عاجل
الأحد 22 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
We
البنك الاهلي
من مذكرات بغل!

من مذكرات بغل!

بقلم : عماد عبد المقصود

السيد بغل كان يتفاخر بين أقرانه بسيرة أمه الفرَسّة معددًا مآثرها، إذ كانت تجرّ عربة طبيب القرية، وها هو قد سار على خطاها يجر عربة أحد كبار الأعيان، ولما تقدمت سنّه وتقادمت هيئته وخارت قواه أرسلوا به إلى المطحن فتذكر سيرة أبيه الحمار!



هنا.. تنتهي الإحالة للقصة القصيرة التي كتبها الشاعر والأديب الفرنسي "لافونتين" في كتابه المعروف والمعنون بـ"خرافات لافونتين".

إذ سلك درب سلفه الحكيم "بيدَبا" حين كتب للملك "دبشليم" مجموعة من الحكايات ليستلهم الأخير منها، ويتعلم الحكم والعظات حول شؤون البلاد والعباد، لكن على لسان الطير والحيوان فيما عرف بـ"حكايات كليلة ودمنة".

بالعودة للسيد "لافونتين" الغاضب المعترض على التمييز الاجتماعي والطبقية المفتعلة وغير المبررة بين عائلة الخيول ذات المظهر القوي الجذاب وعائلة الحمير ذات المظهر الأدنى، رغم تساويهما في الأهمية وصلة القرابة والمصاهرة التي تربطهما مع اختلافات بسيطة في المهام، ما نتج عنها سلالة البغال الأعلى درجة اجتماعيًا من الحمير وأدنى من الأحصنة في السلم الاجتماعي، ومنها بطل القصة البغل الشاب في ذروة عنفوانه وتحققه مهنيا واجتماعيا الذي تذكر أمه وقوتها وأصالة العرق الذي تنتمي إليه، متباهيا بسيرتها ومؤكدا لأقرانه من البغال أصالته ومقامه الرفيع في تلك اللحظة، متناسيا أباه الحمار ضعيف القدر، وعندما تقدمت سنه وفقد لياقته البدنية ومظهره الجذاب فقد مركزه المهني- الذي استمد منه فخره- فأرسلوا به لعمل أدنى درجة من الذي كان يمتهنه بالدوران المستمر دافعا عجلة الطحين بالمطحن، فتذكر سيرة أبيه الحمار في مراحل ضعفه وهوانه ونسي أمه الفرسة. 

هكذا شخّص الأمراض الاجتماعية الطبقية التي كانت متفشية في عالمه وقتها، وهي نفس الأمراض التي نعاني من تفشيها في الوقت الحالي، ففي الوقت الذي بدأ محمد علي في بناء امبراطورية مصرية وليدة على أساس راسخ من التعليم الفني والحرفي، الذي انبثق عنه فيما بعد التعليم الأساسي وما عرف بمدارس التعليم العالي- وهي لب المشكلة- تنامى الاهتمام اجتماعيا بالأخير بعدما حمل خريجوه صفة "المؤهل العالي" التي تتيح لحاملها المزيد من احتمالات الترقي العلمي المتمثلة في درجات البكالوريوس ثم الماجستير ثم الدكتوراه.. إلخ، ومن ثم الصعود في السلم الاجتماعي في مقابل ما وصف ظلمًا بحامل "المؤهل الفني"، الذي لا يتعدّى ترقّيه اجتماعيا مرحلة الثانوية الفنية.

في الوقت الذي لم تنتبه وزارتا التعليم- بقصد أو بدون - إلى هذه السياسات الخاطئة ذات الأثر الكارثي على مستقبل البلاد، بتهميش التعليم الفني والمساهمة بشكل كبير وفعّال في تكريس الصورة الذهنية الاجتماعية السيئة تجاه الحاصلين على شهادته، بدءًا بوصف أنماط التعليم بـ"العالي" في مقابل نمط أقل وأدنى هو "الفني"، مرورًا بحصر الدرجات العلمية للتعليم الفني في كليات التعليم الصناعي والجامعات العمالية فقط، في مقابل إتاحتها بشكل كبير ومتنوع في جميع التخصصات أمام حامل شهادة التعليم العالي حتي مكافأة طالب التعليم الفني المتميز، بإتاحة الفرصة له للالتحاق بكليات التعليم العالي كالهندسة والزراعة والفنون التطبيقية والتجارة وخلافه، هي مسألة لا تبعد كثيرًا عن مظاهر التمييز والفرز الكارثي بين الطلبة على أساس مستوى الذكاء والقدرات التعليمية. كل هذا ساهم بشكل كبير في تدهور مستويات العمالة الفنية المهيأة لأسواق العمل، وأدى إلى غزو العمالة الوافدة وارتفاع نسب البطالة.

فما الحل إذًا؟

إعادة النظر في السياسات الحالية ووضع استراتيجيات تعليمية جديدة تحوّل الصورة الذهنية السلبية تجاه التعليم الفني، وتكريس مبدأ التكافؤ في الدرجات العلمية والمهنية على أساس التنوّع بدلاً من التمييز على أساس الذكاء والقدرات.

دعونا نبدأ بتغيير هذا المسمى التمييزي المسيء المدعو "التعليم العالي". 

فالنهضة الحقيقية حاليًا بحاجة شديدة إلى التعليم الفني وأبنائه كتفًا بكتف مع خريجي الجامعات، تمامًا مثلما لا تستقيم الحياة من دون الخيل والحمير معًا في مخيلة السيد لافونتين.
 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز