عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
طواف العقل والروح بالبيت العتيق

طواف العقل والروح بالبيت العتيق

بقلم : أيمن عبد المجيد

وما خلقنا الله إلا لنعمل العقل، ففي غير موضع بكتابه الحكيم قال سبحانه وتعالى: "أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ"، "أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ"، صدق الله العظيم.



وهب الله الإنسان العقل ليعمله، يفكر ويتدبر، لا أن يكون منقادًا بجهالة على غير هدى.

عندما أرسل الله الرسل، فقد أرسلهم ليخاطبوا العقول، وليرشدوا الناس إلى الطريق المستقيم، بالإقناع، الله سبحانه وتعالى عندما خاطب رسله، عليهم السلام، لم يُنكر عليهم رغبتهم في إعمال عقلهم للاقتناع بصحة ما هم ذاهبون إليه من مهمة.

قبل أن يتهمني بعض من أدعوهم لإعمال عقولهم بالتجاوز، أسوق لهم الدليل، قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".

سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء قال لربه "رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ"؟، فقال له ربه: "أَوَ لَمْ تُؤْمِن"؟، لكن سيدنا إبراهيم قال بلى، مؤمن، "وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي"، بلى لكي أقتنع وأطمئن، هل عاقبه الله؟! لا، بل قدم له الدليل ليقتنع ويطمئن.

لكن هؤلاء الجهلاء، الذين ألغوا عقولهم، تحولوا لأدوات تحركها أجهزة المخابرات عبر وكلاء متاجرين بالدين، يأمرونهم فينفذون بلا عقل ولا تفكير، يلفون أنفسهم بالأحزمة الناسفة ويفجرون الآمنين.

الله سبحانه، منحنا العقل لنتفكر حتى في العبادات، من ذاق لذة التفكر في خلق الله، وفي العبادات والدلالات، عرف حلاوة الإيمان في التفكر، وخلاص بلداننا العربية مما هي فيه، مرهون بصناعة بشر يملكون عقلية ناقدة يتفكرون.

للروح لذتها، وللقلوب شوقها، وللعبادات دلالاتها، وللإيمان الحق حلاوة ولذة يعرفها من تفكر وتدبر.

في مثل هذه الأيام المباركة المعدودات، التي فرض فيهن الحج، منذ عامين سرت على الطريق إلى بيت الله العتيق، ملبيًا ومن معي، "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك".

في البداية كنت أردد الكلمات، منذ أن نويت الحج، وبدأت في إنهاء الإجراءات، مع بدء الرحلة وفي الطائرة، عدت لمنهجي، الغوص في الجذور، بداية من لماذا أذهب الآن للحج وما الحج؟ ولماذا تلك الكلمات دون غيرها من العبارات الإيمانية.

عدت إلى أمر الله تعالى لأبينا إبراهيم: "وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ"، إذن الله أمر أبانا إبراهيم أن يؤذن في الناس بحج بيت الله الحرام، لذا نحن نلبي ونقول "لبيك اللهم لبيك"، أي لبينا النداء يا ربنا، لبيك لا شريك لك لبيك، أي أنت الواحد الأحد لا شريك له، "إن الحمد والنعمة لك والملك"، أي أن كل حمد فهو لك إلهي، وكل نعمة أنعمت عليّ بها فهي منك.

ثم كان السؤال الثاني الذي طرق ذهني، ما هو سر السبعة أشواط طواف حول الكعبة، وسبعة أشواط بين الصفا والمروة، ما هو سر الرقم "7"، لماذا ليس "6" أو "5" أو أي رقم آخر.

سر الرقم "7"، ظل يؤرقني، فالله سبحانه وتعالى، خلق السماوات سبعًا، والأراضين سبعًا، وألوان الطيف سبعة، وأيام الأسبوع سبعة، حتى مصر عندما حلم ملكها بالمستقبل، قال: "إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ"، حتى جاء سيدنا يوسف عليه السلام وفسر الرؤية، واستعد لسنوات الجدب بالتخطيط والعمل المحكم.

طرقت على ذهني مسألة أخرى، هذا الملك لم يكن من الأولياء، لكنه رأى في منامه مستقبل البلد الذي يحكمه، واختار للعمل القوي الأمين لتجاوز ما ينتظرهم من صعاب.

أعترف، لم يهدني عقلي إلى تفسير لسر الرقم "7"، في أشواط الطواف والسعي، وعدد الجمرات، لكن لتكراره في معجزات الكون أيقنت أن له سرًا يعلمه الله، فالتزمت، ولدي قناعة بأن فيه الخير الكثير.

عاد عقلي يُلقي بأسئلة، ما جدوى الطواف حول حجر يُفترض أنه لا ينفع ولا يضر؟، فرددت مع بداية كل شوط "اللهم إيمانًا بك وتصديقًا لكتابك، واقتداء بنبيك"، فإذا بي أشعر بأن الطواف حول نور ممتد من عرش الرحمن إلى الأرض، وما الحجر الأسعد إلا رمزية لمكان مقدس.

أما السعي بين الصفا والمروة، فهو اقتداء بما قامت به السيدة هاجر عليها السلام، وهي تهرول، ذهابًا وإيابًا، بحثًا عن الماء لنبي الله إسماعيل، حينما كان رضيعًا، تركه أبوه مع أمه بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيته المقدس.

والسيدة هاجر هي سيدة مصرية، تحمّلت المسؤولية، واثقة بربها عندما قال لها النبي إنه أمر الله، فكان ردها إذن لن يضيعنا.

السيدة هاجر واثقة بربها، وهو سبحانه يقول للشيء كن فيكون، فلماذا؟ لم تجلس في مكانها، وابنها في حجرها، وتدعو ربها، ليتفجر الماء أمامها؟، إنه الأخذ بالأسباب والسعي، وهي الرسالة التي يجب أن نعيها.

قد يقول قائل، ربما لو جلست وصبرت، كان ماء زمزم سيتفجر من أسفل قدمي إسماعيل عليه السلام! وهذا المتواكل غافل، فالله أمر السيدة مريم وهي تُعاني آلام المخاض، "وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا"، فما هي قوة امرأة ولدت للتو "نفساء"، لكي تهز جذع نخلة، قطعًا هي رسالة للعمل والأخذ بالأسباب، ثم نترك التوفيق على الله.

هناك يقف الجميع بعرفة، في هذا المكان الذي تعارف فيه أبونا آدم وأمنا حواء، حيث بداية البشرية، هنا ولدت الإنسانية، جميع ما في هذا الكون أشقاء مهما اختلفت ألوانهم ولغاتهم ولهجاتهم، هناك في عرفات، يقف البشر بمختلف أجناسهم، جاءوا من كل فج عميق "ليتعارفوا"، مرتدين قطعة قماش بيضاء بلا مخيط، الجميع متساوون، لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، والتقوى الله وحده هو من يعلم مقدارها في قلوب عباده.

هنا البشر أخوة، منحدرون من أصل واحد، أب واحد وأم واحدة، أمام الله يقفون، كيوم الحشر، يرجون رحمة ربهم، مسالمين، رسالة للبشر جميعكم أخوة.

في منى رمي الجمرات، قذف للشيطان، الذي يحاول تضليل الإنسان، كما كان يحاول فعله مع أبينا إبراهيم عليه السلام، أمر الله سيدنا إبراهيم بأن يذبح إسماعيل، وأطاع إسماعيل أباه، لكن الشيطان كان يحاول تحريضه على المعصية، فيقذفه نبي الله إبراهيم بالجمرات، الرسالة طاعة الوالدين، فقد انصاع إسماعيل لأبيه، وهمّ أبوه بذبحه: "فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ"، صدق الله العظيم.

ومن هنا جاءت الأضحية، التي يُضحي بها الحجيج والمسلمون في مختلف بقاع الأرض، هي فداء لنبي الله إسماعيل، ومنها يُطعم الأهل والجيران والفقراء.

في هذه الرحلة كنت أتفحص وجوه العجائز، ينفطر قلبي، عندما أشاهد شيخًا هرمًا اشتعل رأسه شيبًا، يهرول بظهره المنحني، أو تلك التي يدفعها ابنها على "كرسي متحرك"، ما هذا الإيمان الذي منح هؤلاء تلك العزيمة لإنفاق أموالهم والسفر آلاف الكيلو مترات من أوطانهم، للقدوم إلى هنا، راجين رحمة ربهم.

كلما نظرت في هذه الوجوه، حدثتني نفسي، إذا كنت أنا العبد الفقير إلى رحمة الله، تأخذني الشفقة بهم، فما بالنا بالله الرحمن الرحيم، مستحيل أنيردهم خائبين، لقد جاءوا لبيته وهو أكرم الأكرمين، كيف نكرم نحن عبيده ضيوفنا، قطعًا كرم الله أعظم، رحمته ومغفرته وجنات النعيم.

يعلم الله أن ما أخطه اليوم حدثتني نفسي به يومها، كنت أهرول لمساعدة كبار السن قدر استطاعتي، أطيل النظر في وجوههم، متمنيًا أن أراهم في جنات النعيم، فبرغم كل حسابات العقل المعجزات والروحانيات أكبر.

كل عام ومصر والأمة العربية والإسلامية والعالم أجمع أكثر أمنًا وسلامًا، تقبل الله من الحجيج وكتبها لمن يشتاق قلبه إليها.

وكل عام وإخواننا المسيحيين بخير بمناسبة عيد ميلاد السيدة مريم العذراء.

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز