عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
طواحين الهواء!

طواحين الهواء!

بقلم : د. إيريني ثابت

تحكى قصة «دون كيشوت» للكاتب الإسبانى سرفانتس عن البطل دون كيشوت الذى يترك راحته ومنزله وحياته المنظمة الهادئة يسيرة الحال، بحثا عن الأهوال.



هذا الرجل متوسط العمر يقرأ قصص الفرسان وبطولات أصحاب السيوف وتقاليد الكرامة والشرف والنبل والدفاع عن المظلومين ضد الظالمين.. فيقرر أنه سيصبح بطلا مثلهم وسيسعى فى البلاد ليناصر العباد.. وتتعدد رحلات دون كيشوت ويحقق فشلا بعد فشل.. ويختار تابعا له ليسير معه أيضا فى رحلات فشله، بعد أن اقتنع أن السيد النبيل الفارس دون كيشوت سوف يجعله أميرا على إحدى الجزر الجميلة.

فى رحلات دون كيشوت التى يصارع فيها أوهامه، تنقلب الموازين على أرض الواقع.. فيضطر أحيانا للابتعاد عن المشهد الذى يتم فيه أمام عينيه وقوع الظلم على الضعفاء.. وفى أحيان أخرى يقف مع الأقوياء الجشعين ويصادقهم.. ويختفى الدافع الرئيسى وراء خروج دون كيشوت من بيته ومن راحته.. ويتساءل القارئ مثلى: لماذا خرجت يا دون كيشوت من بيتك؟ ما الذى تسعى لإثباته؟ أنك بطل؟ ولمن تريد أن تثبت بطولتك؟ للعالم؟ أم لنفسك؟ وأين ذهبت مبادؤك؟ ألم تكن الفروسية سبب منازلتك ومصارعتك وسعيك للمغامرة؟ أين أخلاق الفروسية إذا؟

ثم نظرت إلى حياتنا اليومية.. فوجدت أن كثيرًا منا دون كيشوت.. نصارع طواحين الهواء.. نعتقد أن الحياة هى مجابهة الأخطار.. وأن من لا يقدم على التحديات ويقنع بالهدوء والثبات هو إنسان لا يعيش.. فالحياة مخاطر نواجهها، وامتحانات نجتازها.. وشرور نتفاداها.. وعمل طموح نتعب فيه.. إلى آخر تلك المبادئ العجيبة التى لا أفهم من أين جاءت.

هؤلاء الطامحون مثلهم مثل دون كيشوت فى رحلاته الفاشلة.. فهم غالبا ينسون المبادئ الأولى التى حفزتهم على خوض الطرق الصعبة وأحلام الإنجاز والفروسية الحديثة فى القرن الواحد والعشرين.. وغالبا يصلون لمرحلة من «اللخبطة» كما حدث لدون كيشوت فلا يميزون الصواب من الخطأ.. ويتحول المحرك الأساسى فى حياتهم من محرك المبادئ إلى قوة خفية تدفعهم للجرى والسباق مع الزمن والمسافات وكأن هدفهم هو الصراع مع الحياة وليس الصراع من أجل المبادئ أو من أجل ما يؤمنون به.

منذ حوالى قرن من الزمان خرج الفيلسوف الإنجليزى برتراند راسل بنظرية تبدو عجيبة جدا.. إذ قال إن الطريق للسعادة هو التوازن لتقليل ساعات العمل اليومية.. قال إن أربع ساعات عمل يوميا تكفى.. قال إن الإنسان الطبيعى يحتاج لوقت للتسكع وللهدوء وللصمت وللتأمل.. قال إن الإبداع يحتاج إلى وقت فراغ.. قال إن المبادئ التى ترفع من قيمة العمل والجهاد وإضاعة حياة الإنسان من أجل رفعة قيمة العمل، ما هى إلا أفكار تحتاج إلى إعادة نظر.

ورأيت أن كثيرا من أفكار برتراند راسل منطقية.. وأنها تفسر كآبة حياتنا اليومية التى نعمل فيها  من 6 إلى 8 ساعات وربما أكثر.. وتثبَّتَت لدىّ فكرتى عن تشابه حياتنا بحياة دون كيشوت التى نصحو فيها باكرا كل يوم.. نخرج لا نعرف لماذا.. نجتهد بين طرق ومواصلات وإشارات مرور صعبة.. لنصل إلى أماكن عمل مكتظة بكل أنواع التحديات والمسئوليات.. ونظل نعمل ونبذل من طاقاتنا الجسدية والنفسية حتى ننهك.. ثم تبدأ رحلة العودة إلى المنزل ونحن نصارع الطواحين.. ونعود لننام لا لنستريح، بل لنستعد لرحلة يوم عمل جديد.

فى نهاية قصة دون كيشوت ينهزم ويقهر.. ويعود لمنزله وقد خارت كل قواه.. ويعلن كفره بكل مبادئ الفروسية والنبل والشرف.. ثم يصاب بالحمى ويموت.. مسكين دون كيشوت.. لم يكن برتراند راسل قد ولد حينئذ.. ولا كانت أفكاره الكسولة وفلسفته غير العادية قد ظهرت للوجود.. إذ إن دون كيشوت قصة من العصور الوسطى.. وبرتراند راسل فيلسوف من القرن العشرين.. ربما لو يفهم كل دون كيشوت فى العالم أن برتراند راسل على حق، لا نجد من يصارع طواحين الهواء كل يوم.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز