عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
مصر "المدنية"

مصر "المدنية"

بقلم : هاني عبدالله

عندما تدق غدًا (الأحد)، بالعاصمة الإدارية الجديدة، أجراس أكبر كاتدرائية بالشرق الأوسط [إلى جوار صوت المؤذن]، فلاشك أننا أمام حدث يتجاوز «الاستثنائية».. الاستثناء هنا لا يعود على أصل «الشخصية المصرية» (المتسامحة فطريًا)، بل على المتغير [العارض] الذى نال من تلك الشخصية، ابتداء من «سبعينيات» القرن الماضى.. إذ شهدت «حقبة السبعينيات» موجة عاتية من المد السلفى، بشقيه (الجهادى والدعوى).



وعبر سنوات خلت نجح هذا المد فى أن يغرس عديدًا من الأنماط و«القناعات الفقهية» داخل البيئة المصرية.. وهى أنماط غريبة – بحكم تكوينها – عن تلك البيئة.

.. فبامتداد أغلب سنوات «تاريخ الفقه المصرى» لم ينتج «فقهاء القاهرة» فهمًا يشوبه التعصب، أو التكفير، أو رفض الآخر.. لكننا شهدنا تلك السمات مع صعود تيار الإسلام السياسى، والمدارس السلفية المختلفة، التى أراد كلٌ منها أن يغير من طبيعة «الفهم المصرى» للدين.. إما لحسابه التنظيمى، أو لحساب «فقه الدول النفطية» (الوافد).. إذ كانت تُغدق – فى كل الأحوال – ملايين الجنيهات لهذا الغرض.

يرفض، يقينًا، الفهم المصرى للدين نظرات «الاستعلاء الإيمانى» على الآخر.. يرى أن هذا الاستعلاء – فى حد ذاته - ينتقص من الدين.. أدرك المصريون (قبل ظهور ردة السبعينيات الفقهية) أنه لا يوجد أى نص فى القرآن الكريم، أو السنة النبوية، يُحرم بناء الكنائس، أو يحض على هدمها والاعتداء عليها.. من أفرزتهم تلك الفترة، هم فقط الذين يقولون هذا (!).. تلاميذهم – أيضًا – فى هذه الأيام يقولون هذا (!)

من نبت مصر (المتسامحة)، كان أن ظهر فقيه نابه خلال القرن الثانى الهجرى، اسمه «الليث بن سعد».. وكان الليث نظيرًا لإمام دار الهجرة (مالك بن أنس)، وكان بينه وبين «الإمام مالك» مناظرات عكست علو كعبه فى الفقه.. وعندما جاء «الإمام الشافعى» إلى مصر (وكان تلميذًا لمالك)، واطلع على تراث الإمام المصرى قال قولته الشهيرة: «رحم الله الليث، كان أفقه من مالك).

وكان من بين «فتاوى الليث» ما اعتبر خلاله أن الاعتداء على الكنائس، اعتداءٌ على مساجد الله التى يجب أن يرفع فيها اسمه .. وهى فتوى جديرة بالتوقف، لمن يريد أن يستشعر حقيقة الإسلام وسماحته .. فعندما تعرض أحد ولاة مصر للكنائس، كتب «الليث» للخليفة، مطالبًا بعزل الوالى لأنه مبتدع، يخالف روح الإسلام.. واستشهد الإمام بقوله تعالى : }وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَآ{ (البقرة/ الآية 114).. فكان أن عزل الخليفة الوالى بجريمته.

وكان أن استقبل الفقيه المصرى الوالى الجديد، بأن طلب إعادة بناء ما تهدّم من الكنائس، وأن يبنى كنائس جديدة كلما طلب ذلك المسيحيون، إذ أن رسول الله (ص) قال: «استوصوا بالقبط خيرا».. وأوضح الليث أن أكثر الكنائس التى كانت قائمة بمصر بناها الصحابة، ممن قادوا جيش الفتح . وأن إجماع مثل هذا العدد من الصحابة فى قوة السنة [فما كانوا ليجمعوا على أمر إلا لأنهم تعلموه من الرسول].

وتابع الليث: إن عمر بن الخطاب أبى أن يصلى فى الكنيسة ببيت المقدس كيلا يصنعها مسلم بعده؛ ولكى تظل للكنائس حرية العبادة فيها، واستقلالها.. ثم إن عمر بن الخطاب عاهد المسيحيين فى بيت المقدس على حماية أنفسهم وأموالهم وعقيدتهم وكنائسهم وأوقاف هذه الكنائس وأموالها، وأقر الصحابة بالإجماع، فهذا الصنيع حجة على المسلمين إلى آخر الزمان.

ومن قبل عمر، حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من إيذاء أهل الذمة، وهم أصحاب البلاد المفتوحة من أهل الكتاب الذين لم يدخلوا الإسلام بل احتفظوا بدينهم. فهم ذمة الله ورسوله.. وفى الحديث الشريف: «من آذى ذميًا حُدَّ (عوقب) يوم القيامة بسياط من نار».. وفى حديث آخر: «من آذى ذميًا فأنا خصمه».

سار عديدٌ من الفقهاء، وأهل الفتوى – فيما بعد - على النهج الذى أسسه الليث (ووافق فى عديدٍ من جوانبه ما قال به الإمام أبو حنيفة النعمان).. وكان من بين من دار فى مضماره – أيضًا - قاضى مصر (الإمام أبو عبدالرحمن عبدالله بن لهيعة) .. والإمام محمد بن القاسم (تلميذ الإمام مالك).

وحديثًا.. لمسنا آثاره – كذلك - فى منهج الأستاذ الإمام «محمد عبده».. وعرفنا شيئًا من قبسه فيما أنتجه الأزهرى النابه، مجتهد عصره، الشيخ «عبدالمتعال الصعيدى» .. ثم انحازت له دار الإفتاء المصرية عبر أكثر من مرحلة تالية.. ربما كان أحدثها ما قال به مفتى الجمهورية أخيرًا (إذ سبقه فى الرأى نفسه كلٌ من: الإمام الأكبر «الراحل» د. محمد سيد طنطاوى، و د. نصر فريد واصل، ود. على جمعة).. وما كان لنا – إن أردنا التعداد – أن نستبعد أيا من نبهاء مدرسة الفقه [المصرى] عن القائمة.

وليس – قطعًا – من سبيل الممالأة .. أن نقطع (بملء الفم) أن الدولة المصرية (فى عهد الرئيس السيسى) كانت هى الأكثر انتصارًا وتحركًا فى اتجاه تدعيم قيم المواطنة، والتسامح، وترسيخ أركان «الدولة المدنية».. ولعل تصريحات الرئيس [المتكررة] فى هذا الصدد تتحدث عن نفسها، وتشرح ذاتها.

وكما يلفظ «الجسد» كل جسم غريب.. فإن الأوطان – لا ريب – تلفظ كل فكر دخيل.

.. فطوبى لمن يتقربون لله بالتعبد فى محراب الوطن.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز