عاجل
الثلاثاء 19 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
تجديد ام تكرار الخطاب الديني

تجديد ام تكرار الخطاب الديني

بقلم : ياسر خليل

بدأ عصر النهضة في الغرب، وتوالت الإنجازات العلمية والفكرية، فتوقع البعض أن الدين لن يكون موجودا بعد 200 عام على الأكثر، لأن العلم سيحل محله، ويحوله إلى ذكرى من الماضي. مرت عدة قرون ولم تتحقق هذه النبوءة.



اليوم يوجد في العالم قرابة 2.2 مليار مسيحي، ونحو 1.6 مليار مسلم، وما يناهز 14 مليون يهودي، ومئات الملايين من أتباع المعتقدات الدينية غير السماوية، مع ملاحظة أننا الآن أكثر تقدما واتصالا ببعضنا، ولدينا القدرة على الوصول للمعرفة بسرعة أكبر بكثير مما كان عليه العالم حين خرجت هذه النبوءة. لم يكن العلم والفكر دافعا للتخلي عن الدين.

الدين احتياج بشري أصيل، ظهرت ملامحه في كل الحضارات التي اكتشفت، بما في ذلك المناطق التي ظل سكانها معزولون لآلاف وربما عشرات الآلاف من السنين، مثل الهنود الحمر. هذا الاحتياج حاول البعض استغلاله والاستفادة منه لتحقيق مصالح خاصة وحزبية.

الاكتشافات العلمية بكل قوتها وسحرها، لم تقض على احتياج الإنسان الفطري لعبادة الخالق، ولم تتسبب في انهيار الدين -كما كان يروج رجال الدين الذين تصدوا للعلم طويلا- لكن العلم ساهم في إحداث ثورة فكرية، أعادت بناء المفاهيم، ووضعت الأمور في نصابها الصحيح، فمنعت الذين يستغلون هذا الاحتياج البشري لصالحهم من فرض قيود على حركة العلم والفكر، وأتاحت المجال للقادرين على المساهمة في تلبيته لصالح الإنسان ومجتمعه المتحضر.

أصبح الدين في كل بلدان العالم المتقدمة، شأن خاص بين الإنسان وربه، لا حاجة لديه لأن يرائي وينافق المجتمع بتدينه، ولا يعطيه ذلك التدين الحق في أن يفرض ما يعتقده هو على غيره، ليتحول بذلك من إنسان إلى كائن متلصص بغيض، يقحم أنفه في أخص شؤون غيره، بحجة أنه يحمي الدين والمجتمع، وهو في الحقيقة لا يحمي سوى سلطة رجال الدين التي كانت تضع الملوك على العرش، وتطيح بهم أيضا.

المجتمعات التي ما زالت تحتضن هذا النوع من الكائنات المتلصصة البغيضة، تعاني الكثير، يسودها النفاق الاجتماعي، فالتدين الظاهري وسيلة للحماية الشخصية والحصول على الثقة والتقدير في تلك المجتمعات.

للتأكد من هذا، تأمل ما يحدث حولك في مصر، أو أنظر إلى أخبار الحوادث، ولاحظ  في الصور المنشورة هيئة الرجال والسيدات الذين يتم إلقاء القبض عليهم في قضايا مخلة بالشرف، وسوف ترى مدى حرص نسبة غير قليلة منهم على الظهور بمظهر يعطي انطباعا بأنهم ملتزمون دينيا.

المقولة الشهيرة المنسوبة للإمام محمد عبده "ذهبت للغرب فوجدت إسلاما ولم أجد مسلمين، ولما عدت للشرق وجدت مسلمين ولكنني لم أجد إسلاما"، تشير إلى أن أكثر ما لفت انتباه الشيخ خلال زيارته لباريس عام 1881، هو الأخلاق، التي ربطها فورا بالإسلام، فالدين والأخلاق الحميدة هم شيء واحد بالنسبة له، فلا يمكنه أن يتصور أخلاق بلا دين، وبالطبع لا دين بلا أخلاق.

لا أعرف ما الذي يمكن أن يقوله الإمام، لو كان بيننا اليوم. لقد شهدت العقود الماضية صعودا كبيرا في "التدين"، وازدادت أعداد المحجبات، والمنقبات، وأصبح "المتدينون" يسألوننا عبر الملصقات "هل صليت على النبي اليوم؟"، ويتأكدون من أننا نعيد إرسال الرسائل المليئة بالأذكار والمحتوى الديني، ويحذروننا أنها إذا توقفت عندنا فعلينا أن نعلم أن "الشيطان قد منعنا".

البرامج والقنوات الدينية تزايدت أعدادها، وبات رجال الدين والدعاة أكثر جماهيرية وشهرة من نجوم الفن والكرة، وأصبحوا يحظون بأجور كبيرة، لأن برامجهم تجتذب أعدادا ضخمة من المشاهدين، ومن ثم إعلانات وفيرة، ودخل كبيرة للقنوات الفضائية. المحتوى الديني موجود بكثافة على الإنترنت، ويمكن للجميع الوصول إليه.

لم يعد الأزهر المؤسسة الدينية الوحيدة المسؤولة عن نشر الدعوة وشؤون الدين الإسلامي بمصر، بل انضمت إليه دار الإفتاء (1895)، ووزارة الأوقاف (1968)، ولدينا أكثر من 130 ألف مسجد وزاوية. تنفق الدولة عشرات المليارات من أموال دافعي الضرائب على تلك المؤسسات، هذا بخلاف أموال التبرعات والصدقات والزكاة.

باختصار لا توجد مشكلة في وصول الدعوة الإسلامية إلى المواطنين المسلمين، بداية من المسجد، ووسائل الإعلام المختلفة، والانترنت، وصولا إلى الهاتف الجوال الذي يوجد في يد كل مواطن مصري تقريبا.

هذه هي المدخلات... ما هي المخرجات؟ كيف تبدو الأخلاق في الشارع المصري؟ ما الذي يمكن أن يقوله الإمام محمد عبده الذي لم يعجبه أخلاق معاصريه (التي نتحسر على ضياعها اليوم)؟

لنكن صرحاء مع أنفسنا، هناك مشكلة حقيقية فيما يقدم إلينا على أنه "الدين"، هذه الرؤية "اليقينية" الواحدة الجامدة منذ 5 أو 6 قرون ولا يسمح بتغييرها أو حتى تجديدها كما يقال. وحين يخرج مفكر أو أكاديمي أو كاتب أو حتى رجل دين متخصص يطرح بحثا، أو وجهة نظر تخالف هذه الرؤية، أو تنتقدها، تفتح عليه أبواب الجحيم، ويتهم بمحاولة هدم الدين، وربما توجه إليه تهمة "ازدراء الأديان"، ويصبح مهددا بالسجن.

هذه الأجواء تبقى على المشكلة كما هي، لا يمكن أن يحدث إصلاح ديني دون حرية فكر تضمنها الدولة، تسمح للمفكرين، والباحثين، والكتاب أن يقدموا ثمار جهدهم دون خوف، ودون ادعاءات "هدم الدين"، وإلا سيصبح "تجديد الخطاب الديني" ما هو إلا "تكرار للخطاب الديني" بصيغة مختلفة، لا تحل المشكلة القائمة، وتؤثر في المجتمع.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز