عاجل
الثلاثاء 19 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الرحلة المقدسة

الرحلة المقدسة

بقلم : أيمن عبد المجيد

في رحلة الحج المقدسة، عبرٌ وعظات، رسائل ورمزيات، يسبر أغوار بعضها مَن يمعن التفكر، في هذا المشهد المهيب، ظاهره وباطنه.



أكثر من ٢.٥ مليون حاج، يحتشدون في مكان واحد، قادمون من كل فجٍ عميق، من ربوع كوكب الأرض الفسيح، من يُمعن النظر في وجوههم، يتجول في خارطة الجينات البشرية، يتلمس شجرة الإنسانية التي غرس فسائلها الأولى آدم وحواء.

يكفيك أن تقف في عرفات عشرات الدقائق، تنظر في الوجوه، لتشاهد الأبيض والأسمر، الإفريقي والأوروبي والآسيوي، العربي والأعجمي، متحدثي لغات العالم، يلبون بالعربية نداء الله، "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك"، يحمدون الله "إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

في هذه البقعة من الكرة الأرضية، صعيد عرفات، تعارف أبو البشر آدم، وأمهم حواء، بعد أن نزلا من الجنة إلى الأرض تائهين، وعلى هذا الجبل وفي صعيده، يجتمع مليونان ونصف المليون في أكبر تجمع بشري، يمثلون جميع أرجاء الكرة الأرضية، وجنسياتها، يبتهلون إلى الله الذي خلقهم وآباءهم الأولين، تتعجب من جمع تلك القلوب، وجعلها تهفو إلى هذا المكان في الزمان ذاته؟!

إنه أمر الله الذي نفذه نبيه إبراهيم، قال تعالى: «وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ».. يُقال: إن سيدنا إبراهيم تساءل: كيف يسمع صوتي الناس؟ فقد كان بوادٍ غير ذي زرع عند البيت العتيق، فقيل له أذن وعلينا البلاغ، فسمعه من في الأرحام إلى يوم الدين، ولبى كل من كتب له الحج، "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك".

هناك في تلك الأيام والليالي المعدودات، تُشاهد خريطة الفئات العمرية، ففي عرفات ولد طفلان، جاءت بهما أماهما جنينين في بطنيهما، لم ترهبهما الرحلة، ولم تمنعهما آلام الحمل، واقتراب "الوضع" من القدوم للحج، وقبلها بأيام ولد للحجيج ستة أطفال آخرون، في المدينة المنورة ومكة المكرمة، أولهم كان في المدينة لزوج وزوجة من الهند، أسمياه «أحمد المدينة».

في حج هذا العام ١٤٤٠ه، ٢٠١٩م، وفي كل عام، يحج بيت الله العتيق، مئات الآلاف من كبار السن، الذين تجاوزت أعمارهم السبعين عامًا، تجد من يدفعه ولده على "كرسي متحرك"، أو ذلك الذي يلتحف بالإحرام ويُشبك أصابع يديه خلف ظهره المنحني من فرط الكبر، ينقل قدميه بصعوبة وسط الحجيج.

في منى، حيث رمي الجمرات، وقفت جدة، ملامحها تشير لكونها آسيوية، على الأرجح من الصين، تبكي بعد رمي جمرات اليوم الثاني، لفت نظري احتضان المحيطات بها من الشابات، ومحاولاتهن تجفيف دموعها، إنها دموع الفرحة بتحقيق حلم طال انتظاره، حتى بلغت من الكبر عتيًا، وخشيت أن يُدركها الموت قبل أداء الفريضة، فإذا بالله يمنّ عليها.

في نفسي، كلما رأيت جدة مصرية أو غير مصرية، أو جدًا بلغ من الكبر عتيًا، مهرولًا بين الحجيج، أقول مستحيل أن يرد الله هذا الطاعن في السن، الذي يعلم الله كيف جمع ماله، وبلغت به عزيمته أن يُلبي نداء الله، وهو على هذه الحالة، مستحيل أن يرده الله غير مجبور الخاطر، فإذا رق قلبي لهيئته وأنا العبد الفقير رحمةً به، فما بالنا بالله أرحم الراحمين.

في البيت العتيق، وأنت تطوف طواف القدوم أو الإفاضة أو الوداع، تجد هؤلاء الرافعين أصواتهم بالرجاء، طلبًا للمغفرة والرحمة، من يدعو عن ظهر الغيب لآخرين من أهله وأصدقائه، كثيرًا ما جال بخاطري، إن من عباد الله كرماء، يكرمون من يدخلون بيوتهم زائرين، فما بالنا ونحن في البيت العتيق، ضيوفًا على أكرم الأكرمين رب العالمين؟! والله كلي ثقة في كرمه وغفرانه لعباده الصادقين.

يوم عرفة، صعدت جبل الرحمة بعد صلاة الفجر، تعجبت بعد ساعات، وأنا أشاهد على قمة الجبل، أمهات وجدات طاعنات في السن، أي عزيمة تلك التي تسلحن بها لصعوده، وأي مشقة تلك التي يتكبدنها في الهبوط عبر صخور جبلية، مع العلم أن الجلوس في صعيد عرفات يكفي.

مع انتصاف يوم عرفة، وعقب صلاة الظهر بساعة، كانت الحرارة قد بلغت ذروتها، وفجأة تتحول الرمضاء، إلى روضة من رياض الجنة، انخفضت الحرارة نحو ٢٠ درجة، وتساقطت الأمطار، وهبت الرياح، ٤٥ دقيقة من سقوط الأمطار المتواصل، وجد فيها الحجاج فأل خير، وعلامة قبول، فوقف الآلاف تحت زخات المطر، رافعين أكفهم بالدعاء، ومنهم من بدأ الصلاة والسجود.

المخيمات والشوارع تراكمت فيها المياه، بعد توقف المطر، الذي غسل صعيد عرفات، واغتسل به الكثير من الحجيج، الذين حرصوا على الدعاء تحت المطر، واغتسلت الأشجار التي تتكاثر في عرفات عامًا بعد عام، خشي البعض من صعوبة النفرة إلى مزدلفة مع غروب الشمس، وسط تلك المياه، بيد أنه لم تمر ساعة حتى جفت الطرقات وكأن شيئًا لم يكن.

من الروحانيات للماديات، فقد منّ الله عليّ بالحج عام ٢٠١٦، وعام ٢٠١٩، فقد مكني هذا من المقارنة، وقد لاحظت جهودًا عملاقة للمملكة العربية السعودية، في تطوير المشاعر، والتوسعة في الحرم المكي، والخدمات في مشعر منى.

تعبيد الطرق، وشق ممرات جديدة، في مرمى الجمرات تتحمل ١٢ طابقًا، بما يستوعب ٥ ملايين في الساعة الواحدة.

بات رمي الجمرات في عدة طوابق، ومداخل ومخارج تحول دون تقاطع الحجيج، بما يحول دون حدوث أي مكروه لضيوف الرحمن.

في الطرقات، في كل مشعر، يقف آلاف الجنود على مدار الساعة، ينظمون السير، يلقون برذاذ الماء على الحجيج، يساعدون من هم في حاجة للمساعدة، جهد جبار، فهم يقفون ساعات طوال في درجات حرارة مرتفعة، يبتسمون في الوجوه، بلا كلل ولا ملل.

منظومة عمل متكاملة، بدأت بالنظام الإلكتروني للحصول على التأشيرات، ومرورًا بإدارة الحشود، من الاستقبال في المطارات، وحتى التطويف في المشاعر، والنفرة التي يخرج فيها ٢.٥ مليون في آنٍ واحد من عرفات إلى مزدلفة ومنها لمنى، جهد جبار حقًا.

أبرز ما لفت انتباهي، هو الرعاية الصحية للحجيج، ففي كل مكان تجد المراكز الصحية، التي تُقدم الخدمة لضيوف الرحمن بالمجان، وتُحال للمستشفيات الحالات الطارئة، فقد أجريت نحو ٢٩٣ عملية قلب مفتوح لحجاج، منذ بداية ذي الحجة وقبل وقفة عرفات بيوم، ومع ذلك تم نقلهم في سيارات مجهزة في مخيم طبي مجهز بعرفات، لاستكمال مناسك الحج.

والمبهج أيضًا، هو حرص أمهات "حوامل"، على الحج وهن في أشهرهن الأخيرة، لم يخشين الزحام ولا مشقة الرحلة، فكان أن وضعت ٨ منهن مواليدهن خلال رحلة الحج، كان بينهن اثنتان في صعيد عرفات، أول المواليد كان لهندي يدعى ديل شاد، كان يحج هو وزوجته، ووضعت مولودها في المدينة المنورة، فأسمياه «أحمد المدينة».

وفي مستشفى صعيد عرفات، وضعت الحاجة سعاد «٤٠ عامًا»، ليبية الجنسية، مولودها في حجتها الأولى، فأسمته «عرفة».. إنسانيات، وروحانيات، ومعجزات، تحدث في تلك الأماكن الطاهرة.

كل هذه الجهود، وهذا التنظيم، لا ينفي وجود سلبيات، ناجمة عن إهمال عدد من المطوفين، في أداء واجبهم، تجاه ضيوف الرحمن، وإن كانوا قلة، فإن محاسبتهم السريعة واستبعاد ثلاثة منهم بقرار وزاري، تكشف أن هناك حزمًا في التطوير الدائم وردع المخالفين.

يبقى من أكبر المشاكل التي تواجه ضيوف الرحمن، أن كثيرًا يضل الطريق في الزحام، ويتوه وسط مئات الآلاف من المخيمات في عرفات، إذا خرج للذهاب لجبل الرحمة أو مسجد نمرة، فيضل الطريق في العودة، ويسير على قدميه ساعات حتى يجد من يهديه إلى مخيمه.

هذه مشكلة كبيرة لاحظتها، ولاحظت أيضًا، أن كثيرًا من رجال الأمن لا يستطيعون أن يدلوا التائهين إلى مخيماتهم، نظرًا لأن كثيرًا من الجنود جاءوا من أماكن أخرى لخدمة الحجيج، وليسوا على دراية كافية بجغرافيا المكان، لكن هناك فرقًا جوالة من الشباب المتطوع، يقدمون هذه الخدمة بنجاح نسبي مشكور.

ولأن عددًا كبيرًا من الحجاج، بسطاء لا يجيدون التعامل مع التكنولوجيا، فإن علاج المشكلة يتطلب مقترحات بحلول واقعية إبداعية، لإنهاء تلك المشكلة، التي نقترح لها حلولًا إن شاء الله في مقال لاحق.

تقبل الله من حجيج هذا العام، وكل عام، حجهم، وغفر ذنوبهم، ويسر للجميع حج بيته العتيق.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز