عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
المفترون!

المفترون!

بقلم : هاني عبدالله

 



كيف اخترق "الإسلام السياسي" مجال الدراسات الشرعية بأكذوبة "تيار الصحوة"؟!

 

مع وجود الوحى بنوعيه: المتلو (أى القرآن المتعبد بتلاوته)، وغير المتلو (أى السنة)، كان التصور العام أنَّ «الفقه الاجتهادى» نشأ فى وقت لاحق لعصر الرسالة.. إذ بدأ المسلمون (منذ عهد الصحابة) فى الاجتهاد عقلًا لاستنباط ما يُعينهم على فهم مُستجدات الحوادث (إما من نصوص الرسالة، أو أخذًا بالرأي).. ومع ذلك، ذهب بعض الأصوليين إلى أنَّ نشأة «الفقه الاجتهادى» (وتدريب ملكات الاجتهاد)، بدأ مع عصر الوحى ذاته.. وهو ما أسفر بدوره عن خلافٍ آخر بين الأصوليين.. إذ منعه البعض، وقال بإمكانه البعض الآخر.

واستدل القائلون بإمكانية «اجتهاد الرسول» بأنَّ الاجتهاد وقع من الرسول بالفعل، وفى مواقع كثيرة، منها، أنه أذن فيه أصحابه وشجعهم عليه وأقرهم على الكثير مما اجتهدوا فيه وأثابهم عليه، سواء أصابوا أم أخطأوا.. فأنت تراه يقول: «لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة»، ويقول لإحدى أزواجه: «لولا قومك حديثو عهد بالكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم».. وهو ما يعنى أنَّ النبى كان يتخير بعض الأمور على بعض؛ مراعاة لما يراه مصلحةً للأمة (1). واختلف القائلون بالإمكان، فيما بينهم: هل يتعين أن يكون اجتهاد الرسول صوابًا دائمًا (2).

بينما يرى الاتجاه القائل بعدم الإمكانية أنَّه لطالما كان بابُ الوحى مفتوحًا، فلا مجال للحديث عن الاجتهاد؛ لأن الأمر راجع فى نهايته إلى الوحى.. فلا معنى لأن نشغل أنفسنا بنزاع لا ثمرة له.. ويُستثنى من ذلك (وفقًا لأصحاب هذا الرأي) تدريب النبى لأصحابه على الاجتهاد واستنباط الأحكام (3).

< < <

لكن يقينا.. عندما انقضى عصر الرسالة، كان أن استقبل الصحابة بعد وفاة الرسول حياةً أوسع، عُرضت لهم فيها شئونٌ احتاجوا إلى معرفة أحكامها، فكانوا يجتهدون بالرجوع للقرآن، والسنة.. فإن لم يجدوا الحكم، نظروا وبحثوا، مستلهمين روح الشريعة، وما عرفوه من هدفها، وما ترشد إليه قواعدها العامة، التى أخذت فى مصدرية التشريع، مكانة النصوص الواضحة (4).

وكان الشأن العام فى عهد أبى بكر وعمر، التحرى الشديد فيما يُروَى عن النبى (صلى الله عليه وسلم)، والنزوع فى الشئون العامة إلى استشارة كبار الصحابة المقيمين معهما بمركز الخلافة، والمعروفين فيما بينهم بدقة الرأى والنظر فى إدراك المصالح، وحُسن الفهم لروح الشريعة، وجودة التطبيق على القواعد العامة (5)، [أي: اجتهاد جماعيّ].. وكانوا إذا أجمعوا على رأى وجب تنفيذه... وبذلك كان أخذ الرأى بطريق الاستشارة، مصدرًا جديدًا، ظهر العمل به بعد وفاة الرسول، فيما لا نص فيه من كتاب أو سنة أو فيما فيه نصٌ محتمل (6).

يقول «عبدالرحمن بن خلدون» (732/ 808 هـ): ثم إنَّ الصحابة لم يكونوا كلَّهم أهل فُتيا، ولا كان الدين يؤخذ من جميعهم، وإنما كان ذلك مختصًا بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالاته بما تلقوه من النبى - صلى الله عليه وسلم- أو ممن سمعه منهم من عِلْيَتهم، وكانوا يسمون لذلك القرّاء، أى الذين يقرءون الكتاب؛ لأن العرب كانوا أمة أُميَّة، فاختص من كان منهم قارئًا للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذٍ. وبقى الأمر كذلك صدر الملة. ثم عظُمت أمصار الإسلام وذهبت الأميَّة من العرب بممارسة الكتاب، وتمكن الاستنباط وكمل الفقه وأصبح صناعةً وعلمًا فبُدِّلوا باسم الفقهاء والعلماء من القرَّاءِ. وانقسم الفقه فيهم إلى طريقتين: طريقة أهل الرأى والقياس، وهم أهل العراق، وطريقة أهل الحديث، وهم أهل الحجاز. وكان الحديث قليلًا فى أهل العراق [...]؛ فاستكثروا من القياس ومهروا فيه، فلذلك قيل أهلُ الرأى. ومقدم جماعتهم الذى استقر المذهب فيه وفى أصحابه أبو حنيفة، وإمام أهل الحجاز مالك بن أنس والشافعى من بعده (7).

< < <

تاريخيًّا.. عندما انتشر الإسلام واتسعت رقعته تفرق فقهاء الصحابة والتابعين فى الأقطار، واتسع نطاق الاجتهاد والاستنباط.. وقد دُوّن الفقه – أول ما دون – مختلطًا بالسنة وآثار الصحابة والتابعين (8).. ومع ذلك.. تبع عصرَ الاجتهادِ، عصرٌ جَمُدَ فيه «الاجتهادُ»، وساد تقليد المذاهب [المشهورة].

.. يؤرخ عددٌ من الباحثين  لبداية تلك الفترة بوفاة «محمد بن جرير الطبرى» بالعام 310 هـ (وإن كان ثمة اجتهادٌ نوعى بعد عصر الطبري)؛ إذ يقول الشيخ السايس: لم نجد بعد محمد بن جرير الطبرى من سمت به نفسه إلى مرتبة الاجتهاد، يتخير لنفسه فى الاستنباط والإفتاء، ويأخذ أحكامه من الكتاب والسُّنة غير متقيد برأى أحد من الأئمة، بل بخسوا أنفسهم حقها وأصبحوا عالة على فقه: أبى حنيفة، ومالك، والشافعى، وابن حنبل (9).

ويبدو أن تلك الحال، امتدّت إلى عدة قرون تالية؛ إذ يقول «ابن خلدون» (732/ 808 هـ): ومدَّعى الاجتهاد لهذا العهد (أى فى عصره) مردود منكوص على عقبه مهجور تقليده، وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد الأئمة الأربعة (10)، مُرجعًا ذلك إلى عدَّة أسباب، منها: سد أبواب الخلاف حيث تشعّبت الاصطلاحات مما أعاق الوصول إلى مرتبة الاجتهاد، وخافوا أن يسند العلم إلى غير أهله فردوا الناس إلى التقليد، وعمل كل مقلد بمذهبه بعد تصحيح الأصول واتصال سندها بالرواية (11).. كما رأى فقهاء المذاهب الأربعة أنَّ فى تفاريع المذاهب المستقرة غنى وكفايةً(!).. وهو ما أدى إلى انتشار التعصب المذهبى، والإفتاء بغلق باب الاجتهاد، وتقييد حركته فى النطاق المذهبى (12).‏

< < <

بعد شيوع «عصر التقليد» أدرك عديدٌ من المُشتغلين بالفقه الإسلامى، كثرة الحوادث والمستجدات التى ليس فيها رأى للعلماء السابقين، كما أن هذه المستجدات تحمل فى طياتها الكثير من التعقيد والتداخل بين القضايا والتشابك بين العلوم، مما يجعل الاجتهاد فيها لابد أن يكون جماعيًا (نوعًا ما)؛ حتى يُحقق غايته.. ومن هنا دعا الكثيرون إلى ضرورة إحياء الاجتهاد (فرديًا أو جماعيًّا).. وقد أثمرت هذه الدعوات (فى العصر الحديث) عن قيام ثلاثة مجامع فقهية: مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة، الذى أُنشئ بالعام 1969م، والمجمع الفقهى الإسلامى بمكة، ومجمع الفقه الإسلامى بجدة (التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي) فى العام 1981م.. وإن اتسعت الدائرة، فيما بعد، لتشمل: المجمع الفقهى الإسلامى بالهند (فى نهاية العام 1988م)، مجمع الفقه الإسلامى بالسودان (بالعام نفسه).. فضلًا عن كل من: «دار الإفتاء المصرية»، و«لجنة الفتوى بالأزهر الشريف»، وهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، ورابطة علماء المغرب، وقطاع الإفتاء والبحوث الشرعية بالكويت.. وغيرها.

< < <

لكن.. كان من اللافت أنَّه بالتزامن مع تفاعل «المشتغلين بالفقه» لتأسيس حركة مجمعية للاجتهاد، كان تيار «الإسلام السياسى» – هو الآخر – يسعى لتأميم تلك الحركة لحسابه التنظيمى، تحت مزاعم ما يُسمى بالصحوة (!)

وفى الواقع.. نجح تيار الإسلام السياسى (خصوصًا حركة الإخوان الإرهابية) فى أن يُدشّن لنفسه – عبر سنوات خلت - حركة [موازية] للحركة المجمعية، بامتداد قارات العالم المختلفة.. كما نجح فى «تقويض» الحركة المجمعية (الأكاديمية) ذاتها، إما باختراقها [وفرض إنتاج التنظيم الفقهى داخل هذا القطاع] فى سياق «أجندة توظيفية» كاملة.. وإما بشيطنتها بوصفها تنتج فقهًا [مُدجنًّا]، على حد تعبير التيار (!)

فعلى سبيل المثال.. نجح ما يُسمى «المجلس الأوروبى للإفتاء والبحوث» (التابع لتنظيم الإخوان الدولي)، فى بسط نفوذه من الناحية الفقهية على أبناء الجالية الإسلامية بالقارة العجوز.. إذ مثَّل المجلس حاضنة أساسية لشيوخ التنظيم، مثل: يوسف القرضاوى (قطر) - الشيخ فيصل مولوى (لبنان - تُوفى فى مايو 2011) - الشيخ حسين محمد حلاوة (أيرلندا) - د. سلمان بن فهد العودة (السعودية) - د. أحمد جاب الله (فرنسا) - د. أحمد على الإمام (السودان) - الشيخ إسماعيل كشوفلى (بريطانيا) - أحمد كاظم الراوى (بريطانيا) - الشيخ أنيس قرقاح (فرنسا) - الشيخ البقالى الخمار (هولندا) - د. حسين حامد حسان (مصر) - د. حمزة بن حسين الشريف (السعودية) - د. جمال بدوى (كندا) - راشد الغنوشى (بريطانيا) - الشيخ سالم الشيخى (بريطانيا) - د. صلاح الدين سلطان (أمريكا) - د. صهيب حسن (بريطانيا) - الشيخ طاهر مهدى (فرنسا) - الشيخ عبد الله بن بيه (السعودية) - الشيخ القاضى عبد الله بن على سالم (موريتانيا) - الشيخ عبد الله بن يوسف الجديع (بريطانيا) - د. عبد المجيد النجار (فرنسا) - د. عبد الستار أبو غدة (السعودية) - د. عجيل النشمى (الكويت) - الشيخ العربى البشرى (فرنسا) - د. عصام البشير (السودان) - الشيخ د. على القرة داغى (قطر) - الشيخ محبوب الرحمن (النرويج) - الشيخ محمد صديق (ألمانيا) - الشيخ محمد على صالح المنصور (بريطانيا) - د. محمد الهوارى (ألمانيا) - الشيخ محمود مجاهد (بلجيكا) - د. مصطفى سيريتش (البوسنة) - الشيخ مصطفى ملا أغلو (النمسا) - الشيخ نهاد عبد القدوس سفتسى (ألمانيا) - الشيخ يوسف إبرام (سويسرا).

ومثَّل هذا الأمر (فى حد ذاته) بوابة للترويج لمؤلفات هؤلاء الشيوخ على النطاقين: (الدولى والإقليمي) بوصفها اجتهادات معاصرة، تفوق فى أفضليتها ما تُنتجه «المجامع الأكاديمية» الأخرى.. بل نجحت هذا المؤلفات (نفسها) فى أن تخترق منظومة البحث الأكاديمى ذاتها داخل تلك المجامع؛ إذ كثيرًا (على طريقة السائرون نيامًا) ما كان يتم التعامل مع هذه المؤلفات من خلال النظرة نفسها، التى أرادها التنظيم لشيوخه (!)

[لمزيد من التفاصيل.. يُمكن العودة لكتابنا: « كعبة الجواسيس: الوثائق السرية لتنظيم الإخوان الدولى»/ مركز الأهرام للترجمة والنشر].

وما حدث فى أوروبا، لم يختلف فى مضمونه عما حدث فى أمريكا ذاتها.. إذ أصدر «مكتب التحقيقات الفيدرالى» (FBI) فى العام 2009م، بالتزامن مع زيارة «أوباما» للقاهرة، قرارًا باعتماد «الجمعية الإسلامية لشمال أمريكا» (التابعة لـ«تنظيم الإخوان الدولى») كحلقة اتصال «رسمية» بين المكتب و«المواطنين الأمريكيين المسلمين».. وبعد هذا الأمر، بيومين فقط، كان أن أصدرت ثلاث منظمات «إخوانية» قائمة من 65 اسمًا، بحجة أن هؤلاء هم من يقبل بهم المسلمون كخبراء مؤهلين؛ للحديث عن الدين الإسلامى وشئون المسلمين (2).. وأوصت هذه المنظمات: (IIIT AMSS ومعهد منارة الحرية) الحكومة الأمريكية، والصحف، ومحطات التليفزيون، ومراكز الأبحاث، بالرجوع إلى أى من هذه الشخصيات الـ65، عند الحاجة لأى استفسار يتعلق بـ«الإسلام»، و«المسلمين» (!)

[لمزيد من التفاصيل.. يُمكن العودة لكتابنا: «صُنع فى واشنطن : داعش والانتفاضات العربية والمخابرات الأمريكية»/ طبعة مؤسسة «روزاليوسف» الصحفية/ مكتبة روزاليوسف].

< < <

فى الواقع.. لا يُمكن (من الناحية البحثية) اعتبار المنتج الفقهى لتيار الإسلام حول القضايا التقليدية للفقه (الصلاة/ الزكاة/ الصوم... إلخ)، إشكاليًّا، بالقدر الذى يُمكن أن يثيره هذا المنتج (المروج له بكثافة من قبل التيار مُجتمعيًا وداخل الأوساط الأكاديمية) عندما يتطرق إلى قضايا تمس «مبادئ المواطنة»، وحقوق الأقليات (داخل الدولة الوطنية التى لا يعترف بها التيار)، أو عندما يتعلق الأمر بما يُطلق عليه «السياسة الشرعية» ونحوها.. إذ تبدو الانتقائية الفقهية – هنا – بادية للمدقق تدقيقًا شديدًا فى مخرجات هذا المنتج.. وهو ما يحتاج - بدوره – إلى وعى شديد عند التعامل مع هذا المنتج؛ إذ حينها سيبدو أن الأمر - فى جانبه الأبرز – محاولة لسحب ذهنية المُجتمع نحو الخيارات الفقهية للتنظيم، لا عرضًا للآراء الفقهية [وحججها المتنوعة] كما تقتضى قواعد البحث السليم(!)

فعلى سبيل المثال.. يتعامل عديدٌ من تلك المؤلفات، عندما يتطرق الحديث عن حقوق المساواة بين المسلم والمسيحى فى دار الإسلام (وهو ما يُعرف حديثًا بمبدأ المواطنة)، نجد أيديولوجية التنظيم هى البادية فى التعامل مع غير المسلمين بمنطق مواطنى الدرجة الثانية.. إذ يتم، غالبًا، استبعاد آراء [فقهاء السادة الأحناف] فى هذا السياق، رغم أنها الآراء الأكثر تماشيًا مع روح ومبادئ المساواة فى التشريع الإسلامى.. أو وضعها – فى أكثر الاجتهادات رحابة – تالية للآراء الأكثر تشددًا وتطرفًا.

نموذج آخر للانتقائية و«التوظيف الفقهى»، يُمكن ملاحظته، فى سياق أشهر الكتب التى أنتجها التيار.. ونقصد بذلك كتاب «التشريع الجنائى الإسلامى» لعبد القادر عودة، عندما يتطرق الأمر لمفاهيم السلطة والحكم (فى سياق الحديث عن السياسة الشرعية).. إذ وفقًا للانتقائية (التراثية)، التى يتحصن بها تيار «الإسلام السياسى» إلى اللحظة؛ فإن «الإمامة الكُبرى» (الخلافة)، أو «الإمامة» بوجه عام (رئاسة الدولة)، تثبت – وفقًا لعودة - بأربعة طرق (13):

(أ)- باختيار أهل «الحل والعقد» (من الفقهاء، والعلماء، وأرباب الحل والعقد).. كما حدث فى بيعة «أبى بكر»، بعد وفاة الرسول (ص).

(ب)- باختيار الإمام «السابق»، كما حدث فى اختيار أبى بكر لـ «عمر».. إذ عهد إلى «عمر» قائلًا: «بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما عهد أبو بكر، خليفة رسول الله (ص) عند آخر عهده من الدنيا وأول عهده بالآخرة، فى الحال التى يؤمن فيها الكافر، ويتقى فيها الفاجر (14)، إنى استعملت (15) عليكم عمر بن الخطاب، فإن برَّ وعدل؛ فذاك علمى به (16)، ورأيى فيه؛ وإن جار وبدّل فلا علم لى بالغيب ، والخير أردت (17)؛ ولكل امرئ ما اكتسب (18)، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون».. كما يصح (بحسب التصور، نفسه) أن يعهد «الإمام» لولده (ابنه!)، كما فعل «معاوية»، وغيره من الخلفاء الأمويين، والعباسيين.. وغيرهم.

(ج)- بأن يجعل «الإمام السابق» الأمر شورى فى «جماعة معينة» يختارون الإمام (الجديد) من بينهم، أو يختاره أهل الحل والعقد.. كما فعل «عمر»، عندما ترك الأمر شورى فى ستة من الصحابة؛ فاختاروا من بينهم «عثمان بن عفان».

(د)- بالتغلب و«القهر» (!).. حيث يظهر المُتغلب على الناس، ويقهرهم، حتى يذعنوا له، ويدعونه «إمامًا» (!).. إذ تثبت، هنا أيضًا، له الإمامة، وتجب طاعته على الرعية (!).. ومثل ذلك: ما حدث من «عبد الملك بن مروان»، عندما خرج على «عبد الله بن الزبير» فقتله، واستولى على البلاد، وأهلها، حتى بايعوه (طوعًا، وكرهًا!)، ودعوه إمامًا (!)

.. فإذا ثبتت «الإمامة» بإحدى هذه الطرق؛ كان الخروج على الإمام (الحاكم) بغيًا.. أما إذا لم تكن الإمامة ثابتة بإحدى هذه الطرق؛ فلا يُعتبر الخارج «باغيًا»، ولا الخروج «بغيًا» (19).

< < <

فى مُقابل المستخلصات التى أكد عليها «عودة» حول ثبوت الإمامة (من عدمه)، لنا أيضًا، عدة مستخلصات (على المستخلصات)، التى لا يزال يتحكم «الكثير منها» فى رؤية عديدٍ من أبناء تيار «الإسلام السياسى»:

أولًا: ارتكزت «ثلاثة» مُستخلصات من الحالات الأربع، التى يثبت من خلالها «ولاية الحاكم» على وقائع اختيار «ثلاثة خلفاء» من الموصوفين فى التاريخ الإسلامى بـ«الخلفاء الراشدين»، هم: «أبوبكر»، و«عمر بن الخطاب»، و«عثمان بن عفان».

ثانيًا: أتى الاستخلاص «الرابع» تأسيسًا على حالة «بربرية» (بامتياز) فى التاريخ الإسلامى، هى قتل الصحابى «عبد الله بن الزبير»؛ لاقتناص «الخلافة» (!).. إذ بعد أن استولى «الأمويون» على المدينة؛ تحين «عبد الملك بن مروان» الفرصة؛ للإجهاز على «ابن الزبير»، فأرسل له جيشًا ضخما بقيادة «الحجاج بن يوسف الثقفى».. فنزل الطائف وجعل يبعث السرايا إلى عرفة، فتقتتل مع سرايا «ابن الزبير.. ثم أرسل الحجاج يطلب المدد من «عبد الملك بن مروان»، واستئذانه فى محاصرة «مكة»؛ للقضاء على «ابن الزبير».. فكتب عبد الملك لـ«طارق بن عمرو» فى المدينة أن يلحق بالحجاج، فلحق طارق بالحجاج فى ذى الحجة سنة 72 هـ. (20).. وعلى هذا؛ نَصَب الحجاج المنجنيق على «جبل أبى قبيس»، وشدّد الحصار على (مكة)، حتى أصابت الناس «مجاعة شديدة»، اضطر خلالها «ابن الزبير»؛ لذبح فرسه ليأكل الناس! (بحسب بعض الروايات)، إذ دام الحصار نحو 8 أشهر.. ثم هجم، بعد ذلك، «جيش الحجاج» على مكة، وقتل الكثيرين من أهلها، ومن «أصحاب ابن الزبير»، أيضًا.. كما قُتل «ابن الزبير» نفسه، وهو متعلق بأستار الكعبة (21).. ثم حُزّ رأسه (أي: قُطع!)، وأرسله «الحجاج» إلى «عبد الملك بن مروان» مع رأس «عبد الله بن صفوان بن أُميّة» ، و«عمارة بن عمرو بن حزم»(من أصحاب عبدالله بن الزبير) (22).. وأمر رجاله إذا مروا بـ«المدينة» أن ينصبوا الرءوس بها،  ثم يسيروا بها إلى الشام، ففعلوا ما أمرهم به (!).. ثم أمر الحجاج بجثة ابن الزبير فصُلِبت (مُنكسة!).. وجمع أهل «مكة» (23)؛ لأخذ «البيعة» منهم لأمير المؤمنين (!)

ثالثًا: تعكس «الطريقة الرابعة» لثبوت الإمامة، أيضًا (وما ألحق بـ«الطريقة الثانية»، حول أنه يصح أن يَعهَد «الإمامُ» لابنه، كما فعل «معاوية»، وغيره من الخلفاء الأمويين، والعباسيين!)، حالة «توظيفية» للخطاب الدينى بـ(امتياز، أيضًا).. إذ لا يُخطئ «المدقق» فى استنباط أنّ هذين «الاستخلاصين»، على وجه التحديد، لما يكونا إلا من ثمار «الفقه»، التى تم تدشينها ابتداءً من قبل «فقهاء السلطان»، فى ظل عصور «القهر»، و«الغلبة».. ومع ذلك؛ لا يزال الكثيرون من أبناء تيار «الإسلام السياسى» (بمختلف روافدهم) يتمسكون بهذا «المنتج التراثى» المُتضمن بين حشايا كتب عدة.. لا لشيء إلا كى لا يخسروا القسط (الأكبر) مما يُعرف بتاريخ «الخلافة الإسلامية» (المراد إحياؤها!)، فى مواجهة «الانتقادات المعاصرة» لهذا النموذج (المندثر).. إذ لو فعلوا؛ فلن يبقى أمامهم سوى ما يُعرف بـ«الخلافة الراشدة»، فقط.

رابعًا: ثمة مقاربة «لطيفة» هنا، فى اعتماد مصطلح «الخلافة الراشدة» نفسه (سحبًا على فترة «الخلفاء الأربعة» الأُول)، من قبل أبناء «التيار» أنفسهم.. إذ يُعد هذا الأمر بمثابة «اعتراف ضمنى» بأن ما تلا تلك الفترة، كان «دون الرُّشد».. و«الرُّشْد» فى اللغة، هو: (البُلوغ، والتَّعَقُّل).. أى أنّ ما تبع فترة «الخلفاء الراشدين»، كان «دون العقل» (المؤسس للتكليف، والاستنباط)، وهو ما يدعمه، بالفعل، العديد من الوقائع التاريخية.. ففيما شهدت الفترات المتأخرة من عصر «الخلفاء الراشدين» أنفسهم إرهاصات «عنيفة» حول الصراع على السلطة؛ كان أن تُوجت تلك الإرهاصات بمذابح «بربرية» ارتكبها «خلفاء ما بعد تلك الحقبة».. ولعل ما شهدته «مكة» من ذبح وتمثيل بالجثث (ومنها ما حدث للصحابى «عبدالله بن الزبير»)، فى ظل حُكم «الأمويين»؛ كان أحد «الأدلة الواضحة» على حالة «عدم الرشد» تلك.

خامسًا: يبدو واضحًا أنه لا محل لآليات «الاختيار الديمقراطى» (المُتعارف عليها حاليًا) بين الانتقاءات الفقهية، التى يتدثر بها «الإسلام السياسى» فى مسألة الثبوتية الشرعية لـ«حائز السلطة» (الإمام).. إذ يظل «القطاع الأكبر» من الشعوب مفعولًا به لا فاعلًا.. ومن دون أى مشاركة «حقيقية» فى اختيار من يحكمه.. إذ يكون حق الاختيار لمجموعة من «الفقهاء» من أهل الحل والعقد، فقط (الحالة الأولى، نموذجًا).. أو يتجاوز «الحاكم السابق» هذا الحق - من حيث الابتداء - باختيار من يخلفه (الحالة الثانية، نموذجًا)، أو بجعل الخلافة فى رهط معروف (الحالة الثالثة، نموذجًا).. أو الإذعان لـ«صاحب الغلبة»، و«القهر»، طوعًا أو كرهًا (الحالة الرابعة، نموذجًا أخيرًا).

< < <

لكن.. شاء من شاء أو أبى من أبى.. فإنَّ «معارك التنوير» لابد أن تنتصر - فى النهاية - على تيار التكفير.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز