

سامية صادق
(النصف غير الآخر).. نصف امرأة
بقلم : سامية صادق
قلة هم المحظوظون الذين صادفوا النصف الآخر الحقيقي المتمم لهم ومعه يكتمل كيانهم ووجودهم، كما يكتمل القمر في ليلة تمامه، فكم من إنسان تم "تلصيم" نصف آخر له لا يطابقه ولا يمس لحجمه أو مقاسه أو طبيعته بصلة!!
فهذا نصف طيب عطاء مع نصف شرير أناني، وذاك نصف واقعي جاد مع نصف خيالي حالم، وأرى نصف رقيق حساس مع نصف فظ حاد!! فاصطدمت الأنصاف ببعضها البعض، وصار الصدام مستمرا لا ينتهي فأحدث جروحا وإصابات وإهانات أيضا!! ورغم ذلك صار من الصعب انفصال النصفين غير المكملين لبعضهم البعض رغم اتساع الفروق وظهور الاختلافات وعمق الخلافات.. ربما لأن صدام الأنصاف غير المكملة لا يمنع الإنجاب، فصار بينهما أبناء من الصعب إيذائهم أو التضحية بهم!
ورغم أنها كثيرًا ما حدثتني عن نظرية (الأنصاف المتضادة) وأنها لن تتزوج إلا حين تلتقي بالنصف الحقيقي المكمل لها فيكتمل به كيانها وإنسانيتها وإحساسها، وتصير معه إنسانا كاملا متكاملا، إلا أنها رفعت الراية البيضاء واستسلمت واعترفت بأن البحث قد أضناها، وأن نصفها الحقيقي بالتأكيد موجود، ولكن لم تسطع أن تعثر عليه في زحمة الحياة، فربما ذهب لنصف غيرها غير متمم له ويتجرع معه مرارة التعاسة وعدم التكافؤ.
وأمام زحف السنين بكل ما تخبئه من أحزان ومفاجآت سيئة، وأمام رغبتها في الأمومة التي تلح عليها اضطرت أن تتزوج بنصف غير مكمل لها بل ربما يتنافر معه، فهي تحب الشعر وهو لا يطيق قراءته أو بيت من أبياته!! هي تسمع فيروز وأم كلثوم وهو يحب حسن الأسمر وحمدي بتشان، هي تعشق الطبيعة والأماكن الشاعرية، وهو يفضل الجلوس في البيت أو المكتب، هي تحب الحيوانات الأليفة وهو يتعامل معهم بقسوة بعنف!! هي متدينة تصلي الفروض في أوقاتها، وهو لا يصلي ويفطر معظم أيام رمضان، هي دائمًا ما تراعي مشاعر من حولها وتعاملهم برقة، وهو أستاذ في الإحراج وتصفير وجوه الآخرين، هي ترحب بأهله وتكرمهم وتلقاهم ببشاشة وهو يسئ معاملة أهلها وربما لا يصافحهم لو جاءوا لبيته! لقد كان عكسها تماما، ولكن تنافر الأنصاف البشرية وصدامها لم يمنع أن تصير أما، وأنجبت ولد وضعت فيه كل حنانها ومشاعرها، ولكنه لم يقرب بينها وبين زوجها، فأبدا لم تشعر في أي يوم أنها تكمله أو يكملها، فالعلاقة تسوء بينهما ويتعامل معها بإهمال ولا مبالاة، فيتأخر دون أن يخبرها، ويبيت خارج البيت بالأيام دون أن يعتذر لها، ولا يتأثر لو صارت متعبة أو أصابها المرض!
اتسع الإحساس بالغربة حولها وبداخلها وصارت تشعر بالوحدة، خاصة بعد أن كبر ابنها وصار له أصدقاء يخرج معهم، ويمضي معظم أوقاته خارج البيت، حتى شقيقتيها كل منهما مشغولة في حياتها، ولو رفعت السماعة لتشكي همومها لإحداهن لا تجد من يسمعها أو يتعاطف معها، بل تظل هي التي تسمع!
إن إحساسها المرهف وطبيعتها الحساسة واعتزازها بنفسها جعلها لا تستطيع الإذعان لتلك الحياة المملة الرتيبة التي تقتل إنسانيتها يوما بعد يوم، فتشعر بأنها تموت موتا بطيئا!
إلى هذا الحد ضيقة هي الحياة!
وقررت أن تقوم بمحاولات لإنقاذ إحساسها الذي أوشك على الموت، الذي تراه أغلى ما عندها، فرغم كل تعاستها إلا أنها حرصت ألا تتحول لآلة تأكل وتشرب وتنام وتخدم زوجها وابنها بلا إحساس بلا فرح بلا رضا، إنها ترفض هذا الخواء الروحي الذي بدأ يتسلل بداخلها، وقررت أن تكون طبيبة نفسها، وأن تقوم بعلاجها علاجا يتناسب مع طبيعتها الروحانية، فقررت أن تخصص وقت لنفسها بعيدا عن زوجها وابنها، فكانت تسافر بمفردها من حين لآخر إلى مدينة الإسكندرية تمضي اليوم في صحبة البحر فتستقبلها رائحته المشبعة باليود فتنعشها وتشعرها بأنها لازالت حية، وتشكي له همومها وأحزانها فتجده يسمعها في صبر ودعة كما كان يسمع الحصان الحوذي(العربجي) في قصة الأديب الروسي العظيم تشيكوف (لمن أشكو كآبتي)، حيث كان الحصان يهز رأسه، وهو يسمع هموم صاحبه حوذي الحنطور الذي لم يجد أحد يسمعه ويتعاطف معه سوى حصانه!! وكذلك كان يفعل معها البحر فيصدر هديرا من حين لآخر كأنه يتفاعل مع شكواها ويربت عليها!! وتعود من الإسكندرية آخر اليوم بعد أن تكون قد نفضت عن نفسها بعض أحزانها، وألقت بها إلى البحر!
ولأنها كائن ليلي لا تنام إلا بعد صلاة الفجر، قررت تعيش لنفسها ليلا، فقامت بعمل ركن خاص بها في صالة شقتها وقد حولته لمكان شاعري خلاب أشبه بالحديقة الرومانسية الجميلة، حيث اختارت الجزء المجاور للشرفة الكبيرة حتى تستقبل الشمس كل صباح وتودعها عند الغروب، ووضعت في ركنها كل الأشياء التي تحبها، الزرع الأخضر الطبيعي ذو الأوراق الندية، وقد أحاطته بأضواء خافتة حالمة، لوحة فن تشكيلي قريبة من قلبها قد اقنتها من أحد المعارض المقامة في الأوبرا في مطلع شبابها، مائدة جميلة كتلك المخصصة للحدائق وحولها مقعدين من جذوع الشجر غاية في الرقة والأناقة، سجادة من النجيل الأخضر الصناعي، ولكنها تبدو طبيعية جدا مع الزرع الأخضر الحقيقي وقصاري الورد البلدي ذو الرائحة الفواحة، كما وضعت في منتصف المكان نافورة صغيرة من الفخار يتصاعد منها الماء لأعلى ليصدر خريرا ممتعا تطرب له الأذن، كما علقت على الجدار بعض الأرفف الخشبية التي طلتها باللون الأخضر واستخدمتهم كمكتبة جمعت بها كتب الشعر ولأدب المفضلة لديها، ولم تنس بعض السيديهات لأغاني فيروز وأم كلثوم وسيمفونيات بيتهوفن، وقد حرصت أن تفصل الركن الخاص بها، والذي يحمل كل ما تعتبره غذاء لروحها عن بقية شقتها بستارة أنيقة من أوراق الشجر الأخضر.
وتحرص أن تتناول قهوتها الصباحية المضبوطة في ركنها الهادئ على صوت فيروز، الذي يسافر بها بعيدًا عابرًا بحارًا وجبالًا.
لم تهتم بسخرية زوجها مما تفعله ولا بتعليقات ابنها، ولكنها نبهت عليهما ألا يجلس أحد منهما في ركنها، فالشقة واسعة أمامهما، أنها صومعتها الخاصة التي ستلملم فيها أشلاء نفسها المهددة بالضياع.
إنها محاولة للتخلص من ذلك الشعور المميت بالخواء الروحي، الذي بدأ يتمكن منها ويقتلها بالبطيء، فقررت أن تحاربه وتستعيد نفسها وإحساسها!