عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

فــي ســـنـتـرال رمـســيــس

فــي ســـنـتـرال رمـســيــس
فــي ســـنـتـرال رمـســيــس

قصة / حسن زايد
 
غريبة تلك الروح القروية الساذجة التي تطل علي تصرفاتي بين الحين والآخر، وكأني اصطحبها بين طيات ملابسي في حلي وترحالي ، فما زالت علاقتي بأهل المدينة مشوبة بالتوتر والقلق ، والشك والريبة ، برغم انقضاء اكثر من نصف عمري بين ظهرانيهم . ورغم ذلك فقد اضطرتني ظروف العمل إلي الإنتقال إلي المدينة ، وفي العمل راقت لي فتاة غلب علي ظني أنها شريكة حياتي في المستقبل . تقدمت لخطبتها ، ومرت فترة الخطوبة دون مشاكل تذكر ، اللهم إلا بعض المشاغبات التي تقع علي نحو عفوي ، وسرعان ما يتم تجاوزها . بعد أن اتفقنا علي يوم عقد القران ، طلبت مني مرافقتها إلي السنترال ، كي تهاتف أخيها الموجود في رحلة عمل بالسعودية . فاستجبت من فوري ، لعلها أول مرة أشعر فيها بالمسئولية تجاة فتاة ، ولعلها تكون فرصة لإلقاء بعض كلمات الغزل علي مسامعها ، لعلها تجد في قلبها صدي ، وربما تكون فرصة للتخلص من قرويتي بتقليد أهل المدينة في بعض تصرفاتهم بالذهاب إلي السينما . كل ذلك دار بخلدي وأنا وهي ننتظر علي جانب الطريق تاكسياً يترفق بنا ، فكلما مر تاكسياً ناديت وأنا أشير بيدي بالحاح مبالغ فيه : " تاكسي " ، فلا يكلف السائق نفسه مشقة الإلتفات نحوي ، ولا مغبة التورط في الوقوف ، وسط زحام السيارات ، الذي تكتظ به القاهرة ، ويكاد يخنقها ، ويزهق روحها . عجيب أمر هذه المدينة ، تنظر إليها فتجد موجات البشر والسيارات تتري ، تتدفق من المجهول إلي المجهول ، بلا توقف  ، في تزاحم غير منقطع ، كأن الحياة فيها تستمر بقوة الدفع الذاتي ، فوضي منظمة تديرها إدارة فوضوية . ضجيج المحركات ، وآلات التنبيه التي لا تتوقف ، إنها تغطي علي صوتي وأنا أنادي علي أي سيارة عابرة : " تاكسي " . الهواء الساخن اللزج ، يلفح حبات العرق الملحية ، التي تتساقط  من أنحاء الجسد ، بفعل حمم الحرارة التي تقذفها الشمس ، تشعر مع عبثية الموقف بأن هناك مؤامرة كونية تحاك ضدك . سيطر الضجر علي الموقف ، وفرض الملل سطوته علي الوجود ، فنظرت إلي الواقفة بجانبي متأففة ، وقد ارتسمت علامات التجهم علي ملامحها . كان لابد من التحرك الفوري لإحتواء الموقف الذي يكاد ينفجر لو لم يتم تداركه . أشرت إليها بالتحرك نحو أحد الأكشاك الجانبية التي نبتت علي نحو عشوائي ، بجوار جذع شجرة عتيقة زُرعت في أزمنة قديمة قد خلت . تحركنا سوياً إلي الكشك ،أوقفتها تحت اغصان الشجرة العتيقة متلمساً بقع الظلال التي تحمي الرأس من حمم الحرارة . توجهت إلي الكشك ، اشتريت بسكويتاً ، ومياه مثلجة ، ومياه غازية . نقدت البائع نقوده وانصرفت إليها ، متلمساً منها كلمة ، أو نظرة ، أو ابتسامة نسترد بها روح الدعابة ، ونسترد بها لغة الحوار المنقطع ، بفعل المؤامرة الكونية  ، إلا أنني لم أجد ما تلمست . خطر ببالي ـ في محاولة للخروج من الأزمة ـ أن أداعبها علي نحو فجائي ، كي نخرج من الصمت المطبق بيننا وسط هذا الضجيج الكوني ، فأغمضت عيناي ، وصرخت بكل عزمي : " تاكسي " . فندت عنها صرخة مدوية فزعة ، انتبه الوقوف والمارة  ، وبدأت العيون تغزوا أجسادنا ، تفتش بدواخلنا عن حالة الجنون الفجائية التي اعترتنا علي نحو غير متوقع . حملقت في وجهي بعيون جاحظة ترغب في افتراسي غيظاً ، وقبل أن تعلن عن غضبتها ، إذا بسيارة تاكسي تتوقف فجأة إلي جوار أقدامنا ، ففتحت باب السيارة ، ودفعتها بداخلها ، ودلفت في إثرها . وألقيت بعيني خارج زجاج السيارة فرأيت الناس تضرب كفاً بكف ، وهي تهز رأسها يميناً ويساراً أسفاً علينا . نظرت إليها ، فنظرت إليَّ ، وانفجرنا في نوبة من الضحك الهستيري ، ونحن نضرب أكفنا بعضها ببعض . انتبهت إلي وجود السائق ، وأننا في سيارة ، فرمقت المرآة بطرف عيني كي استطلع الموقف ، فما وجدت إلا وجهاً متجهماً يتميز من الغيظ ، فوضعت أصبعي علي فمي عمودياً في إشارة إلي التزام الصمت المطبق ، ورسمت نصف ابتسامة علي وجهي ، وأومأت إلي السائق معتذراً عن سوء الفهم منه ، وسوء التقدير منا ، وطلبت منه التوجه إلي سنترال رمسيس . وما إن وصلنا بعد مكابدة حتي نقدت السائق أجرته ، ودلفنا إلي داخل مبني ضخم ، بعد أن صعدنا عدة درجات أوصلتنا إلي بوابته الزجاجية الضخمة  ، في الداخل يوجد مكان واسع للإنتظار ، مرصوص به عدة كراسي متلاصقة في شكل مجموعات ، ويتم التعامل مع الجمهور ، من خلال فتحات زجاجية متجاورة ، بطول الحائط الزجاجي . وفي الطرف ، توجد كبائن التليفونات ، مرقمة بأرقام مسلسلة . ذهبت هي الي الفتحات الزجاجية ، وتوجهت أنا إلي المقاعد المعدة للإنتظار . لم أجد أحداً غيري ، فتخيرت أحد المقاعد وجلست . أخرجت علبة السجائر ، فتحتها وأخرجت منها سيجارة ، وضعتها في فمي بيد ، بينما يدي الأخري تجوس داخل الحقيبة باحثة عن ولاعة السجائر . أخرجتها وأشعلت السيجارة ، وسحبت منها نفساً عميقاً ملأ صدري عن آخره ، ثم نفثته في الهواء ، فشكل سحابة ضخمة حول رأسي . فتحت الجريدة اليومية كي أتلهي بها ، حتي تنتهي هي من مهمتها . أسحب نفساً من السيجارة ، وانا انظر في عجل علي العناوين الرئيسة في كل صفحة  ، وبينما أقلب الصفحات فإذا بسيدة متانقة غاية التأنق ، كعب حذائها الطويل يحدث نقراً علي البلاط له صوت إيقاعي راقص ، لبسها يكشف من جسدها اكثر مما يستر ، تلبس نظارة نسائية أنيقة تغطي نصف وجهها  ، وشعرها الأصفر يتدلي علي اكتافها وظهرها . حاولت التشاغل بالجريدة ، حتي لا تلتفت إلي وأنا اتفحصها من رأسها إلي أخمص قدميها  ، الطريف في هذا الأمر أن الرجل وهو يحاول أن يغض بصره ، لا يفوته أن يقتنص نظرة أو نظرتين ، قد يكون ذلك رغماً عنه ، تلبية لنداء الطبيعة ، وقد يكون لنهم في نفسه حيال الجنس اللطيف ، وبينما أبدو متشاغلاً بالجريدة ، إلا أنني  في حقيقة الأمر مشغولاً بها عن الجريدة  ، فقد ضبطت نفسي متلبساً بإرسال طرف عيني تجاهها يرقبها بحذر تحسباً لما تقوم به ،هذا ما اقنعت به نفسي تبريراً لتطفلي  ، إلا أنه في الحقيقة إلباس للرزيلة ثوب الفضيلة ، حتي تستساغ دون منغصات . مازالت عيني ترقبها ، وهي قادمة ، إن وقع أقدامها المنغم يقترب من مسامعي ، شعرت بحالة من الخوف والرهبة ، من ذلك القادم علي غير موعد سابق ، وأنا دائماً أخشي الصدفة ، لأنها تقع علي نحو عشوائي غير مرتب ، تُحدث في حياتي ارتباكاً غير مرغوب فيه . ما زالت تتقدم نحوي ، إن كل المقاعد شاغرة إلا مقعدي ، تُرَاها لماذا تركت كل هذه المقاعد الخالية خلفها ؟ وإلي أين تتجه ؟ . تحولت الدنيا علي اتساعها إلي خرم إبرة ، حيث بدأت ضربات قلبي تتسارع ، وبصوت مسموع ،  وبدأت مسام جلدي تنفث عرقاً خفيفاً  يُحس ، ولا يُري . تخيرت مقعداً مجاوراً دون بقية المقاعد الشاغرة ، وجَلَست عليه . وما إن نظرت إليها حتي التفتت إلي بوجهها كله ، وهي ترفع النظارة ، تكشفت الملامح ، وتقاسيم الوجه ، ولون العيون ، وسواد الرموش ، ودقة الحاجب ، ورقته ، وكثافته . ثم أشاحت بوجهها بعد أن تأكدت أنها أحدثت بداخلي ثقباً بجمالها الأخَّاذ . فتحت حقيبة يدها ، وجعلت تطمئن علي هيئتها في مرآة مثبتة بالحقيبة من الداخل . شعرت أني مخدر ، ومشدود إلي الكرسي بمسامير ربط . أخرجت من حقيبتها علبة سجائر مذهبة ، ثم سحبت منها سيجارة بأطراف أصابعها الدقيقة الطويلة  ، والتقمتها بين شفتيها ، وهي تسألني بصوت هامس خفيض :
ـ أمعك ثقاب ؟
ـ ................
تعثرت  الحروف في فمي ما بين لساني وأسناني وشفتاي ، وجفاف حلقي . أومأت لها بالإيجاب . فإذا بها تقول :
ـ ولع .
ـ .................
أخرجت الولاعة من حقيبة يدي ، وأشعلتها ، واقتربت بها من السيجارة الحريمي الملونة ، ومالت هي بجذعها في اتجاهي ، فإذا بصدرها ينكشف أمامي ، وسمعت فحيح أنفاسها وهي تهمس :
ـ أعندك مكان ؟
 ـ ..................
لم أرد ، بينما عيناي تبحلقان في اللاشيء ، فأعادت السؤال كرة أخري ، لملمت حاجياتي علي عجل ، فعيون الكون  ترقبني ، تخترق مسامي وعظامي ، ونهضت مسرعاً ، وقد أسلمت ساقي للريح ، خارجاً خارج المبني الضخم ، ذو البوابة الزجاجية الضخمة ، ودرجات السلالم الرخامية اللامعة  . تذكرت أن خطيبتي بالداخل  ، ولو تركتها الآن لفسد الأمر كله . وبينما أنا انتظرها بالخارج ، فإذا بذات السيدة تخرج من ذات المبني ، وكعب حذاءها يحدث قرقعة منغمة ، عند ملامسته للدرجات الرخامية ، رفعت النظارة التي تغطي نصف وجهها ، ورمقتني بنظرة سخرية شملتني من  منبت شعري إلي أخمص قدمي ، شعرت بعدها أني أقف في الشارع عرياناً . وجدتني خطيبتي واقفاً مذهولاً أمام السنترال ، وعيناي زائغتان لا تستقران علي شيء . سألتني باندهاش :
ـ مالك ؟
فقصصت عليها ما حدث ، فانفجرت في ضحك هيستيري مستمر ، ضربتها في كتفها حتي تستفيق ، وتكف عن الضحك ، فإذا بها تميل نحوي وهي تهمس : " بحبك " .. لملمت شعثي وأنا أنادي بأعلي صوتي : " تاكسي " .



تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز