عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
.. ورحل أحد أعمدة جيل رواد الإعلام

.. ورحل أحد أعمدة جيل رواد الإعلام

بقلم : د. شريف درويش اللبان

وكأن المصائب تأبى أن تأتي فُرادى، ففي يوم الجمعة الماضية نزفت مصر دمًا ودموعًا وتأوهت آلامًا وأوجاعًا على شهدائنا في حادث مسجد "الروضة" الإرهابي البشع في بئر العبد بشمال سيناء، حتى فوجئن مساء أمس السبت بحادث إرهابي محدود آخر، ولم نكد نستعد للنوم بعد متنصف الليل حتى فاجأنا القدر بإحدى ضرباته بأن امتدت يد الردى إلى أحد أساتذتنا العِظام الذي يمثل أحد أعمدة جيل رواد الإعلام في مصر والمنطقة العربية برُمتها الأستاذ الدكتور مختار محمد التهامي عميد كل الإعلام جامعة القاهرة الأسبق في الفترة من 1985 إلى 1988.



حصل د. مختار التهامي على ليسانس آداب من قسم اللغة الإنجليزية عام 1949، وحصل على دبلوم معهد التحرير والترجمة والنشر عام 1952 ثم دبلوم معهد العلوم السياسية عام 1954، وحصل على دكتوراه من كلية الآداب جامعة القاهرة قسم الصحافة عام 1958 بمرتبة الشرف الأولى مع التوصية بتبادلها مع جامعات العالم.

وتولى الراحل العظيم رئاسة قسم الصحافة والنشر بكلية الإعلام جامعة القاهرة بداية من 13/10 /1984ولمدة ثلاث سنوات كما تولى منصب وكيل الكلية لمدة ثلاث سنوات بداية من 1/10/1979، وتولى عمادة كلية الإعلام اعتباراً من 1/10/1985 وحتى 1/10/1988.

وله عديد من البحوث المنشورة أهمها: الأسس العلمية لتخطيط الإعلام العربي وإعداد الحملات الدعائية (1970)، والإعلام في صدر الإسلام (1977)، والمرأة في البحوث الإعلامية العربية (1986 )، وأساليب قياس الرأى العام في الدول النامية: نظرة نقدية (1987)، ودور وسائل الإعلام في خدمة الاحتياجات الإعلامية للاجئين في مصر (1977).

قدم للمكتبة العربية عديدًا من الكتب والمؤلفات المتميزة، أهمها: الصحافة والسلام العالمى (1964)، والإعلام والتحول الإشتراكى (1966)، والرأى العام والحرب النفسية (1967)، والأيديولوجية والدعاية (1975)، وثلاث معارك فكرية (1976)، ومبادىء العلاقات العامة في البلدان النامية (1977).

والأستاذ الدكتور مختار التهامي - كما كتب عنه تلامذته في سجل رواد قسم الصحافة - عالم جليل وأحد أبرز رواد أساتذة الصحافة والرأي العام ليس في مصر وحدها بل على مستوى العالم العربي ككل، تتلمذ في مدرسته أجيال من الباحثين المصريين والعرب في مجال الصحافة والإعلام والرأي العام، شخصية هذا الرائد القدير في أعين هؤلاء الباحثين تختلف إلى حد بعيد عن الصورة النمطية "الظاهرية" الشائعة لدى من لم يعايشه عن قرب ويتعرف على الجوانب الإنسانية الخاصة والسمات المميزة له خلف ملامحه الحادة ومواقفه الحازمة التي كانت تجعل الكثيرين من المحيطين به في دائرة العمل والمجال العلمي والبحثي ينظرون إليه نظرة إجلال واحترام.

وتلامذة الدكتور التهامي يدينون له بالفضل في التأسيس الأصيل لهم وصقل شخصياتهم الإنسانية، إذ كان يغرس فيهم حب العلم والبحث العلمي والوعي بأن دروب هذا المجال مليئة بالأشواك والصخور التي ينبغي على الباحث الجاد أن يقتحمها ويخترقها بثقة عالية مهما كانت معاناته، وكان ذلك يدفعه -أحيانا- إلى القسوة "الظاهرية" مع البعض منهم حين يستشعر منهم قدرا من التهاون والتباطؤ والتقصير في اداء مهام العملية البحثية – مما يجعله يتخذ معهم مواقف حازمة، كان البعض حينئذ يرى منها بعض القسوة، بينما كان الأستاذ الجليل يستهدف من ورائها إختبار مدى الصلابة النفسية لطلابه وإصرارهم على مواصلة طريق البحث العلمي وتنمية وتطوير شخصياتهم لتصبح أكثر قدرة على مواجهة أي عقبات أو مصاعب في طريق العلم والمعرفة والبحث، وتعليمهم أن الجهد الذاتي المتواصل للباحث وثقته بنفسه وعمق علمه ومعرفته هي العوامل الأصيلة وحجر الزاوية في بناء مستقبل علمي واعد لهم.

وحينما كان الباحث ينجح في إجتياز هذه الاختبارات ويتوج هذا النجاح بالحصول على الدرجة العلمية المطلوبة يُظهر الأستاذ الجليل الوجه الإنساني الدفيق له، ويتحول إلى أب حنون فخور بابنائه فرحته غامرة بتميزهم.

ومن السمات الأصيلة المميزة لشخصية هذا الأستاذ الجليل أيضا الجرأة والتمسك بحقه وعدم الاستسلام للضغوط مهما كانت، وقد ظلت هذه السمات لم يغيرها الزمن وتقدم العمر به، فلا ينسى له موقفه من الأزمة التي تعرض لها الأساتذة الجامعيون الذين تخطوا عمرهم في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين – وكان د. التهامي أحدهم آنذاك، فقد أجرت وزارة التعليم العالي حينها تغييرا على قانون الجامعات يتم بمقتضاه اقصاء هؤلاء الأساتذة عن الحياة الجامعية بتحويلهم إلى أساتذة "غير متفرغين"، ورفض الأستاذ القدير كغيره من الأساتذة ممن واجهوا هذا القرار "بقوة" وخاض معركة شرسة في هذا الصدد، تمخضت في النهاية عن نجاحه في إنتزاع حكم قضائي من جامعة القاهرة ووزاة التعليم العالي سمحت له بالبقاء كـ "أستاذ متفرغ" رغم قانون د. شهاب، وسار على دربه بعد ذلك عدد من الأساتذة ممن تمكنوا من الحصول على أحكام ضمنت بقاءهم في الجامعة.

أذكر جيدًا أنني حين قمت بتنظيم "يوم الوفاء الأول" في إطار أنشطة وكالة كلية الإعلام لخدمة المجتمع في أبريل 2015 لتكريم أعمدة الكلية من العمداء والوكلاء ورؤساء الأقسام الذين تقلدوا مواقع المسؤولية فيها طوال 40 عامًا من تخرج أول دفعة من كلية الإعلام العريقة في العام 1975، قمت بدعوة أستاذنا القدير د. مختار التهامي لتكريمه، ولم أكن أتوقع حضوره نظرًا لظروفه الصحية، إلا أنه فاجأنا جميعًا بحضوره ليضيف عبقًا وإحساسًا عميقًا بتواصل الأجيال، وحين قمت أنا وأ.د. جيهان يسري عميد الكلية الحالي بتسليمه درع التكريم في مكانه، قمت بتهنئته والشد على يديه التي طالما امتدت إلينا بالخير والعلم والخلق القويم، حينها فاجأني بعبارة قالها لي وهو يبتسم حبًا لأحد تلامذته وأبنائه: "تمرت فيك التربية يا شريف".

أستاذي الجليل: لا أقول وداعًا أيها العالم الفذ والفارس النبيل.. بل أقول إلى اللقاء.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز