عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
عندما قال الشعب "لا"

عندما قال الشعب "لا"

بقلم : أيمن عبد المجيد

الزمان: الخامسة فجر 25 يناير 1952، المكان لوكاندة: بالحي الشعبي بمدينة الإسماعيلية، الحدث فراش اللوكاندة مسرعًا إلى غرفة اليوزباشي مصطفى رفعت: عساكر الإنجليز محاصرين البلد والمحافظة.



اليوزباشي مصطفى، يُسرع بارتداء بزته العسكرية، وفي الوقت ذاته أسرع الضابطان مصطفى عشوب وعبد المسيح مرقس، إلى غرفته لينطلق ثلاثتهم بمسدساتهم إلى المحافظة.

والمحافظة هي قسم شرطة الإسماعيلية، فيللا قديمة من الخشب من عهد الخديو إسماعيل.

في طريقهما قال رفعت: "نقرأ الفاتحة فلا نعلم هنرجع أحياء أم لا"، اليوزباشي عبد المسيح يُعقب: "سأقرأها معكم"، لحظات ويقتربون من المحافظة، الدبابات تُحاصرها وآلاف من جنود الاحتلال حول الشوارع المحيطة.

هناك على الباب وقف قائد قوات الاحتلال "إكسهام"، ناظرًا بحدة إلى اليوزباشي رفعت قائلًا: بلغته الإنجليزية ما معناه: "رايح فين؟"، يرد القائد المصري: "داخل شغلي مكاني، أنت ماذا تفعل هنا؟"، تعلو نبرة الحديث حدة، المحتل: "عليكم إنزال علمكم هذا..."لفظ قذر" من على هذا المبنى".

اليوزباشي رفعت: "هذا مستحيل علم مصر لن ينزل من على الأرض المصرية"، يرد المحتل: "أمامكم 5 دقائق لتنسحب مع جنودك وتخلي المحافظة، وإلا أطلقنا النار عليكم".

البطل المصري يرد بحدة: "لن نترك مكاننا وإذا أطلقت النار سنرد عليك بنيراننا"، ينتهي الحديث، ويدخل رفعت إلى جنوده، 800 جندي نصفهم مسلح ببندقية "لي إنفلد"، والنصف الآخر مسلح بعصي خيزران فقط، يروي لهم ما حدث في أقل من خمس دقائق، فكان ردهم: "لقد قررنا المقاومة، لن نستسلم" العساكر البسطاء منهم من قال: "ماذا نقول لزوجاتنا إذا تركنا قسمنا وأرضنا وعدنا لبيوتنا؟!"، فكان القرار الذي أبلغه رفعت لقوات الاحتلال: "لن نستسلم إلا جثثًا هامدة".

وقبل أن تصل الرسالة، كان الجنود المصريون الأبطال قد نظموا صفوفهم، وأخذوا مواقعهم الدفاعية، بينما الضباط، رفعت وعشوب وعبد المسيح، يعطونهم التعليمات بالحفاظ على الذخيرة قدر الإمكان، وعدم إطلاق النار إلا على هدف من جنود الاحتلال يظهر أمامهم.

بعد خمس دقائق من التهديد الأخير، في السادسة صباحًا، أطلق المحتلون النيران بكثافة، ورد عليهم أبطال الشرطة المصرية، ببسالة وقوة رغم فارق التسليح، والأعداد، لتستمر قوة الردع المصرية بلا ضحايا أربع ساعات، حتى ارتقى أول شهيد شاب مجند من أفراد الشرطة في العاشرة صباحًا.

لم يقف أهالي الإسماعيلية مكتوفي الأيدي، بل كانت المقاومة الشعبية نساء وشبابًا ورجالًا، يحاولون من آنٍ لآخر اختراق دبابات الحصار، وتسلق سور المحافظة، لإمداد الأبطال بـ"الساندويتشات، للغداء، والقليل مما يملكونه من ذخيرة، سبق لهم جلبها من معسكرات الاحتلال، التي هاجموها في عمليات فدائية".

الفدائيون، من أبناء الشعب المصري، وما حققوه من بطولات في مواجهة الاحتلال، عقب إلغاء النحاس باشا معاهدة 1936، أوجع المحتلين وأسقط منهم المئات، فهناك استطاع طفل شبل في عرين الأطفال، التسلل ليلًا، إلى "كامب إنجليزي"، وأحرق خيامهم وهم بداخلها، وعندما تبقى معه قطرات بنزين في العبوة، خلع فانلته وبللها بالوقود وأشعلها ملقيًا بها على خيمة أخرى.

عن هؤلاء، كان اليوزباشي مصطفى رفعت يقرأ في الصحافة الإنجليزية، فقد كان في إنجلترا في بعثة عام 1951، موفدًا من كلية البوليس المصري للحصول على فرقة، ومعه اليوزباشي صلاح ذو الفقار- الفنان فيما بعد- واليوزباشي صلاح دسوقي، وعندما عاد ثلاثتهم إلى القاهرة، تم تعيينهم مدرسين بكلية البوليس.

لم تمض أيام، حتى تقدم الثلاثة، بطلب نقلهم إلى الإسماعيلية، فقد حصلوا على فرقة متقدمة في قتال المدن، ويرغبون في تنظيم صفوف المقاومة الشعبية، فوافق مدير الكلية.

ذهب الثلاثة، كانوا بالليل يرتدون الزي المدني، وينضمون وعدد من جنودهم للفدائيين، يدربونهم ويوجعون المحتل بعملياتهم، من سار من جنود الاحتلال بمفرده ليلًا ذهب إلى ترعة الإسماعيلية جثة هامدة، توالت الضربات لمعسكرات الاحتلال، ولطرق الإمداد.

كوبري الإسماعيلية، ومعسكر التل الكبير، كان من أهم العمليات، التي سقط فيها المئات من جنود الاحتلال، حاصر المحتلون المدينة، عزلوا أنفسهم في "الحي الإفرنجي"، خلف الأسلاك الشائكة، هجروا المئات من أهالي المدينة، فازداد إصرار الشعب وشرطته، على مواصلة الكفاح.

حاول الاحتلال طرد الشرطة المصرية، لعلمه بدورها الوطني السري في المشاركة في العمليات الفدائية، وتدريب وتنظيم وقيادة الفدائيين.

كانت الساعة قد اقتربت من الحادية عشرة، صباحًا، عندما رن جرس الهاتف، رد عامل السويتش، فإذا بفؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية على الهاتف: "صباح الخير"، "صباح الخير يا باشا"، "مين القائد عندك يا ابني"، "اليوزباشي صلاح رفعت يا فندم"، "ناديه".. عامل السويتش يطلب اليوزباشي الذي حضر مسرعًا.

الباشا: "إيه اللي بيحصل عندك؟"، رفعت: "قوات الاحتلال محاصرة المدينة والمحافظة، طلبوا منا الاستسلام والعودة للقاهرة، رفضنا، أطلقوا علينا النار ونحن ندافع".. "طيب وقراركم إيه"، اليوزباشي: "لن نترك مكاننا إلا جثثًا هامدة"، الباشا: "شدوا حيلكم ربنا معاكم".. المكالمة انتهت.

خرج اليوزباشي رفعت من غرفة السويتش مسرعًا، لمواصلة القتال، دقائق وصوت انفجار دانة مدفع تصيب الغرف فتدمرها، ويستشهد عامل السويتش.

المعركة تحتدم، أبطال الشرطة المصرية، يرتقي منهم شهداء، يتم نقلهم إلى غرفة المأمور، المصابون يزداد عددهم، دانات المدافع تبتر أذرع وأرجل، يخرج اليوزباشي رفعت، يوقف المحتل النيران، ظنًا منه أنه خرج ليعلن أنه استسلم، يفاجئهم: أطلب الإسعاف للجرحى وفق القانون الدولي.. يرفضون ويطلبون الاستسلام، يرد: "لن نستسلم".. يعاودون إطلاق النيران.

إنهم يألمون كما نتألم، لكن أبطالنا يرجون من الله ما لا يرجو المحتل، النصر أو الشهادة، يسقط قتلى وجرحى في صفوف الاحتلال، تمر الساعات ومعركة الإرادة والكرامة مستمرة.

الساعة قاربت على السادسة مساءً، ذخيرة أبطال مصر نفدت، الشهداء بلغ عددهم 50 شهيدًا، و80 مصابًا، بينما القتلى في صفوف الاحتلال 13 قتيلًا و12 جريحًا، خسائر كبيرة للمحتل المتفوق عددًا وعتادًا، 400 فقط ببنادق بسيطة وذخيرة محدودة، يوقعون هذا العدد في صفوف محتل يقاتل بدبابات ومدافع، وتأتيه الإمدادات على مدار اليوم.

أنين وصراخ الجرحى يزداد، مع انفجار مواسير المياه تحت وطأة القصف، الجروح تكتوي مع المياه الملوثة، النيران تشتعل في أجزاء من المبنى المصنوع من الخشب، الذخيرة نفدت، لكن الإرادة والكرامة باقية.

القرار.. اليوزباشي رفعت، سأخرج بمسدسي، سأحاول قتل إكسهام، وألقى ربي شهيدًا، خرج فإذا به يلقى الجنرال "ماتيوس"، قائد قوات الاحتلال في مدن القنال كافة، جاء بنفسه بعد أن علم ببسالة وصلابة قوات الشرطة المصرية.

المفاجأة: ما أن شاهد البطل المصري صلاح رفعت، حتى ضرب بقدمه في الأرض موجهًا له التحية العسكرية، فرد بطل مصر التحية.. "ماتيوس": "إنكم أبطال لقد أديتم واجبكم ببسالة، فعلتم كل ما في وسعكم للدفاع عن أرضكم، يمكنك الاستسلام، والخروج".

رفعت: "بشروطنا، نخرج مرفوعي الرأس دون رفع الأيدي، إسعاف جرحانا، وبضمان المعاملة الكريمة لمقاتلينا بكلمة شرف"، "ماتيوس": "لكم ما طلبتم كلمة شرف".

يعود البطل لمقاتليه، ينظم صفوفهم يخرجون مرفوعي الهامة في صف عسكري منظم، يعتقلهم المحتل في معسكر بصحراء الإسماعيلية.

قبل المعركة، كانت المقاومة الشعبية قد امتدت إلى ترك كل العمالة المصرية، 30 ألفًا، العمل في معسكرات المحتل، ومتعهدو توريد الأغذية قاطعوهم.

في المعتقل كان غذاء الأبطال، رغيف خبز ونصف برتقالة ونصف بصلة، وورق "كرنب"، احتج البطل ورجاله: "هل هذه كلمة الشرف؟!".. جاءهم الرد: "إن هذا هو غذاء جنود بريطانيا أيضًا، وهو يأتي من قبرص، فقد قاطعنا المتعهدون المصريون، وبإمكانكم كتابة خطاب لحكومتكم، وسنقدم لكم ما يرسلونه من طعام".

الشعب المصري كله، كان في معركة، بكل فئاته، وانتماءاته، الوطنية هي الكلمة العليا، الشباب يتظاهر احتجاجًا في القاهرة، ينخرط في صفوف المقاومة، والشرطة تحتج على عدوان الاحتلال في حديقة الأزبكية.

اجتمع الأبطال في المعتقل، انتبهوا إلى أن خطابهم قد يتيح للمحتل فرصة لفك الحصار الشعبي عليه، فكان ردهم: "قشر الكرنب جميل واعتدنا عليه".. وصلت رسالتهم للاحتلال.

كان هناك، في مكان آخر، أبطال في مؤسسة وطنية، جيش مصر، الضباط الأحرار، يرصدون الغليان في مصر، وتواطؤ الملك، وتضحيات الشعب، يتصلون سرًا بقيادات للمقاومة الشعبية، وفي الصحافة الوطنية الحرة، كانت هناك أقلام تدافع عن حق الشعب في الاستقلال.

كانت بطولة الشرطة، لبنة في بناء الثورة، التي كان يرتفع بنيانها خلف ستار الكتمان، ولم تمر أشهر حتى حسم الضباط الأحرار أمرهم، وعبّروا عن شعبهم، فسقطت الملكية والاحتلال.

قصة بطولة حقيقية، ولو أن كثيرًا من الأجيال الشابة لا يعلمونها، في هذا اليوم الذي ضحى فيه شهداء الشرطة بدمائهم، نحتفل بعيد الشرطة، بهذه المعركة التي كان الشعب وشرطته وجيشه يدًا واحدة لتحرير الوطن.

في هذه المناسبة، وبعد عشرات السنين، حاول العملاء تحويل رغبة شعب في الإصلاح، والتغيير، إلى محاولة لهدم الدولة والتدمير، قفز تنظيم الإخوان الإرهابي على المظاهرات، حوّلها إلى حرائق في أقسام الشرطة، ثم سطا على الحكم.

هو ذاته التنظيم الذي أسسه الاحتلال البريطاني في الإسماعيلية، تلك المدينة الشاهدة على البطولات.

وفي معركة مكافحة الإرهاب، عميل الاستعمار بوجهه الجديد، يواجه أبطال الجيش والشرطة، وشعب مصر، ببسالة، في معركة جديدة للحفاظ على الدولة الوطنية، للحفاظ على الكرامة، والتنمية، تدفع الأثمان غالية من دماء الشهداء، شعارهم: الوطن أغلى من أرواحنا.

رحم الله شهداء الوطن، وأكرم العيون الساهرة على أمنه، وحفظ جنده وشعبه الذي قال "لا" للمحتل قديمًا، ويقولها اليوم "لا" للإرهاب ومن والاه.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز