عاجل
الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
ترامب ..الحقيقة والأوهام

ترامب ..الحقيقة والأوهام

بقلم : المستشار أحمد المرشد

تقول إحدى الأساطير إن الصدق والكذب التقيا من غير ميعاد، فقال الكذب للصدق: «طقس جميل اليوم»، فنظر الصدق حوله ليتأكد، فكانت السماء حقًا صافية والطقس جميلاً فعلاً. فمال الصدق للكذب وقضيا معًا بعض الوقت حتى وصلا إلى بحيرة ماء، فأنزل الكذب يده في الماء ثم نظر إلى الصدق وقال: «الماء دافئ وجيد» وإذا أردت يمكننا أن نسبح معًا، وللغرابة كان الكذب محقًا هذه المرة أيضًا، فقد وضع الصدق يده في الماء ووجده دافئًا ومناسبًا جدًا للسباحة، فقاما بالسباحة معًا بعض الوقت حتى غافله الكذب وخرج فجأة من الماء ثم ارتدى ثياب الصدق على عجل وولى هاربًا واختفى. وما اكتشف الصدق غياب الكذب حتى خرج من الماء مسرعًا غاضبًا، وبدأ يركض في جميع الاتجاهات بحثًا عن الكذب لاسترداد ملابسه. مشكلة الصدق في هذه الأثناء أن الناس رأوه عاريًا، فما لبث إلا أن أدار نظره من الخجل والعار. ومن شدة خجل الصدق أيضًا من تلك النظرة ولوم الناس له لسيره في الطريق عاريًا عاد إلى البحيرة واختفى هناك إلى الأبد. ومنذ ذلك الحين يتجول الكذب في كل العالم مرتديًا ثياب الصدق، ليحقق كل رغبات العالم الجهنمية الذي لا يريد بأي حال أن يرى الصدق عاريًا.



القصة مجرد أسطورة، والأساطير ما هي سوى خيال، ولكننا نضرب بها الأمثال، ومثالنا اليوم هو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يثير العالم يوميًا بأكاذيبه وبثه الأوهام لشعبه وبقية شعوب العالم، فهو كذَّاب أشر يكذب كما يتنفس، حتى وضعه البعض في المرتبة الأولى قبل قادة إسرائيل الذين يتنفسون كذبًا يوميًا.

فمن النادر أن يتحدث الرئيس الأمريكي صدقًا وغالبًا ما يكذب في أحاديثه، ولم يعد العالم -شعوبًا وقادة- يأخذ تصريحاته بحرفيتها، سواء ارتبط كذبه بشأن حجم الحشد الذي حضر مراسم تنصيبه، أو كان بشأن نيته الفعلية المضي قدمًا بتنفيذ تعهداته الدولية كافة. وقال المفاوض السابق في قضايا الشرق الأوسط آرون ديفيد ميلر إن الفجوة بين تصريحات ترامب والحقيقة تعد مشكلة بالنسبة إلى باقي العالم. ويتعجب ميلر قائلاً: «يتساءل حلفاؤنا وخصومنا، الى أي درجة يمكن الوثوق بالرئيس وما مدى مصداقيته؟ هل يعني ما يقول وهل يقول ما يعني؟». هذه شهادة دبلوماسي أمريكي كبير تولى من قبل ملف القضية الفلسطينية وغيرها من الملفات المهمة خلال رئاسات أمريكية متعددة.

ومن الأسطورة الى الواقع الإكاديمي، يؤكد كتاب «حقيقة الكذب في السياسات الدولية» لمؤلفه جون جي ميرشايمر، أن رؤساء الدول أكثر ميلاً للكذب في إطار العلاقات مع الدول الأخرى منه في السياسات الداخلية، وربما السبب وراء ذلك هو معادلة التكلفة والعائد. ويستهل المؤلف الفصل الأول من كتابه بمحاولة تعريف الكذب بوصفه أحد الأفعال التي تقع في إطار منظومة الخداع، ويعرض سبعة أنواع للكذب تبدأ بنشر الخوف بهدف خدمة الصالح العام، ثم الكذب بين الدول المتنافسة، حتى نصل الى التغطيات الاستراتيجية لتغطية فشل في إحدى السياسات بهدف عدم الإضرار بالدولة، مثل الكذب على الشعب بشأن درجة الكفاءة العسكرية في وقت الحرب، ليأتي «خلق الأسطورة القومية» في المرتبة الرابعة بهدف خلق نوع من الهوية الجماعية بين أفراد الشعب، «نحن» في مقابل «الآخر»، أما النوع الخامس من الكذب فهو الأكاذيب التي تؤدي الى خوض حرب لأسباب أخلاقية، حتى تأتي الأكاذيب الاجتماعية التي تهدف إلى الالتفاف حول الحاكم بغرض تحقيق مصلحة ذاتية. ويتعلق النوع الأخير بالكذب من أجل تغطية الفشل في السياسات، ولكن لأغراض ذاتية.

وإذا طبقنا ما جاء في كتاب «حقيقة الكذب في السياسات الدولية»، فإن جميع أنواع الكذب تقريبًا تنطبق على الرئيس الأمريكي الذي لم يعِ حتى يومنا الراهن نتيجة أكاذيبه، ليس على العالم فقط بل على المواطن الأمريكي نفسه، فعواقب الكذب الدولي تنعكس سلبًا على داخل الدولة أكثر منها في السياسات الخارجية؛ لأنها تقوض حرية المواطن على الاختيار وتعيق عملية صنع القرار. إضافة إلى ذلك، متى تفشى الكذب في دولة ديمقراطية، فقد مواطنوها الثقة فيها وآثروا أن يكونوا تحت حكم آخر. فترامب لم يستوعب أن كذبه سيؤدي الى خسارة أنصاره ومؤيديه من الناخبين. ونشير هنا الى كذبه حتى في مسألة نسبة المرأة التي أيدته في الانتخابات الرئاسية الأخيرة أمام منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، فقد ادعى ترامب فوزه بغالبية أصوات النساء الناخبات عام 2016، وهو ادعاء كاذب. قال: «تذكروا أنني فزت بأصوات النساء، تذكروا». ثم تساءل «لماذا تصوت النساء لمصلحة ترامب؟»، ليرد هو على نفسه: «حسنًا، أنا لا أعرف، ولكني حصلت على أكثر مما حصلت هي عليه -في إشارة الى منافسته كلينتون-. هذه الفكرة رائعة». وإذا كان ترامب يحب تقديم هذه المزاعم المزيفة تمامًا، فقد أشارت النتائج الحقيقية الى أن 54% من النساء صوتن لمصلحة هيلاري كلينتون في انتخابات 2016 مقابل 42% فقط لمصلحة ترامب. وحتى إذا كان ترامب حصل على نسبة 52% من أصوات النساء البيض، فهذا لا يقلل كذبه الفاضح؛ لأن تصويت النساء البيض له يجعل الأمر أسوأ ويظهر عنصرية ترامب.

وبمناسبة موضوعنا عن الكذب، خاصة أكاذيب ترامب، يفرد كتاب «حقيقة الكذب في السياسات الدولية» في فصله الخامس مخاطر الأكاذيب الأمريكية على العالم، وهذا انطلاقًا من فكرة مفادها أن القادة الذين يقومون على ديمقراطيات هم أكثر ميلاً للكذب على شعوبهم، من أجل خوض حرب اختيارية، وأنه من المحتمل أن تستمر الولايات المتحدة الأمريكية في التدخل في شؤون الدول الأخرى في الأمد المنظور، وربما يلجأ قادتها بكثرة إلى ادعاء الخوف، لا سيما أن الولايات المتحدة الأمريكية أصلاً آمنة، إذ تنفق على جيشها ما يعادل إنفاق دول العالم مجتمعة، ولديها أكبر ترسانة نووية ممكنة، ومن ثم فما يتبقى لديها، استجابة لتطلعاتها العالمية، إلا إقناع شعبها بأنه في خطر محدق، وبالتالي، فإن ادعاء الخوف سوف يكون السمة المميزة لخطاب الأمن القومي في المستقبل القريب.

وعن أكاذيب ترامب التي لا تعد ولا تحصي، فقد كتب الأمير تركي الفيصل سفير السعودية السابق في واشنطن ولندن، الى الرئيس الأمريكي خطابًا شديد اللهجة، فضح فيه أكاذيبه عندما ادعى أن «القدس عاصمة إسرائيل». وافتتح الفيصل خطابه الى ترامب الذي جاء في صورة مقال نشره بصحيفة «لوس أنجلوس تايمز» بالقول: «لا يا سيد ترامب: إنك تضع الافتراضات والاستراتيجيات الفاشلة نفسها التي اتخذها أسلافك من قبل.. وبهذه الخطوة، فإنك تكرر الافتراضات والاستراتيجيات الفاشلة التي أبداها سلفك الرئيس ترومان الذي خالف نصيحة وزير خارجيته الجنرال جورج مارشال واعترف بإسرائيل كدولة، ما عجل بالظلم التاريخي الذي سمح لتلك الدولة بقمع الشعب الفلسطيني واحتلال أرضه وغيرها من الأراضي العربية.. إن إراقة الدماء والفوضى ستكون نتاجًا بالتأكيد لمحاولتك الانتهازية التي تهدف إلى تحقيق مكاسب انتخابية».

ويبدو أن أكاذيب ترامب استثارت المواقع والصحف الأمريكية والعالمية، لتقف عند كل مناسبة لتعدد أكاذيبه على الشعب الأمريكي وقادة العالم الذين يلتقونه، ومن فضائح الرئيس الأمريكي ما كشفه المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي «إف بي آي» جيمس كومي عندما اتهم البيت الأبيض بالكذب والتشهير، في شهادة مثيرة رسمت صورة لترامب على أنه غير نزيه ويتصرف بصورة لا تليق بالأعراف الرئاسية. ووصف كومي ترامب بأنه شخص مزعج ومقلق جدًا ويكذب خلال الاجتماعات.

إجمالاً، لا يبدو ترامب مكترثًا بكوارث أكاذيبه التي تأتي بآثار سلبية في علاقات بلاده الدولية وابتعاده جمهوره بالداخل عنه واشمئزازه من تصرفاته، كما أن عواقب الكذب الدولي تنعكس سلبًا على داخل الدولة أكثر منها في السياسات الخارجية؛ لأنها تقوض حرية المواطن على الاختيار وتعيق عملية صنع القرار. إضافة إلى ذلك، متى تفشى الكذب في دولة ديمقراطية، فقد مواطنوها الثقة فيها، وآثروا أن يكونوا تحت حكم آخر.. أو هكذا أكد كتاب «حقيقة الكذب في السياسات الدولية».

* خبير إعلامي ودبلوماسي بجامعة الدول العربية

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز