عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
ضحايا وفاسدون

ضحايا وفاسدون

بقلم : أيمن عبد المجيد

لم يكن الطفل محمد 6 سنوات، يُدرك أنه على موعد مع الفساد، لم يتخيل والده، وائل عبدالحميد وهو يسلمه للممرضة، لتجهيزه لجراحة بسيطة تستهدف استئصال اللوزتين، أنه سيبدأ معاناة بلا نهاية، تفارقه فقط مع فقدانه الحياة.



كانت دقات الواحدة، من ظهر 31 ديسمبر 2013، تسابق دقات قلب الوالد، وهو في انتظار خروج طفله من غرفة العمليات، الطبيب قال له في البداية: "عملية بسيطة سيخرج من المستشفى بعد 24 ساعة، يتخلص بعدها من آلام التهابات اللوزتين".

كان الأبوان أمام غرفة العمليات، عندما خلع قلبيهما، حركة غير طبيعية ومحاولات لإطفاء الحريق.

الحريق لم يكن وليد ماس كهربائي، ولم تكن النيران المشتعلة في أثاث الغرفة، بل كانت هناك داخل أحشاء فلذة كبديهما، تكوي بلعومة، وتحرق أطراف أمعائه، ليفقد على إثرها القدرة على ابتلاع الطعام حتى الآن.

الطبيب استخدم قطنة مبللة بمادة مطهرة للجروح، وأداة  لكي الجرح الناتج عن استئصال اللوزتين، فإذا بالمكواة تشعل القطنة في حلق الطفل، فتولدت المأساة.

تضاعفت الآلام التي ذهب لتخفيفها، فقد الطفل القدرة على تناول الطعام، وفقدت الأسرة بأكملها لذة الحياة، وهم يشاهدونه يتناول غذاءه عبر محاليل، الـ24 ساعة، امتدت إلى ثلاثة أشهر، داخل هذا المستشفى، قبل أن يحول في 13 مارس 2014، إلى مستشفى الجامعة، في محاولة متأخرة لتدارك الكارثة دون جدوى.

حاول رئيس الوزراء حينها تدارك الكارثة، أصدر القرار رقم 1487 لسنة 2014 بسفر الطفل إلى فرنسا للعلاج على نفقة الدولة لمدة 30 ليلة بإجمالي 12 ألف يورو.

سافر الطفل، لكن معاناته لم تنتهِ، فالإهمال القاتل، كان أكبر من تدارك آثاره.

وبينما محمد وأسرته يحاولون مداواة جراحهم، كانت صفاء أحمد قنديل، تستعد لاستقبال مولودها الأول، ذهبت للمستشفى ذاته، 18 يوليو 2014، وفق التاريخ المدون بتذكرة الدخول.

لكن ليس الخروج من هذا المكان في كل الحالات أفضل من الدخول، قد يُتقبل أن تخرج صفاء بجثة جنينها، لكن الصدمة تخسر الأسرة الجنين، وتنقل صفاء إلى مستشفى الجامعة بين الحياة والموت، لتفاجأ هي وزوجها فيما بعد أنها لم تفقد طفلها الأول فقط، بل وقدرتها على الإنجاب مستقبلاً، فقد تم استئصال المبيض، في خطأ طبي فادح، اغتال كل أمل لها في الأمومة.

الواقعة تحرر بها المحضر، رقم 6911 لسنة 2014 إدارى ديرب نجم، وجاء في تقرير المستشفى الجامعي بالزقازيق: "حضرت المريضة في حالة هبوط حاد بالدورة الدموية، ونزيف ما بعد الولادة بعد عملية ولادة قيصرية، واستئصال للرحم خارج مستشفيات جامعة الزقازيق، وتم تحويل المريضة إلى العناية المركزة...".

إنه مستشفى ديرب نجم المركزي يا سادة، يومها وصفته بالسلخانة، لم يكن الوصف مبالغة في تقرير كتبته في "جريدة روزاليوسف" 27 مارس 2016، مخاطبًا وزير الصحة ومحافظ الشرقية حينها للتحرك، فالإهمال جسيم، والكوارث تتكرر، وهذه النماذج غيرها المئات لم تُذكر.

كانت مناسبة النشر كارثة جديدة، الحاج عبدالفتاح عبدالله سالم، تجاوز الستين من عمره، أصيب بوعكة مفاجئة، اشتباه في جلطة، استُدعي "طبيب" للكشف عليه بمنزله بالقرية، فقرر نقله  لأقرب مستشفى، لإنقاذه، فالحالة جلطة في المخ.

دخل العناية المركزة بمستشفى ديرب نجم المركزي، لتبدأ المعاناة قرابة 12 يوماً، يقول سمير صابر زوج كريمته: "كلما سألنا عن صحته، طلبوا منا أن نخرجه بدعوى عدم وجود طبيب مخ وأعصاب، فأحضرنا طبيبًا على نفقتنا من الخارج لمتابعته، وفي كل يوم يتكرر طلب إخراجه، لكن على أن نوقع أن خروجه على مسؤوليتنا، سوء معاملة من الأطباء وطاقم التمريض، وتحميلنا تكاليف علاج، رغم أن المستشقى حكومي، حتى الأشعة المقطعية، أخرجونا بالحالة لإجرائها خارج المستشفى".

هذه الحالة أُجبرت على الخروج دون تنسيق مع مستشفى آخر، يوم نشر الشكوى من الإهمال، وقبل التعافي، وتوفي المريض بعد ثلاثة أيام في منزله، هذه الواقعة في مارس 2016.

عقب النشر تلقيت ردًا من محافظ الشرقية، اللواء خالد سعيد، يُثبت واقعتي الطفل والسيدة، معددًا العقوبات الإدارية، التي طالت طاقم العملية، وأن القضاء ينظر قضية السيدة، التي فقدت طفلها ورحمها، لكن كانت المفاجأة أن المحافظ قال: إنه بمراجعة سجلات الدخول والخروج، لم يعثر على أي أثر للحاج عبدالفتاح عبدالله سالم.

وهنا واقعة فساد أضخم، فإدارة المستشفى فور مطالعة التحقيق، سارعت بطرد المريض خشية حضور تفتيش من الوزارة للتحقق من الشكوى، ومحت كل دليل على وجوده.

فاجأتهم في تعقيبي على رد المحافظ، بوثيقة رسمية صادرة عنه ذاته، موجهة إلى هيئة التأمين الصحي، تفيد بأن الضحية، محجوز بمستشفى ديرب نجم المركزي، بقسم العناية المركزة، حيث دخله بتاريخ 15 مارس 2016، والتشخيص جلطة في المخ، ومحل إقامته قرية أوليلة ديرب نجم، بالإضافة إلى أنه تم تسجيل الإجراءات التي تمت معه، والطبيب الذي قام بزيارته بتاريخ 20 مارس، أي بعد احتجازه بـ5 أيام.

لم ينتهِ مسلسل الإهمال، ولم يتسرب إليّ اليأس من محاربته، ففي 16 يناير 2018، طرقت ناقوس الخطر، وفي"بوابة روزاليوسف"، نشرت واقعة إهمال تُنذر بكارثة، في وحدة الغسيل الكلوي بذات المستشفى، تحت عنوان: "بالصور.. مستشقى ديرب نجم يستخدم غسالة ملابس بديلًا عن كبسولات الغسيل الكلوي".

واستيقظت، وزارة الصحة، على كارثة وحدة الغسيل الكلوي، وتحرك رئيس الوزراء، والنائب العام، ووزيرة الصحة، فالحدث جلل، وفاة ثلاثة مرضى، و36 آخرين هددهم المصير ذاته، أحدهم، حتى الآن، حالتها خطيرة في مستشفى الأحرار بالزقازيق.

التحرك الرسمي السريع، على وقع الكارثة، يقول "مصر تتغير"، قيادات جديدة وسط الجماهير، تسعى للإصلاح والتطوير، غير أن الإهمال البغيض، ضارب بجذوره، في عمق المجتمع، الفاسدون في الجحور، ينفثون سمومهم مثل الأفاعي من آنٍ لآخر، يحصدون أرواح البسطاء.

اقتلاع شجرة الفساد الخبيثة، ليس بالمهمة اليسيرة، ففروعها كثيرة، رشوة، ومحسوبية، وأكل أموال الشعب بالباطل، توقيعات في كشوف الحضور والانصراف بلا عمل، إهمال، تراخٍ، فاسدون عن عمد وعن غير عمد بالوراثة.
في قطاع السكك الحديدية، وفي المستشفيات العمومية، بل والخاصة تحوّل الكثير منها إلى متجر والمريض سلعة.

لم تكن كارثة وحدة الغسيل الكلوي بمستشفى ديرب نجم المركزي، وليدة الصدفة، ولم يكن إهمال تلك الوحدة التي تتعامل مع مرضى هم في أمس الحاجة لمن يخفف آلامهم، بمعزل عن إهمال في المستشفى ككل، والوقائع خير دليل.

وفق معلوماتي الموثقة، من مصادر بالمستشفى، فلاتر الوحدة الخاصة بمياه الغسيل الكلوي، عانت من مشكلة كبيرة منذ شهر، وتم التكتم عليها، حتى تقرر تغيير الفلاتر بواسطة الشركة المتعاقد معها، وتم ذلك يوم الجمعة الماضي، كونه إجازة، لا تستقبل فيه وحدة الغسيل حالات، لكن في اليوم التالي في السادسة صباح السبت، تم إدخال المرضى على أجهزة الغسيل دون، تشغيل للفلاتر 4 ساعات سابقة كما هو مفترض.

الحالات الخمس، التي جلست أولًا عانت من اختناق وتوقف في عضلة القلب، ودخلت الحالات الأحدث جلوسًا في إغماءات مماثلة، فالوحدة تستوعب 45 حالة، كان موجودًا منها، 39 جلوسهم على الأجهزة بفارق دقائق، ما أسهم في نجاة من سارع بنزع الجهاز من يديه.

الأزمة في أن الطاقم المفترض تواجده في ذلك الوقت كان غير موجود، فتمت الاستعانة بالأكسجين بحضانات الأطفال، والعناية المركزة لإسعاف حالات الاختناق.

لن نستبق التحقيقات، لكن الإهمال في هذا المكان ضارب بجذوره في عمق تاريخ الفساد، مستشفى مركزي بلا أشعة مقطعية، ولا طبيب مخ وأعصاب، حالات ليست بالقليلة، عندما يشكو ذووهم الإهمال، يتم إرهابهم بتلفيق محاضر لأسر المرضى، تدعي اعتداءهم على أطباء وأفراد بطاقم التمريض، لإجبارهم على الصمت، والتنازل عن حقوقهم تجاه الفسدة والمهملين.

إحدى الحالات التي توفيت أمس، دفعوا أسرتها لحملها متوفاة والذهاب بها لقريتها، لإخفاء الجريمة، دون تحرير أي محضر بالواقعة، لتُسجل فيما بعد وفاة طبيعية بالمنزل، وبعد أن رصدت أجهزة الدولة الواقعة، أسرعت إدارة المستشفى لاستدعاء الأسرة ومعها الجثمان!

الدولة المصرية، تُحدث إصلاحات ضخمة في المنظومة الصحية، الإنجازات كبيرة، والقيادات، ليست تلك القيادات في الماضي، رئيس الوزراء المهندس مصطفى مدبولى، تعاطى سريعًا مع الأزمة، وكلف الوزيرة هالة زايد، بالذهاب للشرقية، وجدت في المستشفى، المحافظ الدكتور ممدوح غراب وجد في الساعات الأولى، اتخذ قرارات، والنائب العام المستشار نبيل صادق أمر بتحقيق موسع، فريق من النيابة العامة كان يُجري المعاينات بالمستشفى، ويستمع لأسر الضحايا ويحقق، تم توفير بدائل لمرضى الغسيل الكلوي بأقصى سرعة.

الدولة تغيرت، لا تهاون مع فساد، لكن ماذا نحن فاعلون مع شجرة الفساد؟! الطبيب الذي يترك عمله بالمستشفى ويذهب لعيادته منا، والممرضة من بيننا، والمرتشي والراشي مواطنون، الفساد  ليس رشوة فقط، بل الإهمال والتراخي فساد، التقصير في أداء وظيفتك فساد، تنهب الطالب كمدرس، وتهمل في أداء وظيفتك في المدرسة، وتتفرغ للدروس الخصوصية، فيمرض ابنك تذهب به للمستشفى، لا تجد الطبيب فينهبك في عيادته، وأنت تنهب ابنه في المدرسة، وهكذا السلسلة في غيرها من المهن.

هذا المستشفى، مثال لغيره من أوكار الفساد الإداري، التي تُحبط المواطن البسيط، وتشوه، كل إنجاز يتحقق، والحل في الضرب بيد من حديد، لاقتلاع تلك الشجرة الخبيثة، مسؤولية الرقابة الإدارية، والسلطات المحلية، والإرادة المجتمعية.

بتر أفرع فاسدة، يردع مثيلاتها، الإصلاح بالردع، الإعلام عليه دور، فهو يقع موقع السمع والبصر من المجتمع، تسليط الضوء على الشروخ في المجتمع بموضوعية، بالوثائق والمستندات، يُسهم في ترميمها، التعتيم أو التضخيم، يؤدي لاتساع الشروخ وانهيار البنيان.

مصر ستبقى، ستحيا قوية، آمنة، شعبها في رباط إلى يوم الدين، لكنها فقط ستتقدم، إذا نجحنا في اقتلاع وردع وإصلاح الفاسدين المهملين المتراخين، وهذه مسؤولية الدولة والمجتمع معًا.

[email protected]
 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز