عاجل
الثلاثاء 19 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
لجنة الفضيلة المستباحة

لجنة الفضيلة المستباحة

بقلم : عاطف بشاى

ما إن بدأ شهر « رمضان» وانهمرت المسلسلات التليفزيونية على الشاشات حتى انقض «حراس الفضيلة» والأخلاق الحميدة من أعضاء اللجان المنبثقة عن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والتى تشكل رقابة إضافية غير الرقابة الأساسية على المصنفات الفنية.. أو فلنقل أنها لجان «مراقبة الرقابة» المسئولة عن حذف التجاوزات الأخلاقية من محتوى تلك المسلسلات حرصا على ألا تفلت لفظة بذيئة هنا.. أو تتسرب لقطة فاضحة هناك فى غفلة من عيون الرقباء الساهرة على حسن «تأديبنا وتهذيبنا وتربيتنا جميعا» – فنانين ومتلقين – وأحكام الوصاية على سلوكنا.. فالنفس أمارة بالسوء.. والعقاب الصارم كفيل بالردع.. المهم أن اللجنة رصدت منذ اليوم الأول (19) مخالفة شملت (5) مسلسلات.. تتمثل تلك المخالفات فى إيحاءات جنسية.. وحض على العنف والتدخين.. ولغة حوار متدنية.. وألفاظ سوقية بذيئة.. ومخالفات متصلة بالتشكيك فى مصداقية الإعلام.. ووزارة الصحة.. وشدد بيان صادر عن اللجنة بضرورة معالجة هذه المخالفات للحيلولة دون توقيع العقوبات التى تتراوح بين الغرامة.. ووقف بث العمل.. وأكد المجلس الأعلى للإعلام حرصه على حرية الإبداع من الالتزام بالقيم المصرية.. حيث يعلن قريبا عن جائزة لأفضل مسلسل حرص على القيم والتقاليد المصرية دون أن يتفضل أحد بتعريف واضح.. أو تفسير محدد لذلك الأكليشيه «الثقاليد المصرية» وهل هناك فى منظومة القيم الأخلاقية أو فى علم الاجتماع أو فى كتب الفلسفة الأخلاقية ما يسمى بالتقاليد المصرية «؟.. تمييزا» لها مثلا عن القيم «الليبية» أو القيم «الهولندية»؟..



للأسف، فإن كل ما يصدر من توصيات وبيانات وتحذيرات وتعليمات وإرشادات تلتف حول عبارات رنانة متورمة حنجورية متحذلقة جوفاء تتستر بغطاء هلامى يسمى الحفاظ عن الميراث السلوكى والخوف من التسيب الأخلاقى الذى يعمل على إلغاء خصوصية ثقافتنا لتكريس أهداف الفوضى الخلاقة فى تفكيك الدولة الوطنية فى هجمتها الشرسة لغزو العقل والوجدان المصرى.. ولم يحدد أحد كيف يتم ذلك التفكيك للدولة الوطنية عن طريق الدراما.. وإذا كانت الدراما يكتبها مؤلفون مصريون.. فهل يفترض فيهم أنهم أسرى لجهات ترغب فى الإضرار بالوطن؟.. أم إنهم متواطئون.. أم إنهم فى غفلة من أمرهم ؟.. وإذا كان المسلسل يتشكل من مجموعة من الفنانين أصحاب العقول والمواهب المختلفة فهل يمثلون جميعا كتلة متآمرة.. أو غير مدركة لنتائج أفعالها ولا بد من التدخل لحماية المتفرج من شرورهم وإعادة تأهيلهم وتقويمهم؟.. بل كيف يكون الإبداع حرا – كما صرح القانون الخاص بالمجلس الأعلى للإعلام- بينما سجلت بعض المخالفات عن الحلقة الأولى فى أحد المسلسلات بالتشكيك فى مصداقية الإعلام وفى وزارة الصحة؟.. إذًا فالمسألة لا تتصل فقط بالأخلاق المرعية «ولكن» تتصل بمدى حرية المبدع فى النقد والاختلاف وطرح القضايا السياسية والفكرية والخلافية والرأى والرأى الآخر..

يؤكد ذلك المعايير التى وضعها المجلس الأعلى.. والتى تحدد التوجه العام أو المسار الملزم للمبدع.. إنه التركيز على الموضوعات الاجتماعية التى تهم الأسرة المصرية وتقديم النماذج التى تستحق تسليط الأضواء عليها سواء من ذوى القدرات الإبداعية فى المجالات المختلفة أو ذوى القدرات الخاصة التى استطاعت أن تتحدى الإعاقة.. كذلك التركيز على النماذج المشرفة التى يتم تكريمها فى مؤتمرات الشباب.

والحقيقة أن هذا المعيار يذكرنى بتلك الصياغة التى كانت تتكرر دوما فى أسئلة موضوعات التعبير باختبارات اللغة العربية بالمراحل التعليمية المختلفة هى: (فى يوم صفت سماؤه وطاب هواؤه أعلنت مدرستك عن رحلة إلى القناطر الخيرية.. وذهبت مع زملائك واستمتعت برؤية الطبيعة الخلابة والحدائق الغناء والزهور اليانعة.. صف شعورك).

 إنها صياغة تفرض توجهًا يحصر الطالب فى رؤية الممتحن الجامدة والتقليدية والتى تحرم الطالب من استخدام الخيال والابتكار والرؤية الخاصة للموضوع المثار وتحصره فى إطار محدد يبدأ بالمقدمة.. ثم عناصر الموضوع.. ثم خاتمة تؤكد فيها حبك للوطن الذى تفتديه بروحك ودمك..

تذكرت تلك الصياغة وأنا أقرأ التقرير الذى يتضمن توجيهات لجنة الدراما الخاصة بمعايير الدراما التليفزيونية لرفعها إلى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام – منذ أن كان المخرج محمد فاضل رئيسا لها – لإصدار القرارات اللازمة وذلك بدافع الحرص على النهوض بهذا الوسيط الفنى واسع التأثير وتكريس الدور الإيجابى الذى يبلغه اجتماعيا و«حضاريا» وفكريا، فضلا عن دوره فى التأكيد عن الهوية الوطنية والخصوصية الثقافية..

والحقيقة أن هذا المعيار يجنح نحو المباشرة والتعليمية والإرشاد والتقريرية والوعظية والتسجيلية ويشبه أشكال المسرح المدرسى ويبتعد عن مفهوم الدراما التى تقوم على عناصر الصراع المختلفة والحبكة التى تعتمد على شخصيات متعددة الأبعاد النفسية والاجتماعية.. وليست أنماطا صماء خالية من العيوب والمثالب..ذلك لأن الفن خطابه جمالى وليس خطابا أخلاقيا.. والفنون تخضع لمعايير ومدارس.. ومناهج فلسفة الجمال ونظريات الفلاسفة المتنوعة والمختلفة والمعقدة.. والتى لا علاقة لها من قريب أو بعيد بقواعد أو شروط القيم الأخلاقية المرعية والفضيلة المستباحة.. إن هذا يؤدى بالضرورة إلى إلغاء عالم الفن الافتراضى والخيال وجعله مشابها للعالم الواقعى.. وفرض تلك الوصاية الأخلاقية على الفنانين تبريرها أن هناك أعمالا فنية هابطة تتسم بالابتذال والبذاءة والفجور.. ينبغى التصدى لها.. والحقيقة أن الأعمال الفنية الهابطة لا يمكن تصنيفها فى النهاية باعتبارها أعمالا فنية.. والفن منها براء.. فهناك مثلا مسلسل جيد ومسلسل رديء..لكن لا يجوز أن نصنف المسلسل بأنه مسلسل حرام أو حلال.. أو مسلسل أخلاقى أو غير أخلاقى

الفن واسع ولكن عقول الناس ضيقة.. صيحة بليغة أطلقها «توفيق الحكيم» منذ سنوات طويلة.. وكان يقصد أن الفن بمعناه الشامل أكثر تنوعا وغنى ورحابة ودلالة من مجرد حصره فى قوالب جامدة أو معايير محددة أو أطر ضيقة.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز