عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
لغـــز أنور السادات

لغـــز أنور السادات

بقلم : طارق رضوان

لم يُدرس هذا الرجل بعد، ولم يكشف التاريخ الحقيقة الكاملة عنه، لابد أن نتوقف كثيرًا أمام شخصيته وعلاقاته ومسيرته وقراراته ولا نفصلها عن الظرف التاريخى وقته، كثير من الاتهامات طالت الرجل وكثير من المدح ناله بعد عدة عقود من رحيله الدراماتيكى. بعد العام الأول بعد المائة من ميلاده لابد أن نتوقف وندرس وندقق شخصية هذا الرجل. لقد كان الرئيس محمد أنور السادات أخطر زعيم فى المنطقة العربية فى عصرها الحديث، نجمًا سياسيًا لامعًا وغامضًا ومندفعًا، لكنه كان يملك شجاعة الاعتراف بالخطأ كما حدث فى خطابه الأخير قبل اغتياله، لقد كان السادات لغزًا لم تفك شفرته بعد.  



عندما جاء الرئيس السادات إلى الحكم. كانت لديه رؤية أخرى لنظام الحكم فى مصر، كما كانت له رؤيته الخاصة فى توجه البلاد ومستقبلها، فقد كان يرى أن النظام الناصرى الذى ورثه به كثير من العيوب؛ وممسكًا بكثير من التقاليد التى عفا عليها الزمن، والمستقبل للبلاد هو الاتجاه إلى الغرب الرأسمالى مبتعدًا عن الشرق المتمثل فى الاتحاد السوفيتى الاشتراكى رغم احتياجه فى بداية حكمه للدعم السوفيتى لخوض الحرب. لكنه كان بين الوقت والآخر يرسل برسائله الغامضة للغرب، ليعلن من خلالها أنه ليس مكملا لعبدالناصر، بل صاحب رؤية خاصة مختلفة كلية عن سابقه، ولأنه كان يعلم رأى الغرب فى شخصيته وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية وخصوصًا الدكتور هنرى كسنجر الذى قال عنه بهلوان سياسى، إلا أن الرجل كان صبورًا لأقصى درجة لإثبات ذاته وتحقيق رؤيته.

فهناك مشهدان دراماتيكيان أقدم عليهما مع بداية السبعينيات يدلان على فكر السادات، وهما مفتاح فك شفرته الغامضة المعقدة، حين قرر الرئيس السادات هدم معتقل «طره» كرمز لتحطيم معسكرات الاعتقال الناصرية وعدم العودة إلى عهد «الإجراءات الاستثنائية»، فحين توجه ومعه وزير الداخلية وحشد من الصحفيين المصريين والأجانب ليشاهدوا «حرق» الأشرطة التى سجلت عليها أجهزة الأمن الناصرية الأحاديث الخاصة لبعض الشخصيات.

لم ينتبه أحد حينذاك إلى الظاهرة المزدوجة فى المشهدين. شقها الأول أن الهدم الرمزى لسجن «طره» -الذى يقع جنوب القاهرة وشمال الضاحية حلوان- لم يكن يعنى مطلقًا أن السجون فى مصر تحولت إلى حدائق، بل كان يعنى «الإفراج» عن بقايا «الإخوان المسلمين» الذين كانوا قد حبسوا بموجب أحكام قانونية منذ عام 1965 على أثر محاولتهم المسلحة لاغتيال عبدالناصر، وكذلك الإفراج عن بعض الجواسيس الإسرائيليين والمصريين، وعن الكاتب المصرى مصطفى أمين الذى كانت إحدى المحاكم قد أصدرت بحقه عام 1965 أيضًا حكمًا بالسجن لمدة 15 عامًا لاتهامه بالتخابر مع أجهزة الأمن الأمريكية. الشق الثانى للظاهرة أن الحرق الرمزى لأشرطة التسجيل المباحثية قد برهن بالدليل الدامغ على أن «التنصت» الذى كانت تمارسه أجهزة الأمن الناصرى كان من نصيب الغالبية الساحقة من الشخصيات الديمقراطية واليسارية، حتى أن الكاتب اليسارى لطفى الخولى وزوجته والسيدة نوال المحلاوى سكرتيرة محمد حسنين هيكل -حتى عام 1970 - وزوجها قد دخلوا السجن عدة شهور ولم يفرج عنهم إلا بعد وفاة عبدالناصر، بموجب تسجيلات صوتية مارستها الأجهزة المذكورة لزيارة عائلية ضمت الأربعة، وأيا كان الأمر، فقد كان المشهدان الدراماتيكيان بعد سقوط المجموعة الناصرية عام 1971، يوحيان كما لو أن النظام الجديد قد شد العزم على «لبننة مصر» أى استلهام النموذج الليبرالى فى الحياة السياسية للمجتمع، وكان من شأن هذه المظاهر أن تنال رضا المصريين الذين عانى بعضهم الويلات فى ظل تأميم الديمقراطية لمصلحة الفئة -لا الطبقة- ومصلحة الفرد لا النظام.

ولكن المشهد الدراماتيكى فى مزرعة سجن طره لم يكن فى واقع الأمر يشير إلى لبننة مصر إلا من حيث المظهر الخارجى. بينما كان يشير على «سعوديتها» من حيث المضمون السياسى للمفرج عنهم، تلك كانت إشارة إلى المستقبل، إشارة إلى المجهول، بينما كان مشهد حرق الأشرطة فى ساحة وزارة الداخلية مجرد تنديد بالماضى وإدانة له ومحاولة استغلاله باحتواء اليسار، وتذكيره بالذى كان. كان المشهد فى حقيقته دعوة لليسار بأن يفوز «بحريته» فى حدود النظام و«لتكريس» الانقلاب على عبدالناصر وتعميده من جميع القوى السياسية فى البلاد، بالإضافة إلى «جوهر» المشهدين الذين لم ينتبه إليه الكثيرون فى الوقت المناسب، لم يلحظ الجميع ذلك التوازى المحكم فى القرارات والإجراءات منذ بداية الانقلاب على دولة عبدالناصر، فالمبادرة التى قدمها السادات للعالم فى فبراير 1971 وقانون الاستثمار العربى والأجنبى الذى صدر فى سبتمبر 1971 ليس منفصلين عن بعضهما.

والمبادرة الثانية تؤكد هويته الاقتصادية بعد الإطاحة بالمجموعة الناصرية من السلطة فى ذلك التاريخ. كانت المبادرة الأولى بداية الانفتاح السياسى على «الغرب» و«إسرائيل»، وكانت المبادرة الثانية بداية الانفتاح الاقتصادى، وتلك كانت بداية طريق مصر إلى الآن، وأقبل الاستغناء عن الخبراء السوفيات عام 1972 بداية الانفتاح العسكرى على الأمريكان، وما أن انتهى عام 1972 وما كان عام 1973 يبدأ حتى ماجت مصر بحركة الطلاب والمثقفين ونقيضها الفتنة الطائفية. هنا أعطت «ليبرالية» النظام الجديد أولى ثمارها أو ما سمى بقانون رقم 34 لسنة 1972 «بشأن حماية الوحدة الوطنية»، وقد لوحظ أن القانون الجديد فى مادته الثانية أن «الاتحاد الاشتراكى العربى هو التنظيم الوحيد المعبر عن تحالف قوى الشعب العاملة»، ولم يكن هناك نص فى الوثائق الدستورية السابقة، بما فيها دستور الانقلاب على الناصرية ذاته على أن الاتحاد الاشتراكى هو التنظيم السياسى الوحيد رغم أنه عمليًا كان كذلك، ولكن المقصود بالإضافة الجديدة هو مواجهة الأشكال التنظيمية المستقلة عن السلطة والتى ولدت كمعارضة قائمة وأخرى محتملة للنظام الجديد، وقد جاءت المادة واضحة وقاطعة حين قالت «ولا يجوز إنشاء تنظيمات سياسية خارج الاتحاد الاشتراكى العربى أو منظمات جماهيرية أخرى خارج المنظمات الجماهيرية التى تشكل طبقًا للقانون». فلقد ولدت أثناء انتفاضة الطلاب والعمال والمثقفين أشكال تنظيمية جديدة تمامًا ومستقلة عن الأطر الرسمية سواء فى النقابات المهنية أو الاتحادات الطلابية والعمالية؛ كاللجان الوطنية والمؤتمرات المستمرة الانعقاد؛ والتسيير الذاتى للمصانع وغير ذلك، وهى أشكال من التنظيم المستقل أيضًا عن المنظمات السرية يسارًا أو يمينًا. وقد تنبه النظام الجديد فى وقت مبكر إلى خطورة هذه «المبادرات» التنظيمية التى تشكل فى مجموعها رقابة إيجابية على محاولاته الحثيثة حينذاك فى «الاحتواء المؤقت». كان من شأن هذه الرقابة الشعبية تمزيق أقنعة الاحتواء العلوى بالمواجهة من أسفل، لذلك جاء «الإبداع الفكرى» لدى العقلية الانقلابية بأن يرتدى القمع ثياب القانون، فلا معتقلات ولكن السجون مفتوحة فى ظل سيادة القانون، والقانون ممكن الصدور فى أى وقت حتى إذا تعارض مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان والقيم الرئيسية فى الدستور، فإنه «المظلة» الواقية من الهزات. هكذا أقبلت المادة الثالثة من القانون الجديد «تعاقب بالحبس كل من أنشأ أو نظم أو أدار جمعية أو هيئة أو منظمة أو جماعة على خلاف حكم المادة السابقة، وكل من انضم أو اشترك فيها، ويعفى من العقوبة كل من بادر بإبلاغ السلطات». والمادة الرابعة تعاقب بالحبس «كل ما عرض الوحدة الوطنية للخطر» والمادة الخامسة تفرغت لكل «من أذاع عمدًا أخبارًا أو بيانات أو شائعات كاذبة بقصد الإضرار بالوحدة الوطنية». هكذا بدأ السادات نظام حكمه، وهكذا أعلن عن نفسه وعن الطريق الذى سيسلكه لمواجهة العالم فى وقت كان سدس مصر محتلًا والأمة تستعد لاستعادة الكرامة، فقد أسدل الرجل وإلى الأبد الستار على حقبة وطنية قومية انتهت بالفشل المروع، لتبدأ مصر طريقًا جديدًا ممهدًا سلكته الأمة يريد الغرب هدمه الآن وإعادة تكوينه من جديد، لقد كان السادات خطيرًا سلبًا وإيجابًا، لكنه كان وطنيًا مصريًا خالصًا وحاكمًا شرقيًا بما تحمل هذه الصفة من معان كثيرة!.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز