عاجل
الإثنين 23 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
We
البنك الاهلي
إلى معشوقتي

إلى معشوقتي

لم أعرف للعشق، قبلها معنى، ولا لخفقان القلب صوتًا، في بعدها كمن فقدت البصر، لا أرى في سواها جمالًا.

على بعد كيلومترات منها، أشتم عطرها الفواح، يُداعب وجهي نسيمها، كأنه قميص يوسف، الملقى على أبيه فارتد بصيرًا.



في عيونها، عوالم منسية، وأبواب سرية، ألجُ منها، إلى جنان لا نهائية، في كل لقاء، أغادرها، لكنها تحتلني، تسكنني، تأسرني، فلا أتحرر منها إلا بإبحار آخر في محيطها متلاطم النسمات.

نور إلهي، يشع من وجهها، لا مثيل له في هذا الكون الفسيح، نور، لا تراه سوى عين قلب عاشق، فـ«قلوب العاشقين لها عيون، ترى ما لا يراه العارفون».

في حضرة جمالها، صوفي أنا، ناسك متعبد في محرابها، متيم بترابها، مدمن لعطرها، متفرغ، لسبر أغوارها.

بينما كانت أعين السياسيين، على تركة مبارك بعد رحيله ٢٠١١، وتركيز الإعلام، على الحشود في الميادين في كل جمعة، كانت عيوني مصوبة نحو معشوقتي، أخشى من خطر يتهددها.

وبينما أراقبها، شاهدت غُربانًا سود، يحملون رايات الموت، يطلقون نيرانهم على قسم شرطة العريش، أدركت أنها بداية، ليل حالك يلوح في الأفق، وخطر داهم، يدقون بهجومهم طبوله.

تحسست سلاحي، قلمي وكاميرتي، وشددت الرحيل إليها، فهي في أحوج ما تكون الآن- مايو ٢٠١١- إلى كل عاشق لترابها.

لم يكن القرار بالسهل، وأنا أرى من حولي في العاصمة، أصْبَحَ فِي المدينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، فما بالي بمحبوبتي السابحة في الفراغ.

ما إن اقتربت من جسدها، حتى اشتممت عطرها، واغتسلت عيناي بنورها، كانت البداية، بوادي فيران، لأرى الواقع المُرَّ، معشوقتي غزاها الإهمال بعد الصهاينة، فباتت مأوى لتجار المخدرات، والهاربين من الأحكام الجنائية، قبل أن يقصدها غربان الموت.

لم يؤلمها أن وقعت في الأسر يومًا، فسرعان ما تحررت، لكن ما أوجعها، هجر عاشقها لسنوات، سنوات عجاف قضتها من التحرير في انتظار التعمير.

معشوقتي هي سيناء الحبيبة، نورها السماوي، بقايا نور الله، يوم طلب نبيه موسى أن يراه، «فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا».

نور الله، الذي جعل الجبل دكًا، ما زال باقيًا هناك في سيناء، لا يفنى، يشع في قلوب الزائرين، ففي أرض الفيروز يهيمون عشقًا، كصوفي يذوب في عشق المحبوب.

عطرها الفواح، ونسيمها العليل، هو من دماء الشهداء، الذين احتضنتهم بين أحشائها، تؤنس بهم وحدتها، وتغتسل بطهارتهم، من دنس المحتلين.

كانت صدمة الفقد في ٦٧، لم تنم أعين المصريين، شهورًا معدودة، وبدأت حرب الاستنزاف، سنوات معدودة، وكان انتصار أكتوبر المبين، وفي مثل هذا اليوم ٢٥ إبريل ١٩٨٢، انسحب آخر جندي صهيوني، فكان عيد التحرير، وإن بقي جزء عزيز، حتى استردت مصر آخر ذرة من ترابها، برفع علم مصر على طابا ١٥ مارس ١٩٨٩.

في سيناء سار الأنبياء، موسى، والعائلة المقدسة، المسيح عيسى وأمه مريم، في سيناء تجلى الله، وأقسم بجزء من أرضها: «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» صدق الله العظيم.

في هذه الأرض الطيبة، المباركة، وضع الله الكنوز، لينتفع بها شعب مصر، فباتت مطمع اللصوص على مر السنين، بالقرب منها المسجد الأقصى، الذي بارك الله من حوله.

هناك في سيناء الحبيبة، مكثت عشرة أيام، أتحسس جسدها، بحثًا عن الجراح، للتضميد، فإذا بها ليست جراحًا فقط، بل ثقوب في جسدها، أنفاق، يتسلل منها كل معتدٍ أثيم عتل بعد ذلك زنيم.

يومها رصدت ثقوب الجسد، ولجت إلى أحدها، حققت من قلبها، فحمل عنوان حلقتي الأولى عددها: ١٢٠٠ نفق في سيناء، وحوى المضمون كل تفاصيلها.

الجرح الآخر، كان الهاربين من الأحكام الجنائية، وتجار السلاح، فكان تحذيري من أن تجاهل احتوائهم يجعلهمُ فريسة سهلة للاستقطاب من قبل المتطرفين، لتقديم الدعم اللوجستي والسلاح.

كانت بذور التطرّف، آخذة للتو في النمو، عبر مجالس سميت بالشرعية، للحكم بين الناس، وهي أبعد ما تكون عن تلك المجالس العرفية القبلية، التي يحكم بها حكماء البادية، بل تلك «الشرعية»، قال أحد القائمين عليها في حوار معي: "للحكم بشرع الله".

آه من تلك العبارات الحاملة في ظاهرها التقوى، وفي تفاصيلها تكمن الشياطين، فأي شرع يبغون، وبأي تفسير يحكمون، ما هي إلا عبارات يرددونها، لجذب الأتباع، وتنفيذ أجندات المحركين والممولين.

من وادي فيران، حيث يزرع بعض الهاربين، المخدرات، متذرعين، بأنه الضرر الأقل، في ظل خيارات محدودة، وتنمية مفقودة، تُمكن من كسب العيش.

إلى رفح والشيخ زويد، حيث ثقوب في جسد الوطن، ومافيا التهريب، قابلت في حلقاتي أحدهم، فسألته وأنا أحاوره، لماذا تعمل في تهريب السلع عبر الأنفاق؟

أجاب: لمساعدة إخوتي المجاهدين ضد الاحتلال في غزة.

قلت حسنًا: طن السكر المُدعم، في السوق المصرية بخمسة آلاف جنيه، بكم ترسله لإخوتك الفلسطينيين؟

أجاب: بـ١٠ آلاف جنيه!

سألته: لماذا تربح من إخوتك المجاهدين، إذا كنت تساعد، فلماذا لا يكون بسعره؟!

أدرك ما استدرجته إليه لكشف شعاراتهم الجوفاء، فصرح بأن القائمين على الأنفاق من حماس، بالطرف الآخر يحصدون الملايين!

وزاد: إن الصهاينة يستهدفون شباب مصر عبر تهريب الهيروين، كاشفًا حزمة من التفاصيل.

ومن الشيخ زويد، كانت محطتي التالية، في العريش، حيث الميناء الذي تصدر منه يوميًا آلاف الأطنان من الرمال الكريستالية، بأثمانٍ زهيدة، لتصدر لنا منتجات باهظة الثمن.

ومنها إلى بئر العبد، حيث جفت ترعة السلام، وماتت الأشجار، واقتلعت قطبان السكك الحديد، وتألمت أسماك بحيرة البردويل من الإهمال.

وفي نخل كانت قصة أخرى، غربانها، مافيا تهريب البشر، خاصة الأفارقة إلى عاصمة الاحتلال الصهيوني.. وفي ذلك حكايات ومآسٍ يدمى لها القلب، وأخطار على الأمن القومي، كانت يومها محدقة.

عُدت من لقاء معشوقتي، مثقلًا بالهموم، وفي جعبتي ١٦ تحقيقًا صحفيًا، نظمتها في سلسلة تحت عنوان: «سيناء.. ثلاثون عامًا من التحرير في انتظار التعمير».. ولكل حلقة عنوانها ومفاجآتها، وفي القلب منها روشتة العلاج.

زادت مخاوفي، وما ألمحت إليه من خطر، تعاظم، بعد أن اعتلى تنظيم الإخوان الحكم، فبات الحفاظ على «حياة الخاطفين والمخطوفين»، على حد سواء، وبات من في الحكم من الإخوان يقود الإرهابيين، ويجالسهم، بل وعندما لفظه الشعب في ٣٠ يونيو يحركهم.

دفعنا الثمن غاليًا، من دماء شهداء مصر الأبرار، الأحفاد السائرون على درب الأجداد، لكن من أجل المعشوقة كل التضحيات تهون، عاد الأمان لربوعها، نجح جيش وشرطة مصر في صيد الأفاعي، ولم توقف المعركة قوافل التعمير.

قضت مصر بقرارات حاسمة، عقب ثورة ٣٠ يونيو على الثقوب، التي كانت معبر الأفاعي، وتطورت بحيرة البردويل، وأنجزت أنفاق عملاقة تربط الدلتا بسيناء، وازدهرت التنمية، في كل ربوعها، وستستكمل، جبل الجلالة، وطرق وعمران، وتقدير لأبناء سيناء الشرفاء المرابطين.

معشوقتي، ها هي بعد عشرات السنين من التحرير، تشهد التعمير.

عيد سعيد يا سيناء.

 

[email protected]

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز