عاجل
الثلاثاء 19 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
عن قرب شاهدت كل شيء وتعجبت كثيرًا!

عن قرب شاهدت كل شيء وتعجبت كثيرًا!

بقلم : أيمن عبد المجيد

في زيارة للعراق عام ٢٠١١، تحديدًا يوم ٢٣ يونيو، وصلنا مطار بغداد حوالي الساعة الحادية عشرة صباحًا، كنُت ضمن وفد إعلامي يُمثل اتحاد الصحفيين العرب، يزور العراق للمرة الأولى بعد سقوط بغداد.



 

سبع ساعات مضت، وتركتنا فريسة للساعة الثامنة على التوالي، ونحن في قاعة كبار الزوار، ننتظر السماح لنا بالخروج.

 

تلك الساعات، التي هوّنها علينا استقبال كريم من زملائنا الأعزاء بنقابة الصحفيين العراقيين، بقيادة نقيبهم الأستاذ مؤيد اللامي، كان سببها التشديدات الأمنية، فقد صادف الوصول مؤتمر بالقاعدة الأمريكية بالمطار لإعلان، تنكيس العلم الأمريكي، بآخر قاعدة للاحتلال بالعراق.

 

وعند الخروج احتفت وسائل الإعلام العراقية بالوفد المصري، رفيع المستوى، فقد كان الوفد برئاسة الأستاذ إبراهيم نافع، رئيس اتحاد الصحفيين العرب حينها، ويضم الأستاذ مكرم محمد أحمد، الأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب في ذلك الوقت، لعقد اجتماع الأمانة العامة للاتحاد ببغداد، دعمًا للشعب العراقي وصحفييه، وإيفاد رسالة للعالم العربي بقدرة بغداد على استضافة فعاليات دولية وتأمينها، فكانت تُعد حينها لاستضافة القمة العربية، وعدد كبير من الدول يخفض مستوى التمثيل لأسباب أمنية.

 

استقبلني مراسل تليفزيوني، بشوش الوجه، طالبًا التسجيل معي لتضمين تصريحاتي بتقرير تليفزيوني عن الزيارة، قلت: "على الرحب والسعة".

 

فقال الزميل العراقي: "شهدت مصر ثورة وقبلها تونس، كيف ترى دور الثورة العراقية التي أسقطت نظام صدام في إلهام العالم العربي، حيث العراق أول مفجر لثورات الربيع العربي؟!".

 

ضحكت حينها، فابتسم المراسل، ثم قلت: "اختلف معك، في جوهر السؤال، ما حدث للعراق احتلال أجنبي وليس ثورة، أمريكا وحلفاؤها يحتلون العراق، وأسقطت العراق قبل أن تسقط نظام صدام، وهذه حقيقة، يجب ألا نخدع الرأي العام، فنحن الآن هنا لدعم العراق والشعب، ليضمد جراحه التي خلّفها المحتل، الذي يزعم أنه ينكس آخر أعلامه على قاعدة ببغداد اليوم".

 

كنت أتحدث وألاحظ تلاشي ابتسامة المراسل، لتحل محلها ملامح أخرى، تشي بأن مداخلتي لن يُرحب بها في التقرير، وفور توقف التصوير قلت: "أعلم أنها لن تُبث في التقرير، لكن لا يمكنني تزييف الحقائق"، فرد بود: "نعم أستاذ مرحبًا بكم".

 

حينها شعرت بحجم الخطر، ومدى تقدم الأمريكان في فن الدعاية السوداء، فحرب احتلال العراق، كانت أول حرب خشنة، تبث على الهواء مباشرة، كان العالم يشاهد الصواريخ تُدمر بغداد، فتصيب المعنويات للجماهير، قبل أن تُصيب الجنود في الميدان أو المدنيين في مدن العراق.

 

وهي أيضا الحرب التقليدية الخشنة، الأولى التي سبقها استخدام مدفعية الجيل الرابع، لقصف العقول، لتمهيد ساحة العمليات للجنود، فقد بدأت بسلاح الشائعات، بزعم امتلاك العراق أسلحة نووية، واستهداف الشعب العراقي، ليتآكل من الداخل.

 

فقد كانت أطرف قذائف الأمريكان وعملائهم، التي استهدفت الوعي العام، وأصابت جزءًا منه، هي تلك القذيفة الموجهة عبر وسائل الإعلام والإنترنت، التي تزعم أن الأمريكان جاءوا لتحرير العراق من الطاغية صدام!

 

والقذيفة الثانية التأكيدية، هي تلك التي بثت على الهواء، لمجموعة من الدهماء والعملاء المغيبين، وهم يضربون تمثال صدام، الذي تم إسقاطه بالأحذية، لإيهام العالم بأن الشعب العراقي مع هؤلاء المحتلين، على العكس تمامًا من الواقع، فالأغلبية كانت مقاومة، أو صامتة.

 

فالأمريكان طبقوا الدمج بين الحربين الحديثة والتقليدية، فوجدوا أن الحديثة أقل كلفة وأعظم تأثيرًا، بينما الجزء التقليدي كلفهم الكثير من القتلى، بنيران المقاومة العراقية، وكلفهم ملايين الدولارات، بيد أن عزاءهم أنهم وهم على الأرض العراقية، نهبوا الثروات والآثار، والنفط.

 

كان الجهلاء حينها يظنون، وبعض الظن إثم، أن الأمريكان جاءوا لتحريرهم، بل بلغ ببعضهم ترديد أن ما حدث ثورة شعب!!

 

بينما الحقيقة، كانت هدم العراق وحل الجيش، واستبدال مؤسسات الدولة بميليشيات طائفية وعرقية ومذهبية، تتسابق على تقديم الولاءات لأطراف خارجية، بغية دعمها لتتمكن من السيطرة، فإذا بها تتحول لمخلب قط لمحركيها، تذهب ثروات الدولة، مقابل السلاح، والسلاح يوجهه أبناء الوطن الواحد لصدور بعضهم البعض.

 

في مقال سابق قلت: "الحرب الحديثة، أسلحتها الدعاية السوداء، الشائعات والأكاذيب، التي تستهدف إثارة النعرات الطائفية والمذهبية تارة، والروح المعنوية تارة أخرى، بل وجدران الثقة بين الشعب وقيادته السياسية، أو مؤسساته الصلبة، بغية تآكل الدولة المستهدفة من الداخل".

 

ذخيرة تلك الحروب الشائعات والأكاذيب، ولها في أجهزة المخابرات معامل تخليق، وفي وسائل الإعلام البديل من "سوشيال ميديا ويوتيوب وتويتر"، وغيرها، أسلحة لإطلاقها وترويجها، وتضخيمها وإعادة تدويرها، ففي الفضاء الإلكتروني ملايين المستهدفين.

 

أقوى الشائعات، هي تلك التي تحوي جزءًا من الحقيقة، بيد أن تلك الحقيقة يتم اجتزاؤها، وبناء أضعافها عليها من الأكاذيب، لخداع المتلقي، وتدمير قناعاته واستبدالها بوعي زائف.

 

هذا حدث في العراق حرفيًا، فصدام فعلًا يتحمل جزءًا من المسؤولية الناتجة عن سياسات خاطئة، في غزو العراق وإنهاك الدولة في حروب، صحب تلك الحروب تشديد الإجراءات الأمنية، خشية الاختراق، فوسع دائرة الاشتباه، فأصاب بعض الأبرياء بظلم، لكن تلك الحقيقة، بني عليها آلاف الأكاذيب التي استهدفت إسقاط الدولة، وليس صدام، فقد رحل صدام بينما الشعب ينتظر الديمقراطية «الموعودة» منذ ١٩ عامًا.

 

ينتظر الوهم إلى أجل غير مسمى، يقاتل الشرفاء لاستعادة مؤسسات الدولة، بينما المتربصون، المستفيدون، من حالة الضعف، يتحكمون عبر عملائهم في درجة حرارة معادلة التفاعل، حتى لا تنتج مطلقًا استقرار وبناء يُضر بمصالحهم.

 

فكلما ضعُفت مؤسسات الدولة الوطنية، قويت الميليشيات العميلة، وإذا نجح الوطنيون من قيادات الشعب، في قتل الفتن وتوحيد الصف، يتم الدفع بمتغير خارجي، يقلب موازين المعادلة، ويغير من نتائجها إلى النقيض.

 

وهذا ما حدث، عندما احتوى العراقيون الفتنة المذهبية، وبدأوا في بناء دولتهم، دفعت أجهزة المخابرات بمتغير خارجي، متمثل في تنظيم "داعش" الإرهابي، الذي خلقوه بدقة في معامل المخابرات، وصنعوا من عملائهم قياداته، فمنحوهم السلاح، والخبرة ووسائل السوشيال ميديا، وخبراء الإنتاج السينمائي، لصناعة أفلام ترويجية ذات فاعلية عالية في الاستقطاب.

 

هل تذكرون أفلام قطع الرؤوس، في العراق، هل تذكرون أشقاءنا المصريين الذين قطعت رؤوسهم في مشهد سينمائي هوليوودي على شواطئ ليبيا، هل تذكرون رد الجيش المصري الباتر لأذرعهم بعد ساعات معدودة من الحادث؟!

 

بالعودة للعراق، بلد نهري دجلة والفرات، هذان النهران اللذان أصابني الألم عندما رأيتهما في ٢٠١١، وفي ٢٠١٧، وقد انحسر ماؤهما، وبدأ العراقيون يتحدثون عن أزمة مياه، تلك الحرب القادمة، حرب المياه.

 

نظام أردوغان التركي، أحد أهم اللاعبين للتحكم في المعادلة العراقية، بهدف إضعاف الدولة، فالرجل العثماني، استفاد من ضعف العراق، في الاستيلاء على ٧٠٪ من حصة العراق المائية، المقدرة في ١٩٩٩ بمئة مليار متر مكعب، لا يصل منها الآن سوى ٣٠ مليار متر مكعب فقط، فلم يعد لشعب العراق جيشٌ يحمي ثرواته.

 

إيران، التي منع الجيش العراقي تمددها في أراضيه، ودخل معها حربًا استمرت ثماني سنوات، حققت نفوذها بسقوط بغداد، وتقاسمت الغنائم مع الاحتلال الأمريكي، الذي كان أول قراراته عبر «برايمر»، هو حل الجيش العراقي وتصفية قياداته.

 

فلم يكن صدام الهدف، بل الهدف كان تدمير العراق، ولم يكن لذلك أن يحدث إلا على جثة جيش العراق، وما كان لجيش العراق أن يُدمر، لولا خيانة الداخل، والمغيبين زائفي الوعي.

 

لكنهم الأمريكان، صنعوا الإرهاب في أفغانستان، استخدموه، لإسقاط السوفييت، ثم اتخذوا منه ذريعة لاحتلالهم، ثم تدمير العراق، ثم صناعة الإرهابيين فيها، واليوم يقصفون ميليشيات صنعتها الفوضى بصواريخ الصهاينة، إسرائيل تلك التي كانت ترتعد من صواريخ جيش العراق، تقصف اليوم عمق بغداد، وتنتهك سيادته بلا رادع.

 

القصة تعود لانتصار عام أكتوبر ١٩٧٣، يوم هزمت مصر يعاونها العرب، أمريكا والصهاينة، يومها درسوا الهزيمة وأسبابها، فكانت نتائجهم، أن جيش وشعب مصر تزداد صلابتهم في مواجهة العدوان الخارجي.

 

كان السؤال الجوهري في ذهن أجهزة استخبارات الاحتلال ومراكزه الفكرية: كيف انتصرت مصر، ومن أين تحقق لها الدعم اللوجستي، ومخزونها الاستراتيجي تسليحيًا؟!

 

والسؤال الثاني: كيف يُمكننا تدمير أعمدة تلك القوة، محليًا وإقليميًا، وما الخطة الزمنية لتحقيق ذلك؟!

 

خلصت تحليلات الصهاينة للواقع، إلى:

 

١- إن ركيزة قوة مصر الرئيسية، هي (القوى البشرية) الشعب وتوحده خلف الهدف القومي، وقدرته اللامحدودة على التضحية، وقوة نسيجه ولُحمته.

 

٢- إن الدائرة الثانية لقوة مصر ١٩٧٣، تمثلت في دعم محيطها العربي، فعلى مستوى أسلحة الضغط استخدم العرب سلاح البترول، لردع مساعٍ دولية كانت تستهدف دعم الصهاينة، وقاد خادم الحرمين الشريفين ذلك حينها.

 

٣- توحد العرب وفّر لمصر دعمًا استراتيجيًا من مخزون السلاح، فالسلاح في ليبيا والعراق والأردن واليمن، مثّل مخزونًا استراتيجيًا لصالح مصر، حال الحاجة إليه، كما شاركت فرق عسكرية عربية في الحرب.

 

٤- موقع مصر الجغرافي، ومصادر ثرواتها، بداية من النيل نبع النماء، بما يحققه من ضمانة الأمن المائي والغذائي عبر الزراعة، أي أن مصر قادرة على توفير الحد الأدنى لمتطلبات الصمود، مرورًا بقناة السويس، والفرص الاستثمارية في سيناء البكر، بما يمكن أن يُمثل دفعة قوية للنهوض، وتحقيق تفوق نوعي مستقبلي إلى جانب التفوق الكمي على العدو ومن يرعاه.

 

٥- قدرة العرب على فتح أكثر من جبهة قتال في آنٍ واحد، عند أي مواجهة، فالمعركة على الجبهة المصرية- سيناء- تزامنت معها معركة على الجبهة السورية- الجولان- وهذا حقق أهداف تكتيك، استهدف تشتيت قوى الصهاينة، وإجبارها على توزيع قواتها العسكرية على جبهتين.

 

وفي ظل تلك المعطيات، بدأ الحلف الصهيو-أمريكي، يضع خطة هدم أعمدة القوة تلك، وفق مخطط زمني مدروس بعناية، تنبثق منه خطط فرعية لكل منطقة جغرافية على حدة، لكسب استراتيجية (تحطيم الأعمدة) بالنقاط.

 

عن تفاصيل تلك الاستراتيجية.. للحديث بقية.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز