عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
بيوت التفكير

بيوت التفكير

بقلم : طارق رضوان

فى البدء كانت الفكرة. فكرة الحضارة التى بناها المصرى القديم. لم تتوقف الأمة عن إنتاج أفكار انفجرت من عقول مبدعة متفتحة مخلصة لأمتها. سبقت مصر وتبعها العالم. حتى فى أحلك ظروفها. وقت انكسارها المأساوى. كانت مصر تسبق وتبهر. ففى تلك البلاد الطيبة منذ بدء الخليقة كان هناك مصانع لإنتاج الفكر المصرى. جعل منها أهم دولة فى العالم كما شهد أعداؤها.



فى العصر الحديث وهو العصر الذى اتفق الجميع أنه بدأ مع دولة محمد على. كانت بيوت التفكير تنتج مفكريها ومبدعيها. تنتج نخبتها التى تجر خلفها قاطرة الأمة بأكملها.

فالنخب فى أى مجتمع من المجتمعات المتقدمة هم قياداته إذا لجأ إليهم ممن يعنيهم أمر مستقبل البلاد، وكان همهم أن يصنعوا شكل ما هو قادم. شكل المستقبل. وشكل للمستقبل. فإن أول ما يذهبون إليه أو يسأل عنه ويقيس إمكانياته ودرجة استعداده هو الحضانات العامة التى ترعى وتسمح بظهور النخب وتقدر على فرزها ودفعها إلى مقدمة الصفوف فى المجتمع لتقوده نحو المستقبل. كانت الحضانات قد بدأت فى العصر الحديث فى الأزهر الذى لعب الدور الأول فى الحركة السياسية الوطنية.

رجال من طراز الشيخ عبدالرحمن الجبرتى والشيخ حسن العطار والشيخ رفاعة الطهطاوى. ثم كانت مهنة المحاماة هى الحضانة الثانية التى أنتجت النخب المصرية. رجال على طراز سعد زغلول ومكرم عبيد ومصطفى النحاس. ثم جاء دور الجهاز الإدارى للدولة بعدما رسخت مصر مفهوم الدولة بشكلها العصرى وأنتج جهاز الدولة رجالًا بوزن محمود فوزى ومجدى وهبة وعبدالمقصود أحمد. ثم أنتجت الحركة الشبابية والطلابية موجة جديدة من المفكرين من أمثال فتحى رضوان ونور الدين طراف.

 ثم جاءت ثورة يوليو، فكانت القوات المسلحة حضانة للنخبة الجديدة وظهر رجال مثل صدقى سليمان مهندس السد العالى ومحمود يونس مهندس تأميم قناة السويس ومحمود رياض وثروت عكاشة ويوسف السباعى. وبعدما استقرت دولة يوليو لعبت الجامعات والنقابات المهنية دورًا فى إفراز النخبة الجديدة أمثال عزيز صدقى ومصطفى خليل وسيد مرعى وعلى الجريتلى وعبدالمنعم القيسونى ورفعت المحجوب. أى أن الحضانات التى كانت بمثابة بيوت التفكير فى مصر كانت الأزهر والأحزاب السياسية والقوات المسلحة والجهاز الإدارى للدولة والجامعات والنقابات. فكانت مصر مصدر جذب للنخب العربية كلها.

فاستقبلت الجامعات المصرية طلابًا من الوطن العربى ومن أفريقيا وآسيا عادوا إلى بلدانهم كقيادات تصنع فى بناء دولتهم بعد صناعة العقل فى مصر. وهو ما كان من أهم أدوات قوة مصر الناعمة. فتبادل الطلاب والقيادات مثال طيب على تأثير القوة الناعمة، ففى الولايات المتحدة -على سبيل المثال- هناك ستة وأربعون من رؤساء الحكومات الحاليين و165 من السابقين هم خريجو الجامعات والتعليم العالى بالولايات المتحدة.

ولا تجذب الولايات المتحدة جميع الطلاب الأجانب الذين يأتون سنويًا إلى الولايات المتحدة، وقد وصل عددهم 750 الفًا. ولكن الغالبية منهم تشعر بالجذب تلقائيًا. فتبادل الطلاب الذين يعودون إلى بلادهم فيما بعد يجعلهم يحملون رؤية أكثر إيجابية عن البلد الذى درسوا فيه والشعب الذى تفاعلوا معه ودائمًا الطلاب الذين يتعلمون تعليمًا أجنبيًا فى الجامعات الأمريكية يدعمون العلم الحديث فى بلدهم الأصلى إذا هم تلقوا التعليم فى دول تصنع الحضارة الإنسانية الحديثة. وعلى سبيل المثال لقد تأثر اعتناق ميخائيل جورباتشوف للبيريسترويكا والجلاسنوست بأفكار تعلمها فى الولايات المتحدة على يد ألكسندر ياكوفليف قبل عقود سابقة.

فقد اتخذت الولايات المتحدة قرارًا مصيريًا وهو النداء المستمر والإلحاح بالغواية إلى أكبر عقول العالم فى كل التخصصات لكى تذهب إلى أمريكا بحجة أنه هناك على أرض الإمبراطورية الحديثة وليس عندك يوجد المجال الحقيقى والمناخ المناسب لهذه العقول لتحلم وتعمل وتبدع وتطل على العالم من أوسع نوافذه وتعود إليه من أوسع أبوابه.

 فقد استطاعت الرأسمالية الغربية أن تجند أكثر العقول إبداعًا ومقدرةً وخصوبة وقدرة على الخلق فى الولايات المتحدة الأمريكية. كانت الرأسمالية قد اكتشفت بتجربة ما قبل الحرب العالمية الثانية أن المفكرين فى كل مجالات العلوم والفنون والآداب هم عنصر القلق الرئيسى والمراجعة فى مجتمعاتهم واجتذابهم لصالح مؤسسة الإمبراطورية ذات النفوذ والقوة المفرطة والسلطة. أولى من تركهم عنصرًا للشك والتشكيك فى هذه المجتمعات. فلم تعد الإمبراطورية الأمريكية هى مجرد محترفى السياسة الحزبية. لكنه دُعى إلى صفوفها مجندون فى خدمتها وفى خدمة مشروع الرأسمالية الغربية مفكرون سياسيون تحولوا فى واقع الأمر إلى مهندسى سياسات يضعون خططاً لمستقبل العالم كله. وكانت كل حركات التحرر فى الوطن العربى وفى أفريقيا وفى آسيا قد جذبتها الحياة السياسية والفكرية فى مصر وعادوا لبلادهم ولديهم فكر وروح الفكر والعقل المصرى. لكن عنصر الجذب للعقول وإعادة تأهيلها من جديد بما يتطلبه روح العصر تتطلب ثلاث مجموعات من الصفات فى العناصر أو العمل التى تعتبر محورية فى الجذب. وهى الرقة والجدارة والجمال «الكاريزما». فالرقة مظهر لكيفية اتصال أحد العناصر بعناصر أخرى. وإذا اعتبر عنصر ما بأنه رقيق فهذا يتجه إلى تولد التعاطف والثقة والمصداقية والإذعان.

أما الكفاءة أو الجدارة فهى تشير إلى كيفية أن يؤدى أحد العناصر بعض الأشياء ويولد الإعجاب والاحترام والمحاكاة. أما الجمال أو الكاريزما فهو جانب لعلاقة العنصر بالمثل والقيم والرؤية يتجه إلى خلق الإلهام والالتصاق. وهذه المجموعات من الصفات حاسمة لتحويل الموارد (مثل الثقافة والقيم والسياسات) إلى سلوك القوة وبدون هذه الصفات المدركة ربما يولد مصدر مسلم به وهو اللا مبالاة حتى الانسحاب. وهو مضاد للقوة الناعمة.

هذا الانسحاب هو ما مرت به مصر خلال أربعة عقود سابقة فتوقف إنتاج النخبة. وتوقفت مصر عن مصدر جذبها للعقول من الخارج. وهى كارثة بكل المقاييس. فقد لجأت النخبة المصنوعة داخل حظيرة الوزارات إلى إرضاء الوزير المختص. وقد سمعت ذات مرة من أحد النخب فى جمهورية الفساد جملة واضحة كاشفة حيث قال الرجل بعفوية: (نفسى أعرف الوزير بيفكر فى إيه لأقوم بعمله قبل أن يقترحه). هكذا وصل الحال فى مصر مما أنتج خلف هؤلاء نخب لا تبحث سوى إرضاء من ينعم عليها بالمناصب والجوائز. فضاعت النخبة المصرية وأصبحت نخبة جاهلة مرتزقة.

نخبة تبحث عن المصالح الخاصة الضيقة مما جعل الدولة فى حالة شلل تام لإنتاج الأفكار الجديدة نتج عنها صعود تيار دينى فاشستى ينتمى للعصور الوسطى بمباركة نخبة زمانهم. فحلت الكارثة على البلاد نعانى منها إلى وقتنا الحالى. توقفت العقول عن الإبداع بل وشكلت تلك النخبة الفاسدة طبقة عازلة منعت الانتخاب الطبيعى من تنفس هواء الإبداع. بل وسعت لقتل كل مبدع يمكن أن يذيب تلك الطبقة من موقعها فى القيادة. فانتشر فقر الفكر وبقى كراكيب الماضى فى مواقعهم فى حالة تحفز لكل ما هو جديد وكل ما هو مبدع. لكن الدولة القوية التى يبنيها الرئيس فى طريقها لصناعة نخبتها الجديدة. نخبة الدولة القوية. نخبة وطنية مبدعة مخلصة همها الأول بناء المستقبل لدولة حديثة. نخبة تحتاج لقائد تتوفر فيه الخبرة والعلم والكفاءة والتواضع والوضوح يعمل من خلال بيت جديد للتفكير يكون حضانة لنخبة جديدة حقيقية وليسوا نسخة رديئة من نخبة سبقتهم موصومون بالغرور والصفاقة والجهل.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز