عاجل
الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
رمضان زين الزمان ( 1 )

رمضان زين الزمان ( 1 )

بقلم : د. عزة بدر

ننتظره بشغف، ندعو طوال العام ونبتهل "اللهم بلغنا رمضان"، فإذا أشرق علينا طالت أعمارنا، أحيينا لياليه بالسهر، وبالعبادة، وبالترويح عن الأفئدة، تزدان المساجد بالأنوار، ويتخذ كل منا زينته عند كل مسجد، نختزن أفراح العام لنحتفل بها في رمضان، نصبح أطفاله وعياله، نغتذى من طاقة الحنان، نرفع أبصارنا إلى السماء ليصبح كل يوم فيه وكأنه ليلة قدر.



 في طفولتي كنت أعيش على حلم بلوغ رمضان، من عام لعام، أنتظر طاقة من نور، وأراها في منامي شلالًا من ضوء، أصفه لأمي فتقول إنني بذلك أكون قد رأيت ليلة القدر فهي في خيال العامة طاقة نور، وباقة ضوء تتراءى للسعيدين، وكنت منهم لأنى رأيتها في منامي بعين قلبي، ظللت أرصد احتفالات رمضان في قلبي، أحلامي بليلة قدره التي كانت تتجلى سندسا وقطيفة خضراء ومسابح خضراء تضيء ما حولي، ظللت كالآخرين أرقب الضياء من بعيد، مصابيح مقام سيدى على الصياد، على الشاطئ المقابل لبيتنا في دمياط، وشموعه وهي تضيء فتصبح أكثر تألقا في رمضان.

كان مكانه في قرية السنانية على الضفة المواجهة للشاطئ، في مواجهة مبنى المحافظة ومجلس المدينة وبيتنا، كنت قد دلفت إليه أكثر من مرة بالمركب الذي كان وسيلتنا للشاطئ الآخر، للسنانية.

 وهناك كانت "أم أحمد"، عاشقة المقام، وكانت أناشيدها الرمضانية التي تحفظها عن السلف وربما تبتكرها تتوهج دائما في وجداني، ما زلت أذكرها وهي تنشد:

" ياللي شهدتو النبي وازى وصفاته / وازى علم النبوة ما بين كتافاته

خاطري أزور النبي صاحب مقام عالي / وأطوف بالبيت وأتملى ببير زمزم

وأقول لعينى افرحي / حرم النبي غالي

ياهند سيفك مسن / انسن منه فيه

كتبوا الرجال عرضحال / قالت هند أنا أوديه

واللي يميل في الطريق / بسيفى أنا أمضيه

عجبي على عبد كان ماشي ورا سيده

جات له العناية صبح سيده يبوس إيده

وفى آخر الليل يقرا الوِرد ويعيده

وفى آخر الليل يسلم على النبى بإيده".

كانت تشكل مخيالي بحكاياتها، حيث يبدع على الصياد أسطورته عندما يظهر أولياء دمياط المشهورين، كل يُظهر كراماته، أبو المعاطي، وسيدي شيحة، وسيدى أبو ماضي حتى يلقى على الصياد بكلمته وهي أنه يستطيع أن يصطاد بدبوس!، ولما شال الدبوس ورفعه استقر على مرمى البصر على الشاطئ الآخر فأصبحت بنت الشاطئ الآخر من الأحلام، وحكايات الست " أم أحمد " الشهرزادية.

 كنت " دنيا زاد " التي تختبئ لتسمع وتختزن، يختلط الحلم بالأسطورة، بحكايات البنات وهن يقصصن تفاصيل الإفطار في قريتهن القريبة، أذكرهن بلهجاتهن الحلوة المميزة عندما يجئن إلى دمياط، يقصدن شارع التجاري، وشارع الشرباصي أشهر أحياء المدينة، حيث يشترين حاجاتهن استعدادا لرمضان ومن بعده العيد، أجدهن في السوق المسقوفة عند جامع البحر غاديات رائحات في نشاط ما قبل الإفطار.

كان بعضهن من عزبة البرج، حيث كان الإفطار حينها (في ثمانينيات القرن الماضي) على السنجق، وليس على المدفع، والسنجق هو علم كبير، عندما يراه الأهلون يفطرون، وعندما يرتفع ويرفرف، ترفرف أعلام الأطفال الصغيرة الملونة على أسطح البيوت ساعة الإفطار وساعة السحور، وكانت ألوانها أخضر في أحمر، وكانت هناك أطعمة مميزة تصطف على موائد رمضان.

 ومن بعض العادات في قرى دمياط: الخبيز على قدر الإفطار، واللبن المِرقَدْ ويصنعونه بوضع المنفحة أو "الأجزة" على اللبن قبل الإفطار بساعة أو ساعتين، ويأكلونه في الإفطار أو في السحور لما يجمد بالعيش.

وفى قرية" العادلية " كانوا يأكلون " الكماج " وهو خبز صغير بالسمسم والدقيق والسمنة، خبز رقيق يؤكل مع اللبن، وهو وجبة خفيفة على المعدة في الصيام.

 كانت كلى عيون تسجل ما ترى من مشاهد، وكلى آذان تسمع الأشعار والأزجال والحكايات، عن أيام عز وخير وكلها في رمضان، كانت دمياط العالم بالنسبة لى، الواقع والمخيال، الكبار يحكون وذاكرتي تسجل: "كانت المحال التجارية تستفتح نهارها بالقرآن الكريم، وكانت المواكب الدينية تخرج من الجوامع، فمن كل جامع موكب على مدى ثلاثين ليلة من سيدي الشرباصي، والبدري، والمتبولي، والشبطانى، وشيحة، وجامع أبو المعاطى، والمعينى، والشيخ أطعم، والرهيني".

وكان شهر رمضان كله عمل، يحكى كبار السن أنهم كانوا يعملون في المتاجر، وورش النجارة من الساعة التاسعة صباحا حتى الثالثة فجرا ويستريحون ساعة الإفطار، وساعة السحور فقط، فتعلمت السهر والعمل حتى الصباح، في أيديهم قدوم، وفى يدى قلم، في أعينهم قمر ساهر، وفى عينى قمر يعرف أنه ما أطال النوم عمرا، ولا قصَّر في الأعمار طول السهر.

لم يبق من مخيال طفولتي عن سيدي على الصياد سوى أهازيج الست أم أحمد، والشمعات الثلاث اللواتي كانت توقدهن أمى عند المقام عندما أنجح، ظلال الشمعات، وقبس النور المقترن بأمنيات النجاح، لكن المقام نفسه قد تم هدمه لتوسعة الشارع منذ عدة سنوات، لكن ذكر المقام لا يزال محفورا في خيال شاعر دمياط طاهر أبو فاشا، في قصيدته عن دمياط.

الجمال والفن والشعر والعمل، وليالى العبادة، والمساجد التي تأخذ زينتها هي في خاطرى، الحياة التي ازدانت برمضان فجعلته زين الزمان، وزاد المشتاق الذي جعلنى أتبع نصيحة يحى حقى، الذي قرن الشعر بالمعمار، فقد كان سؤاله الأول لى وأنا أعرض عليه بعض قصائدى: هل زرت جامع السلطان حسن، وجامع الرفاعى؟، فأجبته: لا، كنت لا زلت قادمة لتوى من دمياط فلم أتعرف على ملامح القاهرة، فقال: لا يكتب شعرا جميلا من لم ير جامع السلطان حسن وجامع الرفاعى، إنهما كبنيان القصيدة.

 ومن هذه اللحظة الفارقة، صرت من عشاق القاهرة، ذات المآذن المضيئة، والكنائس بأجراسها، بيوت العبادة التي تأتلق بفنون المعمار التي تشبه الشعر، والإيمان الذي أبدع الإنسان.

وعندما قابلت نجيب محفوظ وسألته عن أحد أحياء القاهرة التي دارت به أحداث ثلاثيته - وكنت مغرمة بتسجيل التفاصيل عن أحياء القاهرة وشوارعها – أين يبدأ حى السُكرية وأين ينتهى؟، فأجابنى بإجابته العبقرية " تبدأ في داخلى ثم لا تنتهى "

فقررت أن أسير على درب الجمال، درب المحبة، واكتشاف الأمكنة من حولى، والإنسان في تفاعله مع المكان والزمان.

وأجدنى وقد بلغنى الله رمضان، أستعيد بعض ما كتبت عن ليالى رمضان الساحرة والتي سجلت بعضها في كتابى " رمضان الذي نعشقه "، وأكثرها لا يزال عالقا بمخيالى ينتظر أن يكون صحائف من نور تسجل عن رمضان ولياليه الساحرة الفريدة التي تميز الاحتفال به في القاهرة وأقاليم مصر ومحافظاتها على مر العصور وخصائصه الفريدة التي جعلته مأوى الأفئدة ,حيث اجتذبت السياحة الرمضانية عشاق القاهرة في كل مكان، وقد كتبت بعض المقالات عنها على صفحات مجلة صباح الخير، والآن على بوابة روز اليوسف أسجل بعض ما شهدته من احتفالات بالشهر الكريم تنتمى إلى تسعينيات القرن الماضى، وبعض

 ما جمعته من وثائق صحفية تؤرخ للاحتفال برمضان في أول القرن الماضى، وقد ارتحلت عبر الزمن في رحلة في الزمان والمكان حتى السنوات الأول من الألفية الثالثة، في هذه الرحلة الرمضانية التي أبدأها من ليلة الرؤية تاريخا، ومواكب، وفرحة بالشهر الكريم وإلى حلقة قادمة.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز