عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
أمي هذه السيدة

أمي هذه السيدة

بقلم : سماح زيدان

كانت تذهب لجارتنا حتى ترضعني منها.. كما أذكر أنها اصطحبتني للكثير من المستشفيات حينما كنت صغيرة أعانى من بعض الأمراض، وكانت قلقة كثيرًا رغم أنني لم أكن الابنة الأساسية لها.. بل كان لديها ما يكفيها من شؤون أبنائها الستة كي تتابعهم.. لكن سرعان ما تخطت هذا القلق بطمأنة طبيب المستشفى أنني سأتجاوز ما أعانيه من أمراض عابرة.  



أذكر ذلك اليوم الذي اصطحبتني فيه لاستديو "شمس"، لكي تقوم بتصويري للتقديم بالمدرسة الابتدائية.. كما أذكر مراحل تعليمي التي لم أكن متفوقة فيها أبدًا ولكنني كنت على قدر من الذكاء فكنت أعطيها ما تريد بأن أقرأ عليها بعض العناوين في شريط الأخبار، وكنت فى الصف الثانى الإبتدائى وقتها مما يجعلها تتباهي بي وبنبوغي من وجهة نظرها أني طالما عرفت القراءة والكتابة فأنا عبقرية بالنسبة لها.. وكان ذلك يكفي لكي تتحدث لي بزهو وفخر قائلة: "اسم الله عليك..هتبقي نابغة".. فكنت أتعجب من ذلك التشجيع المبالغ فيه من وجهة نظري وأقول لا ينبغي أن يقال عني بأني نابغة وأنا لست كذلك.. لا بد أن أحاول.. فكنت ألجأ للمذاكرة واجتياز اختبار الإملاء بالدرجات النهائية وتزغرد لحصولي على درجات مرتفعة في الاختبارات الشهرية، مما يجعلها تتمادى في التباهي بي أمام جميع الجيران والأقارب فأحمل أنا علي عاتقي مسؤولية ألا يُقال عني ما ليس بي فأسعي دائمًا للتفوق بقدر المستطاع.

كانت تريد لي أن أحقق لها ما لم تستطع تحقيقه لنفسها أو لأبنائها.. حيث ضغط عدد من أهل البلد علي والدها لكي يخرجها من التعليم، بعد أن وصلت للصف السادس الابتدائي بحجة أن تعليم البنات في هذا الوقت كان عيبًا كبيرًا ولا ينبغي أن تترك ابنتك بالتعليم في حين أن العمدة قد أخرج ابنته ولم تكمل تعليمها.. وأبنائها كانت الظروف المادية ضاغطة لحد كبير لا يكفي لتعليم ستة من الأبناء وكان جميعهم غير مهتمين بالتعليم.

وحينما دخلت الثانوية العامة كانت تعاملني معاملة الأستاذة التي تفوقت على الجميع والأولى والفريدة من نوعها ضمن أبنائها.. ولم تعتبرني أبدًا من الأحفاد في تربيتها لي ولأخي.

كنت أردد لها أن هذا النجاح بفضل مساندتها وتشجيعها لي بينما كانت ترد أنه بفضل مجهودي وتعبي.. وبفضل سهري وإرادتي.. وأن لكل مجتهد نصيب.. لكن الحقيقة بداخلي.. أنني لم أجد نموذج أمامي أكمل مساره التعليمي حتي دخول الجامعة لكي أقتدي به ولا كنت أدري ما هي الجامعة، وماذا بعدها ولكني فقط علمت أن المتفوقين لابد أن يسيروا في التعليم هكذا فأردت أن أكن متفوقة حتي أستحق ما تقوله الجدة عني.. خاصة أنها كانت تعتبر الدراسة الجامعية شيء مبهر ينتظرني.

عندما أنهيت السنة الثانية بالمرحلة الثانوية مجموع متوسط حوالي ٨٢.٦ % وكنت في غاية الامتعاض، لأنني لم أكن جادة كثيرًا في المذاكرة هذا العام تعاطفت معي قليلًا وقالت لي إن أمامي الفرصة للتعويض في الصف الثالث الثانوي كما كانت لا تسمح لشيء أيًا كان بتعطيلي عن مهمة المذاكرة.. فكانت شديدة حازمة لدرجة كبيرة.. إذا ما رأت أني سأفكر مثل الفتيات المراهقة كانت تردني للصواب فورًا ولم تسمح بأي تهاون في مسألة المستقبل، فحينما كانت تلاحظ أني سأفكر بالحب وأحلام البنات كانت توقظني بأن المستقبل أهم من كل هذه الأحلام الوردية فكانت حريصة على أن أكن أنا أولًا والبقية ستأتي.. وفي آخر كل هذه النصائح تقل: "شهادتك وشغلك هم سلاحك وإنتي حرة لو عاوزة تتجوزي معنديش مانع..".. فكان ردي الحازم يطمئنها ويجعلها تنظر لي بعينين لامعتين.

كان كافيًا دخولي للبيت بعد إنهاء اليوم الدراسي حتى تأمر الجميع بالصمت من أجل الأستاذة لكي أستطع المذاكرة، وكان فقط يكفي كلمة مني لإنهاء نزاع بينها وبين أيًا من كان في المنزل بحجة أن الصوت عالٍ جدًا وأني لا أستطع المذاكرة حتي يحل الصمت، وأجلس بجوارها لتهدأ وأقول لها إنني قلت هذا لأنني لا أريدها تغضب فكانت تنقلب من الثورة العارمة للضحك كالأطفال.

كانت نتيجتي في الصف الثالث الثانوي ٩٨.٥% قد فرحتها كثيرًا وجعلتها تغني طوال اليوم "من الثانوية للكلية".. فكانت تفرح بإنجازاتي الصغيرة بالنسبة لي.. حتى إنها بعد نجاحي وقبولي بالجامعة أصرت على أن أتصل بأمي -"ابنتها"- كي أريها الكارنيه.. رغم علمي بأن أمي لن تهتم لكنها كانت تصمم في كل عام أن أتصل بها لأخبرها أني نجحت.. كما تصمم على أن أخبر أبي وأعمامي.. لكن لا أحد يفرح فرحتها ويزهو زهوها بنجاحي.. كنت أقول لها "أنتِ اللي نجحتِ يا شوشو..".

آمال وطموحات كثيرة أثناء الدراسة الجامعية وفرحتها الكبيرة بدخولي قسم الإعلام بجامعة عين شمس لا تضاهيها فرحة.. أذكر أنني حينما كنت أنجح بالجامعة فأقول لها تقدير المواد بزعل أحيانا لوجود مادة بتقدير مقبول فتترك أني قلت لها مادة تقديرها مقبول ومادة جيد ومادتين جيد جدا ومادتين امتياز لتقل للجميع وبفرحة حقيقية مستقرها القلب وبتعبيرها البسيط: "اسم الله عليها نجحت بتقدير ممتاز..".

كانت تتمنى من الله ألا تموت قبل تخرجي في الجامعة وتمسك "الشهادة الكبيرة" بيديها كما كانت تعبر بطريقتها البسيطة.. وبالفعل ماتت بعد حصولي على الليسانس بستة أشهر فقط.. فرحت بتخرجي كثيرًا وبانضمامي لمؤسسة "روز اليوسف" كتدريب وقتها وكانت تعطيني المصروف، وكأني لازلت في فترة الدراسة معتزة وفخورة بي وبتجربتي الجديدة.

إنها لم تكن فقط "جدتي"، بل كانت "أمي"، التي ربتني منذ أن كنت في الدنيا لا أملك من العمر سوى عامين.. وبعد أن بدأت في دراسة الإعلام بدأت في حضور الملتقيات والندوات والسفر في المعسكرات التدريبية التابعة لوزارة الشباب والرياضة بعد محايلات كثيرة معها، حيث كان التأخير والبيات خارج المنزل لديها خط أحمر.. فكانت تخاف كثيرًا عليّ وحينما لا تجد مفر من إلحاحي بأن هذا مستقبلي "وإزاي تقولي إنك عاوزاني أبقى حاجة كبيرة زي ما بتقولي وإنتي بتمنعيني من حضور الأنشطة المهمة وإزاي أكون جريئة واختلط بالناس وإنتي رافضة إني اندمج معاهم؟! إنتي مش واثقة فيّا؟"، كان ردها علي الفور أنا واثقة فيكي وآمن عليكي تروحي أي مكان.. بس بخاف عليكي.. وتوافق ثم تأتي بالكثير من الحيل بعد الموافقة لتقنعني بالإقلاع عن فكرة السفر.. منها حِجة "مين هيفطرني الصبح ويديني حقنة الأنسولين؟"، فكنت قبل أي سفر أرتب مع زوجة خالي أني سأهاتفها في اليومين فترة غيابي عن المنزل كي تقوم بمهامي لحين عودتي.. فكانت لا تجد بدًا من الموافقة وحين العودة تحتضنني كثيرًا وتقول: "كانوا سنتين مش يومين".

كانت تترك نفسها لي مستسلمة أفعل ما أشاء فألبسها ما أريد وأمشط شعرها كيفما يحلو لي.. وكانت تكره الذهاب للمستشفى حينما يشتد عليها المرض.. فكانت صلبة وشديدة إلي حد كبير ولا أحد يثنيها عن رأيها وكانت مهمتي ثقيلة حينما حاولت إقناعها أن نذهب للمستشفى لعلاج جرح القدم السكري الذي تطور لحدٍ بعيد.. رفضت كثيرًا  وقالت "عاوزة أموت في بيتي".. ولم ترجع عن الرفض إلا حينما رأت انهياري أمامها باكية وقولي لها: "هتموتي وتسيبيني لمين؟" فظلت تبكي بشدة إلى جواري وحينما دخل خالي الكبير وجدها تبكي بشدة، وتكرر جملتي وتوصيه عليّ وعلى أخي كثيرًا في حالة موتها.

ذهبنا للمستشفى في اليوم التالي، وتم حجزها لأكثر من شهر لأن الجرح في قدمها كان شديدا يحتاج لبتر نصف القدم.. كنت أتابع حالتها مع الدكتور وحدي، وأطلب منه عدم مصارحتها بموضوع البتر، وأن يقنعها أن الموضوع فقط تنظيف للجرح.. وحينما جاء قرار العملية كنت وحدي معها في المستشفى، حيث قرروا فجأة إجراء العملية ليلًا وطلبوا مني إمضاء أحد أبنائها على الإقرار قبل العملية، ولكني لم أرد أن أوقظهم في هذا الوقت المتأخر، حيث كنا تعدينا منتصف الليل وبصعوبة أقنعتهم أن تكن إمضتي هي الحل.. كان نظرها في هذا الوقت قد ضعف كثيرًا فأكدت على الدكتور ألا يقل لها ما هي العملية لأني على يقين أنها سترفض وتطلب العودة للمنزل.

تفاصيل كثيرة ومشاهد مهمة في قرار اتخذته بشأنها دون أخذ رأيها ففي هذه اللحظة كنت أشعر أنها ملكيتي الخاصة ولابد أن أحافظ عليها.. كنت أسرح في فترة ما بعد شفائها وأحلم بأن تجري عملية بعينيها حتى يعود نظرها وآخذها بكرسيها المتحرك لنخرج في الأماكن التي تعرفت عليها بعد تخرجي في الجامعة وممارسة عملي فكنت أريد أن أجعلها ترى وسط البلد وتجلس على النيل وتمشي في أنحاء جاردن سيتي بصحبتي وهي ترى وتمتع عينيها بالجمال من حولها خاصة أنها لم تعرف ولم تذهب لأي مكان سوى بيتها والسوق والبلد الريفي الذي ولدت به.

كنا قد اقتربنا من عيد الأضحى ونحن بالمستشفى وقد أجرت العملية فقررت علي استحياء أن تقنعني بأنها ملّت من المستشفى وتريد فقط العودة للمنزل لقضاء العيد وسط الأبناء والأحفاد فوافقت بشرط العودة للمستشفى بعد العيد مباشرة.. ثم تعلمت من الطبيب المتابع لحالتها وقرأت كثيرًا عن كيفية الغيار علي جرحها  وبالفعل قمت بذلك مرتين يوميًا.. لم تنفذ وعدها ورفضت العودة للمستشفى فخضعت لرغبتها تلك وماتت بعد ثلاثة أشهر.

تركتني في حالة من التيه لم أدرك ماذا حدث كنت أقوم بالغيار علي الجرح حسب تعليمات الطبيب.. كيف الآن ماتت وتركتني ها أنا أقف علي غُسلها وأقل أنها نائمة وستستيقظ.. ولكنها لم تفعل رغم أني قبّلت قدمها كثيرًا كي تستجب ولكنها لم تفعل..

كانت تستنكر غضبي من أمي وأبي لعدم تواجدهما معي وترى أنني لن أكون إلا بنفسي.. لا ينبغي أن أحتاج لأحد وأنها ستكون معي ما دام في عمرها بقية.. وإن لم يكن فأنا أكفيني وأفيض.

هذه السيدة أمي .. أمي وليستْ جَدتي.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز