عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الجياع والحرامية!

الجياع والحرامية!

بقلم : أيمن عبد المجيد
في ربوع مصر، ريفها وحضرها، تتنوع الأسر، نماذج متباينة في الدخول والتفكير، وإدارة أحوالها المعيشية، هناك من الفقراء من ينجب بغزارة، من أجل ما كان يعتقد أنه العزوة،  ينجب ليلقي بأبنائه في مستنقع المهن المرهقة،  وهم في سن الطفولة، يحولهم لأدوات للكسب السريع، بلا تعليم ولا تخطيط لمستقبلهم، وهناك من ينجب بحدود يخطط للمستقبل، يقتطع من قوته للإنفاق على تعليم وتأهيل أبنائه، يعدهم لمكانة أفضل منه، فلا أحد يريد أن يرى من هو أفضل منه غير أبنائه.
هناك من يسكن في شقة إيجار، ينفق كل دخله على رفاهية أبنائه، أفضل مأكل وأفضل ملبس، وهناك من يوفر لأبنائه حد الكفاف والحياة اللائقة، يوفر جزءًا من دخله لاستثماره لبناء مستقبل أفضل لهم.
 
"الفنجري" و"الحكيم"
 
في مصر "الفنجري"، الذي يتفاخر بإنفاق كل ما يملك، على أمور هامشية، فيرحل عن الحياة تاركًا أبناءه في شقة إيجار، بلا علم نافع ينتفعون به، ولا رصيد يحميهم من تقلبات الدهر وصدمات الحياة، انظر حولك فهناك آباء  ينظرون تحت أقدامهم، يقترضون لـ"التباهي" والإنفاق على "البطون"، يرفعون شعار: "عيشني النهارده وموتني بكرة".
وهناك الحكيم الذي يدير موارده، يخطط لمستقبل أسرته، وينفق عليهم بقدر الحاجة، ويدخر لأجل الاستثمار، يستثمر في أبنائه، ليرى منهم الطبيب والمهندس والضابط، والتاجر أو الصانع الناجح، يدخر ويستثمر فتتغير أحوله للأفضل مع الزمن، ينتقل لسكن تمليك، ويبارك الله في أبنائه، فبعلمهم وعملهم يرتقون اجتماعيًا من طبقة إلى أخرى.
ألم تشاهد بعض الفلاحين البسطاء والموظفين محدودي الدخل، الذين بارك الله في أبنائهم وتغيرت أحوالهم بفضل استثمارهم في أبنائهم، هذا الذي علم وأنفق، تقدم، وهذا الفنجري أو ذاك الذي يتقمص شخصية خولي الأنفار، ينجب ليلقي بأطفاله في مهن متدنية، هل رأيت تلك النماذج؟هي كثيرة في المجتمع.
 
50 عامًا من الشعارات والدعم الخادع 
 
أنظمة الدولة المصرية، منذ أكثر من 50 عامًا، تسير بمنهج رب الأسرة "الفنجري"، رافعة شعار "عيشني النهارده وموتني بكرة"، تقترض من أجل الإنفاق على البطون، تهمل العقول، تتحدث عن دعم لتعليم مجاني، فإذا بنا بلا مجانية ولا تعليم، تخرج المنظومة التعليمية جزءًا ليس قليلًا من منتجها جهلاء، "حفيظة"، بلا فهم، غير مؤهلين لسوق العمل.
والحقيقة أن تلك الأنظمة، كانت تقصد بشعارها نفسها، تريد أن تعيش هي في الحكم أطول مدة، وليس لديها مشكلة أن يموت من يموت بعدها، ولو كانت الدولة.
الحقيقة أن الدولة كانت تقدم مليارات الدعم، وما زالت حتى وقت قريب، للأثرياء، لصوص المال العام "الحرامية"، وليس "الجياع"، كما يدعي أصدقاؤنا اليساريون، الذين صدعونا بالشعارات الكاذبة، وقد رأيت بعيني زعيمًا يساريًا لا يمل من المتاجرة باسم الفقراء، يجلب خادمة لابنته فلبينية، صدمني ذلك عندما ذهبت في 2009 لإجراء حوار معه، وطلب التوقف قليلاً، عندما جاءه اتصال، فإذا به يتحدث عن قضاء إجازة نهاية الأسبوع في الساحل الشمالي، ويذكر ابنته أن تحضر الخادمة الفلبينية معهم.
يومها ثارت في ذهني تساؤلات عدة عن هؤلاء الذين يقدمون لنا صورة مناقضة لحياتهم، هؤلاء الذين يقتاتون من المتاجرة باسم البسطاء والفقراء، إذا كان حاله ميسورًا، لماذا لا يستعين بسيدة من بسطاء الشعب يفتح لها باب رزق، على الأقل هي من هؤلاء الذين يتشدق ليل نهار باسمهم؟
 

 



كيف تدعم الدولة مليونيرًا بـ 150 ألفًا شهريًا؟!
 
المهم يومها من بين الأسئلة التي دارت في رأسي، حول الجياع والحرامية، تعال نحسبها بالعقل والمنطق، رجل أعمال يملك خمس سيارات، ومواطن بسيط من عامة الشعب يركب مواصلات، أو سيارة بسيطة، الأول سياراته التي يستقلها هو وموظفوه وأبناؤه تمون "بنزين" مدعمًا، بما لا يقل عن 10 جنيهات للتر، حيث تستهلك السيارة الحديثة "الجيب والهامر" قرابة 50 لترًا في اليوم، يعني 250 لترًا إجمالي، أي أن الدولة تدفع لهذا الثري دعمًا يوميًا 2500 جنيه، أي في الشهر 75 ألفًا.
 هذا غير دعم الكهرباء والمياه، فأنت يا "غلبان"  ساكن شقة أوضتين وصالة تكافح الحر بمروحة على "قد الحال"، وهو ساكن فيلا فيها 5 غرف بـ5 تكييفات، وحمام سباحة، أو شقة 300 متر، تستهلك آلاف الكيلو وات، المدعمة من الدولة، فيحصل على ما يعادل 150 ألفًا شهريًا دعم كهرباء، وسكن وتكييف ومياه وغاز وبنزين.
ده غير اللي عنده مصانع أسمنت وحديد وخلافه، لو افترضنا حصل على طاقة تشغيل المصنع بسعر تجاري، فإن لديه أسطول سيارات لنقل المنتجات والموظفين تمون يوميًا آلاف اللترات من الوقود المدعم، أليس هذا هو الواقع؟!
أما أنت يا أيها المواطن البسيط، فتقاتل من أجل الإبقاء على الدعم للأثرياء دون وعي، فأنت استهلاكك محدود، وأنت محق في مخاوفك من ارتفاع أسعار المواصلات، أو البوتاجاز بما يفوق قدراتك المالية، معك حق، لكن تعال نحسبها بالعقل.
أنت تخشى من زيادة في نفقاتك قد تصل إلى 300 جنيه شهريًا، نتيجة لتحريك أسعار المحروقات، وقد تزيد حسب ظروف كل فرد وأفراد أسرته، لكن في مقابل كل مليار دعم للبسطاء والمستحقين، تدفع الدولة عشرات المليارات للأثرياء، فهم الأقل عددًا والأكثر استهلاكًا للوقود المدعم، هذا بخلاف الشركات الأجنبية وسيارات الجامعات الخاصة والسفارات.
فلا تنسق خلف المحرضين لتقاتل ضد مصلحتك.
330 مليارًا إنفاق الدولة على دعم الوقود في ميزانية 2017، منها 40% تذهب لقلة محدودة ثرية غير مستحقة، البسطاء ومحدودو الدخل كانوا سعداء بمنظومة الدعم الفاشلة، في الأنظمة السابقة، لكنهم ثاروا في النهاية على حكم مبارك .
 
لماذا شاركت في ثورة 25 يناير طالما كانت الأحوال عال والدعم متوافر؟!
 
لماذا شاركت في الثورة، وأنت تحصل على بنزين وكهرباء وبوتاجاز رخيص؟ قد يُدهشك هذا السؤال، فتجيب: الحكاية مش حكاية أسعار وبنزين، التعليم فاشل، والصحة بلا خدمات، والحياة كانت لا تطاق طوابير غاز وعيش وفساد.
معك حق، طيب تعال نفكر بالعقل، لماذا تدهورت خدمات الصحة والتعليم، وشحت الأنابيب من السوق، لدرجة قتال الناس بعضهم البعض والمبيت أمام المستودعات للحصول على أنبوبة غاز في تلك الأيام العصيبة؟
الإجابة: لأن الحكومة كانت تنفق المليارات على الدعم، فتعجز الموازنة، فتقترض كل عام لتوفير  الاحتياجات الضرورية، لسد احتياجات البطون، فتتدنى مخصصات التعليم والصحة، وعندما تتأخر شحنة دقيق أو غاز لعدم توافر سيولة استيراد تحدث الأزمات ويموت الناس في الطوابير، واستمر الحال على هذا المنوال، قروض من أجل سد احتياجات البطون، فتراكمت الديون حتى وصلت فوائدها سنويًا 540 مليارًا العام الماضي.
 
خدعوك فأكلت "البط بط" ودفعت "الوز وز"
 
لكن الدعم الذي كنُت تحصل عليه وسعيداً به، ينطبق عليه مثل شعبي: "اللي تأكله بط بط، يطلع عليك وز وز"، إزاي؟ أقولك: أنت بتحصل على الدعم الذي يذهب معظمه للأثرياء لكنك مبسوط، لكن الحقيقة إذا كنت بتحصل على دعم كام ألف سنويًا في صورة سلع، فإن هذا تسبب في تكرار عجز موازنة الدولة، ونقص مخصصات الصحة والتعليم،  فتدهور التعليم الذي نصبوا عليك وقالوا "مجاني"؟ فأنت يا مسكين تدفع في مقابل كام ألف دعم عشرات الآلاف "دروس خصوصية"، وإذا تعبت أو تعب أحد من أسرتك تذهب للمستشفيات العامة فلا تجد مكانًا في غرفة العناية أو حضانات الأطفال، فتذهب مضطرًا لمستشفى خاص تدفع عشرات الآلاف.
إذًا المستفيد في النهاية الأثرياء أصحاب المدارس والمستشفيات الخاصة، وأنت ما تحصل عليه دعم جنيهات تدفع مقابله بشكل غير مباشر عشرات الآلاف، أليست هذه الحقيقة، لا البلد بتتقدم، لأن ميزانياتها عاجزة، ولا معيشتك تتحسن، إذًا كان لابد من إصلاح اقتصادي بتحريك منظومة الدعم لتوفير المليارات، التي يحصل عليها غير المستحقين لتذهب إليك أنت كمستحق.
كيف؟ أقول لك، توفير مليارات الدعم بتحريك الأسعار للوصول للسعر الحقيقي للمنتج، سيوفر للدولة سيولة لتطبيق منظومة التأمين الصحي الشامل، وإصلاح الصحة والتعليم، فتجد خدمة حقيقية جيدة في المدارس والمستشفيات العامة، فتوفر نفقات الدروس الخصوصية، ونفقات العلاج بالمستشفيات والعيادات الخاصة.
 إلى جانب تخصيص مبلغ 60 مليارًا زيادة في ميزانية الأجور والمعاشات لعام 2018| 2019، بخلاف 17.5 مليار لـ10 ملايين مواطن، مستحقين لمعاش تكافل وكرامة، ودعم السلع التموينية.
إذًا ما يقال عن أن الإجراءات التي تتخذها الدولة للصالح العام والمواطن البسيط، حقيقة، بحسابات الواقع والعقل والمنطق، فمن تلك الأموال التي ستتوفر ما يذهب لخلق حياة أفضل للفقراء وسكان العشوائيات، وبناء مساكن لمحدودي الدخل.
 
ثورة "الجياع" أم "الحرامية"
 
في 17 و18 يناير 1977، حاول الرئيس الراحل محمد أنور السادات، الشروع في إصلاح منظومة الدعم، بتحريك بعض الأسعار، لتقليص عجز الموازنة، بناء على خطة لجنة برئاسة الدكتور عبدالمنعم القيسوني، وهو خبير اقتصاد بارع، فقوبلت بمظاهرات استغلها المتاجرون باسم الفقراء، لعرقلة الإجراءات.
يومها وصفها معارضو الرئيس بثورة "الجياع"، لكنه كان على يقين أنها ثورة "الحرامية"، وظل على يقينه حتى استشهاده.. ربما خطأه أنه وعد الشعب بالرخاء ولم يناقش للتوعية قبل القرار فنتج عن الصدمة رد فعل سلبي، دفعه للتراجع عن القرار.
لكن الدولة الآن تمهد وتنشر الوعي، وتعمل وفق خطط معلنة صريحة، في حفل إفطار الأسرة المصرية، قال الرئيس عبدالفتاح السيسي، لو لم تعرقل إصلاحات 1977، لما وصل بنا الحال لما هو عليه الآن، ولن أسامح نفسي إن أجلت الإصلاح لمن يأتي بعدي، الرئيس قالها: "أنا مبستخباش وبواجه".
حقيقة مصر لم يكن بمقدورها الصمود بحالة القروض، لولا حرب الكويت التي حصل الرئيس مبارك على دعم للدولة يقدر بـ 36 مليار دولار، وإسقاط جزء من الديون لمشاركتنا في تحرير الكويت.
 
الوقت حان  لبناء الدولة والإنسان
 
لكن الآن ليس أمام الدولة إلا إصلاحات حقيقية، للنهوض بالإنسان عبر منظومة صحة حقيقية، وتعليم يخلق جيلًا مبدعًا، وبنية أساسية وجودة حياة لائقة، نعم العلاج مؤلم لكن فيه الشفاء، إن شاء الله، من داء عضال ورثناه، والتخاذل فيه المزيد من التشوهات، لا تعليم بلا مجانية، ومنظومة صحية كاذبة.
التخاذل يعني أن الديون ستتحول إلى حبل يربط في عنق الدولة، تعيش على الدعم والمساعدات، وكما يقول المثل الشعبي: "اللي يعلق في رقبته حبل ألف من يسحبه"، استقلال المصير والقرار، يتطلب بناء اقتصاد قوي لبناء دولة قوية.
نحن نزيد 2 مليون سنويًا، بمتوسط معدل زيادة 2.4%، يعني يوميًا يولد لدينا 5555 طفلًا، ومع العلم أن نسبة المبتسرين من المواليد، الذين يحتاجون حضانات، تبلغ 10% عالميًا، وفي مصر 15%، يعني لدينا سنويًا 300 ألف طفل في حاجة لحضانات، وبعد عامين نحتاج 2 مليون حضانة، وبعد 6 سنوات 2 مليون مقعد دراسي إضافي، بخلاف الصحة وغيرها.
إذًا علينا أن ننظر للمستقبل بعين رب الأسرة، الذي يدرك أين يضع قدمه، وما الاحتياجات الحالية والمستقبلية، لنستطيع البقاء بكرامة، وإلا سنعيش بمنطق "الفنجري"، يصرف ما في الجيب على أمل أن يأتي ما في الغيب، سنتألم نعم، وعلى الدولة التوسع في تحسين منظومة الأجور والمعاشات والحماية للبسطاء، لكن القادم أفضل إن شاء الله.
على الشرفاء من الأثرياء ورجال المال والأعمال الذين استفادوا من الدولة لسنوات، أن يساعدوها لتخفيف آلام الفقراء، حتى نعبر بسلام لوضع اقتصادي أفضل، حتى لا يكون في مصر محتاج، إن شاء الله.
 
 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز