عاجل
الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
سر بخل توفيق الحكيم!

سر بخل توفيق الحكيم!

بقلم : رشاد كامل

كان أكثر ما يضايق الأديب الكبير الأستاذ «توفيق الحكيم» أن يكتب أحد عنه أنه إنسان كريم جدا ولكنه يحب أن يتظاهر بالبخل! ! وكان ينفى بشدة تلك الأقوال التى تصفه بالكرم.. وذات يوم من أكتوبر سنة 1945 كتب «الحكيم» يقول : «إن سمعة البخيل تفيده ولا تضره! أن كل واحد منكم إذا جلس فى قهوة أقبل عليه الشحاذون كالنمل ينغصون حياته إلا أنا!!



فإنهم لا يجرءون على أن يقتربوا منى! إنهم يعرفوننى ويعرفون أننى لن أدفع مليمًا ولهذا يئسوا من معونتى أليست هذه سعادة؟! ثم هناك الجمعيات الخيرية التى تضيقون بكثرة ما تبيعه لكم من تذاكر.. إنها جميعا تغفلنى لأنها تعلم أننى بخيل والبخيل لا يدفع! ولم يحدث فى حياتى أن تلقيت خطاب استعطاف إلا مرة واحدة جاءنى خطاب يطلب صاحبه إعانة قدرها عشرون جنيها، وسررت كثيرا بهذا المغفل الذى أحسن الظن بكرمى، ورحت أقرأ الخطاب مرة ومرتين وثلاث مرات مسرورا من أنى سأخيب ظنه، ثم تطلعت إلى العنوان فإذا بالخطاب مرسل إلى رجل يقيم فى الدور العلوى وقد أعطاه لى عامل البريد خطأ».

وعندما أصدر الأستاذان «مصطفى وعلى أمين» «أخبار اليوم» فى 11 نوفمبر سنة 1944 فقد نجحا فى ضم «توفيق الحكيم» إلى أخبار اليوم يخصها بكل ما يكتبه من قصص ولا يكتب فى صحيفة أخرى. بل اقنعاه بالسفر إلى فلسطين وظل بها ثلاثة أسابيع ليكتب عدة مقالات عن مشاهداته وانطباعاته.  وعن قرب تأكد «مصطفى أمين» من حكاية بخل «الحكيم» وكتب مقالاً رائعًا يصف فيه جو أسرة أخبار اليوم ومحاولة إقناع الحكيم بالعدول عن بخله!

كتب الأستاذ «مصطفى أمين» فى مقاله «إخراج آدم من الجنة» يقول: «الأستاذ» توفيق الحكيم كان يعيش فى شقة متواضعة، ثم استكثرها على نفسه، فأجرها من باطنه ليكسب عشرة جنيهات كل شهر وعاش فى بنسيون! ! و«توفيق» لا يفهم فى المآدب وإنما يحرص على حضورها!! ولا ينفق شيئا وإنما يتلذذ بأن يقتصد شيئا! أسعد أوقات حياته يوم تدفع له أنت ثمن القهوة التى شربها.. وهو يحبك ويأنس إليك ويثق بك إذا جلست إلى جانبه فى النادى ولم تطلب شيئا على حسابه! وهو يكرهك وينفر منك ويبتعد عنك إذا تركته يوما جالسا ونسيت أن تدفع الحساب!  وهو يحب الاقتصاد والتقتير ويشترى البدلة ويبقيها عنده عشرات السنين، وكثيرا ما يضيق هو على البدلة أو تضيق البذلة عليه ولكنه يؤثر ألا يوسعها أو يضيقها عند الترزى لأن ذلك سيكلفه مالا! وإنما يجتهد أن يزيد وزنه أو ينقصه حتى يناسب البذلة نفسها!! وهو لا يهمه ما يأكل وإنما يستطيب أن يشترى أرخص ثمار المانجو ويستطيبها أكثر لو يأكلها بالمجان، وهو لا يفضل صنفا معينا أو طبقا خاصا وإنما يلذ له أن يأكل الطعمية فيدفع غيره الحساب، ولا يلذ له مطلقا أفخر الديوك إذا كان هو الذى سيدفع الحساب!.

انتهى ما كتبه «مصطفى أمين» ونشرته الأستاذة الصحفية «مى شاهين» فى كتابها البديع «شارع الصحافة»

 ربما كان الوحيد الذى يشك فى مسألة «بخل» توفيق الحكيم هو الأديب الكبير د.«يوسف Nدريس» حتى تجاورا وعملا فى مؤسسة الأهرام مع غيرهما من نجوم الأدب والكتابة!

لكن يوسف إدريس تأكد من هذه الحقيقة من «توفيق الحكيم» نفسه وليس من أى أحد آخر، ويروى د. يوسف إدريس الحكاية قائلا: «أحيانا يتحول مكتبى فى الأهرام إلى مضيفة كمضايف العُمد لا ينقصها الشاى والقهوة. وأنا أحب الناس والشباب والاندماج فى نقاش مستعصى أو إثارة قضية ليس فيها علامات تعصب أو بكاء على أحوالنا التى تسر،هذا كله عندى أهم من أى قراءة أو انفراد وأجد فيه أحيانا متعة كمتعة الكتابة!

أحب الناس إلى درجة أنى أحزن حقيقة حين يصلنى خطاب من صديق قارئ يستحلفنى فيه أن ارد ولو بكلمة! ! ولا أملك أن أجيب، شيء ما بينى وبين كتابة الرسائل حتى لو كانت كلمة! !

وقد كان من الممكن للأهرام أن يحل المشكلة ويعين لى سكرتيرة، ولكن الأهرام لا يفعل، ليس تقصيرًا وإنما احترام لتقاليد «الأهرام» فى هذا المجال بالذات، والتقليد بالطبع ليس من تقاليد الأهرام ولكنه من صنع وابتكار أستاذنا ووالدنا الحبيب «توفيق الحكيم» فحين Bرادوا أن يعينوا له سكرتيرة أو سكرتير احتج بشدة ورفض هذا الأمر رفضا باتا!! فلما عمل زميلنا وصديقنا الكبير «نجيب محفوظ» كاتبا للأهرام، أيضا عرضوا عليه حكاية السكرتارية، وعرف برفض استاذنا وأستاذه «توفيق الحكيم» أصر هو الآخر، واحد من إصراراته المبدئية أن يعين له سكرتير بينما الاستاذ الكبير بلا سكرتير!

ويكمل د. يوسف إدريس: ولقد ظللت أنكش من ناحيتى حتى عنيت فى أن الموضوع له سبب وحيد خالد ليس المرأة بطبيعة الحال ولكنه بخل الأستاذ «توفيق الحكيم» الذى كثيرا ما أخذته على محمل الهزل، ولكن أتضح أن المسألة حقيقية لا هزل فيها، فهو مثلا لا يكتب إلا بقلم رصاص من النوع المضلع الباهت، الرصاص المتعب جدا فى إمساكه والكتابة به، باختصار Bرخص قلم رصاص يباع فى الأسواق وحين سألته عن سر تمسكه بالكتابة بالقلم الرصاص ؟!

قال : حتى إذا ضاع لا أحزن عليه! !

وفى لحظة خلوة جميلة وأنا أوصل الأستاذ «توفيق الحكيم» إلى بيته بعربيتى سألته: لماذا رفض حقيقة حكاية السكرتيرة واستن هذا التقليد الذى نعانى منه جميعا ؟!

قال لى: بصراحة بصراحة؟! قلت: بصراحة بصراحة ؟!

قال : أنا اتعقدت من مسألة السكرتيرات هذه حين كنت ذات عام أو بالضبط سنة 1942 أزور الأستاذ «التابعى» الله يرحمه فى مكتبه وحين نادى السكرتيرة ليعهد لها بشيء لاحظ أنها تتثاءب! فسألها فقالت: أصل إمبارح كان عيد ميلادى يا Bستاذ وسهرنا شوية! !

قال التابعى: عيد ميلادك ولا تقوليليش؟!

قالت : مسألة ما تستاهلش يا بيه؟! قال إزاى ما تستاهلش!

وضرب «التابعى» يده فى جيبه فوجد أن ما معه ورقتين من ذات العشرة جنيهات.

وقال : دول بدل هدية متواضعة جدا، إنما حاعوضها لك السنة الجارية إن شاء الله!».

صمت د. يوسف إدريس وهو يتأمل هذا الموقف وسأل الحكيم : طيب وماذا فى ذلك عقدك ؟!

قال: سكرتيرة «التابعى» قالتها ببراءة دلوقتى بقى بيحتفلوا بعيد ميلادهم مرتين وثلاثة فى السنة! أندب أنا فى هدية عيد ميلاد كل سنة عشان إيه؟!

قلت : مش ضرورى! تجاهل! !

قال: بيطلعوا أخبث «تروح جايبالى يوم عيد ميلادى كرافتة رجالى بجنيه ولازم غصب عنى أردها لها!!»

ويكمل د. يوسف إدريس معلقًا: «وهكذا من أجل ألا يكلف نفسه مشقة أن يستعين ويستجير بهذه السكرتيرة أو تلك لتكتب له خطابا على الآلة الكاتبة للناشر، وعناء الذهاب إلى البوسطة، والوقوف فى طابور لشراء الطابع، ومشوار آخر للصندوق! ! يكلف نفسه عناء أنه حين يود التحدث فى أمر أو إلى شخص خاص، يستعير مكتب «إحسان عبدالقدوس» أو «مصطفى بهجت بدوى» ثلاثة أرباع وقته فى الأهرام وفى غيره مضيع فى مسائل كان من الممكن أن يحلها سكرتير أو سكرتيرة ليتفرغ هو إلى ما هو أخطر!

كل هذا حتى لا يكلف نفسه عناء هدية فى عيد ميلاد أو عيدية لسكرتير يكلف نفسه ويكلفنا كل هذا العناء الذى وضع تقاليده!»

ويقول د. يوسف إدريس إنه سأل الحكيم ذات مرة : لماذا يشجع ويشيع عن نفسه حكاية البخل هذه ؟! وأذكر أنه أجابنى بما يدل على ذكاء شديد إذ قال لى : أن البخيل الذى يحاول أن يكتم أمر بخله عبيط لأنه سيدفع الناس جميعا لانتقاده والنيل منه دائما لبخله! أما الذى يعرف الناس جميعا عنه أنه بخيل فإن أحدا لا يذكره بسوء بخله، وتتحول المسألة من رذيلة مضطر أن يدافع عنها إلى نكتة! بل إلى ما هو أكثر إلى حقيقة لا يناقشها أحد، توفر عليك متاعب الحرج من كل إنسان تصادفه، وبهذا تبخل دون إزعاج او استنكار وتزاول متعتك تلك علنا وعلى رؤوس الأشهاد ودون ذرة لوم من أحد! »

ورحم الله الجميع

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز