فناء الجامعة بخطوبتهما مع بعض الزملاء والزميلات، وذلك لأن الطالب احتضن خطيبته فرحًا ومهنئًا..)
ثانيهما: لا يزال كتاب «فى الشعر الجاهلى» يدرس فى الجامعة بعنوان «فى الأدب الجاهلي».. إن تغيير العنوان لم يغير شيئًا من روحه «اللا دينية» فإن السموم التى أراد الدكتور أن ينفيها فى كتابه لاتزال ماثلة فى كثير من فصوله ومباحثه.. فكيف سكتت وزارة المعارف عن ذلك كله ولم تحرك ساكناً؟! .. وكيف تسمح أن يكون ذلك الرجل عميدًا  لكلية الآداب بالجامعة المصرية؟!..
ثم تبارى النواب فى الحديث منقضين على «طه حسين» فى عضب جامح يصفونه بالفسق والفجور والخروج على الآداب القومية والتقاليد الإسلامية ويستنكرون أن تكون الجامعات التى من المفترض أنها أنشئت لتكون منبعًا للفضائل وموردًا عذبًا للعلوم وسياجًا للأخلاق، وحصن وقاية من الرذيلة تسمح لهذا المارق المنحل أن يقوم بالتدريس فيها.. فإذا كان استقلال الجامعات حائلاً دون هذا كان عدمها خيرًا من وجودها، وفى هذا الشأن أعلن النائب أنه لا يكفى مطلقًا أن ينقل «طه حسين» إلى وزارة المعارف لأن مركزه بالوزارة يمكنه من الإشراف على فروع التعليم العربى فى أنحاء القطر.. وفى هذا من الخطر الكثير.. إن مثل هذا النقل كمثل نقل جيش الاحتلال من العاصمة إلى منطقة القناة.
«إن المعركة ناشئة الآن بين الدين واللا دين.. بين الفضيلة والرذيلة.. بين الحق والباطل فلأى فريق أنتم منتصرون.. لا شك أنكم ستنصرون الحق وتؤيدون الفضيلة وتدافعون عن الدين والأخلاق».
يقول الكاتب الكبير «محمود عوض» فى كتابه المهم.. «أفكار ضد الرصاص».. لم تهدأ المطاردة إلا حينما تقررت العقوبة الأصلية أخيرًا.. عقوبة الفصل والطرد.. إنها عقوبة ضد العقل والتفكير والمنطق والحرية رغم أن «أحمد بك لطفى السيد» مدير الجامعة قدم استقالته احتجاجاً على هذا القرار الظالم.. ذاكرًا فى خطاب استقالته الذى أرسله إلى رئيس الوزراء أن فصل «طه حسين» هو أمر يمس كرامة البحث العلمى وكرامة الجامعة.. يمس حرية التفكير والرأي.. يمس أبسط الحقوق التى يعترف بها أى مجتمع لأفراده..
الآن فقط يمكن أن تهدأ المطاردة التى بدأت منذ ست سنوات.. الآن فقط يمكن لكل القوى الكريهة فى المجتمع أن تعلن ابتهاجًا وأنشراحًا للنتيجة التى توصلت لها أخيرًا..
وتبدأ الكتب العديدة المتهافتة المنطق.. المتداعية الأسلوب والجوهر تنتشر لترد على كتاب «طه حسين» وتهاجمه بضراوة تفتقر إلى الموضوعية والحجة التى تقرع الحجة.. منها كتاب «نقد كتاب الشعر الجاهلي» من تأليف الشيخ «محمد الخضر حسين» المدرس بكلية الشريعة بالأزهر الذى يتهمه بالزندقة وكيد الإسلام.. والحط من جلاله وفضائل عظمائه.. إنه بكثير من الشك والريبة فى نوايا المؤلف يكيل له الاتهامات المتصلة بشخصه، وليس الهجوم على ما كتبه.. إنه يحمل عصا رجل بوليس يطارد مجرمًا.. وليس منطق مؤلف يناقش مؤلفًا آخر.. وهى الآفة التى لم نتخلص منها حتى الآن والمتابع للضجة الأخيرة المثارة حول المفكر «يوسف زيدان» بسبب رأيه السلبى فى «أحمد عرابي» و«صلاح الدين الأيوبي» يدرك ذلك.. أنهم لا يستخدمون أساليب تفنيد ودراسة وتحليل المزاعم لمواجهتها ولا الدعوة إلى مناظرة.. وإنما قذف الشخص نفسه بشراسة متناولين نقائصه وصفاته الذميمة من وجهة نظرهم..
ووجد الشعر مجالاً فسيحًا للهجاء الجارح والقذف المباشر.. والإتجار الواضح بالقضية.. فنشر أحدهم تحت عنوان: «طريد العلم والدين» يقول فيها مخاطبًا «طه حسين»:
بغضت بالإلحاد ذكر الجامعة / للناس لا فاتت يديك الجامعة / غادرتها للهزل دارًا بعد أن / كانت ترجى للحياة النافعة / تملى بها التشكيك ليس العلم يا/ أعمى التشكيك فى الأمور الواقعة..
ثم صدر قرار الفصل سنة (1932) وقد أوضح «طه حسين» فيما بعد رغم أن الإدانة تمت سنة (1927) ولم تنفذ وقتها.. ذلك لأنه ظهرت أسباب جديدة منها أن وزير المعارف «حلمى عيسي» طلب منه باعتباره عميدًا لكلية الآداب أن يقدم اقتراحًا للجامعة بمنح الدكتوراه الفخرية لعدد من كبار الأعيان.. فواجهه «طه» رافضًا مقرراً : ياباشا.. عميد كلية الآداب ليس عمدة.. تصدر له الأوامر من الوزير.. أنا لا أوافق على إعطاء الدكتوراه الفخرية لأحد لمجرد أنه من الأعيان..
ثم جاءت مناسبة أخري.. فقد زار الملك «فؤاد» الجامعة وكلياتها ولم يصفق له الطلبة.. فغضب الملك.. وقال هذا عمل تدبير الملعون «طه حسين»..
أصبح بعدها الجو ملائمًا للتحرك ضد «طه حسين».. لقد تعرض لغضب أكبر سلطة فى البلد.. لا بد من إجراء حاسم ضده .. وقد أوعزت الحكومة إلى أحد نوابها فى البرلمان بإعادة فتح موضوع كتاب «فى الشعر الجاهلي» من جديد.. بعدها صدر القرار الذى تقرر من قبل : أولاً نقل «طه حسين» من كلية الآداب إلى وزارة المعارف.. وثانياً فصله من وزارة المعارف.. وهكذا جاءت العقوبة الرسمية أخيرًا.. بعد ست سنوات من الهجوم والتشهير والتهديد.. تحرك البرلمان.. تحرك الملك.. وأصبح «طه حسين» فى الشارع.. ليس فى جيبه جنيه واحد.. ليس فى بيته رغيف خبز.. لقد بدأ أخوه ينفق عليه.. يعطيه معونة يشترى بها الخبز لنفسه ولأسرته.. هذا من بقى له أخيرًا.. لا الزملاء ولا الأصدقاء ولا الأقرباء ظلوا معه.
يقول فى ذلك «محمود عوض: حينما تتحرك السلطة ضد أحد يختفى كل هؤلاء.
لكن طه حسين الذى فلت وقتها من جريمة قتله بناء على تكفيره .. ظلوا يطاردونه حتى زماننا ذلك حتى قتلوا تمثاله - أثناء حكم الإخوان - فى مسقط رأسه بالمنيا فى ميدان بها.. انتقموا منه بعد موته.. أطاحوا برأسه بعد أن فشلوا فى الإطاحة برأيه.. فعادوا بنا إلى عصور سحيقة من التخلف والجهل بسطو صريح على عقل أمة وتراث شعب وتاريخ حضارة باعتبار أن التماثيل محرمة لأنها صنعت للعبادة وليست فنونًا راقية تجسد أفكارًا سامية وإبداعات إنسانية عظيمة.. وإذا كانت تلك التيارات المتشددة الغبية مازالت عند تصوراتها المريضة تلك فإنه من باب أولى أن تكون اعتداءاتهم مركزة على «طه حسين» الذى سبق تكفيره.. بسبب كتابه «فى الشعر الجاهلي» وبسبب تأثره بالحضارة الغربية الكافرة.
لكن لأن الإبداع لا يموت.. وحرية الرأى والفكر لا يمكن لأعداء العقل سحقها. وحركة التاريخ  تنحاز للحداثة  والتجديد والتطور والتنوير وحرية الاختلاف.. ولا تنتصر للجهل والجمود والظلام والإرهاب يبقى كتاب «طه حسين» صامدًا فى الزمن.. خالدًا فى الذاكرة.. ويمضى المكفرون والظلاميون وأعداء الحرية فى مزبلة التاريخ.



تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز