عاجل
الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

ياسر عمر أمين يكتب: تجلياتُ علمِ الاجتماعِ القانونيِّ في سوقِ الفنِ التَّشكيليِّ

ياسر عمر أمين يكتب: تجلياتُ علمِ الاجتماعِ القانونيِّ في سوقِ الفنِ التَّشكيليِّ
ياسر عمر أمين يكتب: تجلياتُ علمِ الاجتماعِ القانونيِّ في سوقِ الفنِ التَّشكيليِّ

في ظِلِّ ما ينتابُ المجتمعاتُ من قبحٍ في السُّلوكياتِ، كثيرًا ما أخذني تفكيري نحو كيفية تهذيبِ وتثقيفِ السلوكيات، فما وجدتُ أفضل وأشد من الجمالياتِ، أقصدُ لوحاتِ الفن الجميل؛ تلك التي تفانى مبدعوها في إظهارِ أجمل ما لديهم من أحاسيسٍ وتعبيرات، بهدف تجميلِ وتزيينِ الذوق الجمالي لدى الإنسان، فإذا ما تزيَّن الذوق الفني والجمالي لدى ذات الإنسان؛ لك أن تتوقعَ أنك ستقفُ لا محالةٍ أمام شعبٍ راقٍ، فإذا تحدَّثتُ عن الرُّقى جذبتك بدورها نحو المصداقية، والمصداقية بدورها تدفعك دفعًا لأن تقتُل الزَّيفَ والتزوير والتقليد، هذا ما دفعني لأن أتناولَ وبصدقٍ قضية اللَّوحات المَنْسُوبة للفنَّانين المصريين الرُّواد وبالأحرى الـمُقلَّدَة.



وإذا كان هذا التُراثُ التَّشكيلي المصري الثري كفيلٌ لأن يستحوذَ على أحاسيسنا وشعورنا قبل أن يستحوذَ على عقولنا؛ لما وصل إليه من غاية الروعة في الفنِ والجمالِ والإبداعِ؛ وإذا كان كل ما سبق كفيلٌ لأى دولةٍ من دول العالم لأن تُؤمِّن هذا التراث؛ وتصلُ ليلها نهارها من أجل الحفاظ عليه وتحصينه وحمايته بالآليات القانونية المناسبة، فهل كنا على مستوى الحدثِ من حيث الاهتمامِ والمحافظةِ على تُراثِنا ؟! بالتأكيد الإجابة بالنَّفى.

فما إنْ تتأمل ما في سوق الفن التَّشكيلي المصري من أحداثٍ وقضايا؛ حتى لتتداعى في ذِهْنِك بعضُ الظَّواهِر المجسَّدة والتي تراجع فيها إعمال القانونِ أو نُتُوءُ ما يُعْرَف باسم ظاهرة "اللَّا قانون"، تلك الظاهرةُ التي سبق وأن عرَّفها الفقيه الفرنسي جان كاربونييه بأنها "غياب القانون في عددٍ من العلاقات الإنسانية تلك التي كان من المفترض أن ينطبقَ عليها القانون ويكون حاضرًا من الناحية النظرية". فظاهرةُ "اللَّا قانون" في الحقِ هى حقيقةٌ اجتماعية ذات وجهين ذلك إما: لأن القانون ذاته قد يَتَّخِذُ قراره المعياري بالانسحاب؛ وإما أن القانون ينبغي أن يتدَّخلَ بطبيعة الحال؛ لكن الواقعَ المؤلم يقاومُ والحقائق تحول دون ذلك.

وإن ما تشهدهُ السَّاحة الفنية الآن من ظَّواهِرٍ لتقليد الأعمال الفنية لكبار الفنَّانين المصريين الرُّواد وتزايدها وتضخهما بشكل غير مقبولٍ؛ لهو أمرٌ مُبْكٍ في الحقِ؛ كونه مدمرًا للحياة الفنية من أساسِها؛ ذلك حينما نرى الفنان المبدع يُفْني عمره متجسدًا في لوحةٍ وضع فيها كلَّ أحاسيسه ومشاعره ومندوح أفكاره، ثم تجدُ من يأتى ويحاولُ تزييف مجهود الفنانِ ونتاجهِ الذهني أو نسخهِ. إن تلك الظاهرة التي أصبحت بمثابة سحابة غيومٍ تُغَيِّمُ على المجتمع الفني وعلى تُراثِنا التَّشكيلي والثقافي؛ بل يمتدُ أثرها أيضًا إلى ورثةِ الفنَّانين؛ وما لديهم من حقوق، يَعْكِسُ بوضوحٍ حالة الفوضى التي تستغرقُ المجتمع أو ما يُعْرَفُ في علم الاجتماع القانوني (سوسيولوجيا القانون) بظاهرةِ "اللَّا قانون".

وفي الحقِ أن التزييف أصبح مستنقعًا قميئًا أشدُ ما يثير في نفوسنا الاشمئزاز والضيق، فقد طفى على سطح المستنقعِ في الآونةِ الأخيرة لوحاتٌ "مَوْضُوعة" وأخرى "مَنْسُوبة" للعديد من الفنَّانين الرُّواد أمثال محمود سعيد ويوسف كامل وأخيرًا سيف وانلي وكامل مصطفى (من الجيل الثاني). وعلى ما يبدو أنَّنا في ظلِ هذه الظَّواهِرِ المؤلمةِ نسيرُ عكسَ الاتجاهِ المتوقعِ من القانونِ، والذي ينبغي أن يوازيَ النظامَ الاجتماعيَّ كحارسٍ له ومحصِّنًا إياه، إذ لابد للقانونِ كى يحققَ وظيفتَه أن يكون له أثرٌ فعَّالٌ ومؤثرٌ في تنظيم مجتمعِ سوق الفنِ التَّشكيليِّ؛ فيفعَّلُ على أرضِ الواقعِ الاجتماعيِّ.

إنَّ ما نراهُ من اعتداءاتٍ صارخةٍ؛ أَلَّا ينبغي أن يكون فتيلًا يُشْعِلُ نار الغيرة في قلوبِ المسئولين نحو تُراثِ أمةٍ عظيمةٍ يحددُ هويتها ويبرزُ قيمتها؛ لأن يُتَّخَذ من الوسائل ما يرونهُ مناسبًا وصارمًا وحاكمًا للتَّصدي لمثل هذه الظاهرة التي أصبحت سرطانًا مدمرًا ينتشرُ في جسد أمةِ الفن التَّشكيلي، وضرورة العمل على إيجاد حلولٍ فعَّالةٍ من أجل مكافحتِها والقضاء عليها، لاسيِّما وأنه قد آن الآوان لأجهزة الدولةِ في ظل نص المادة 69 الخاصة بحماية حقوق الملكية الفكرية بالدَّستورِ الجديد لأن تضعَ الاستراتجيات المناسبة سواء على المدى القصير أو المدى البعيد من أجل الحِفاظ على حقوق الملكية الفكرية، وبالأحرى حقوق الفنَّانين التَّشكيليين، بحيث ينبغي ألا تَبقى تلك القضيةُ في معزلٍ عن بؤرةِ اهتمام السَّاحة الإعلاميِّة ؟!

وفي الحقِ يبدو أن الفن التَّشكيلي من بين صنوفِ الفن الأخرى هو الأكثر تضررًا من غيره، ذلك لأنه إذا كان الإعلامُ بوسائلهِ المتعددةِ قد وضع جلَّ اهتمامه إبراز العقبات التي تهدد صناعة السينما أو الموسيقى على سبيل المثال، وبيان تأثيرها المدمر على الاقتصاد، فملأ من خلالها الدنيا صخبًا وضجيجًا، إلا أنه قد تجافى في ذات الوقت عن إبرازِ ظاهرةٍ خطيرةٍ ومدمرة ألا وهى مسألةُ تقليدِ اللَّوحاتِ الفنية والتي لا تقلُ - من وجهة نظرنا - ضررًا وتأثيرًا على الاقتصاد أيضًا، فضلًا عما لها من أثرٍ سلبي حاد على حقوق الملكية الفكرية، والذي تمثَّلَ في التَّغاضي عن حقوق الفنانِ التي يجب أن تُكْفَل له لقاء إبداعه؛ لذا كان من المفترضِ أن تستحوذَ بدورها على المنَابرِ الإعلاميِّة. ومما يزيدُ الطِّين بِلَّة تراخي الدولةُ في اتخاذها من الوسائلِ ما يُمكِّنُها من القضاء على الظاهرة، ولكن يبدو أن الجهل الحالِك الذي سيطرَ على عقول المسئولين وغشى أبصارهم؛ جعل الأمر يستفحلُ ليُشكِّل ظاهرةً استدعت من المهتمين بالأمر أن يبرزوها على السطحِ كى يُتَّخذ أمرًا جللًا بشأنها.

وإذا كان الدكتور يوسف كامل مصطفى كان قد أطلقَ نداءً له في مقالٍ بعنوان: "انقذوا تراثَ الرُّوادِ"، فإننا ينبغي علينا اليوم على الأقلِ أن نوِّجهَ النِّداء الأخيرَ للمسئولينَ لاتخاذِ من الإجراءاتِ ما يحدُ من هذه الظاهرةِ ويمنعُ تكررَاها، ليكون القانونُ هو الحاكمُ لا ظاهرةَ "اللَّا قانون".

وتطبيقًا على ذلك، فالقانونُ في أحايينَ كثيرةٍ لا يملأُ ولا يحتوي الغلافَ البشريَّ بالكُليِّة كما قال الفقيه كاربونييه، فينتؤُ ويتخللُ في بعضِ المجتمعاتِ ما يُعْرَفُ بــ"الفراغِ القانونيِّ" كما رأينا في مجالِ سوقِ الفنِ التَّشكيليِّ لنجدَ أنفسنَا بصددِ ظاهرةٍ حاكمةٍ هى ظاهرةُ "اللَّا قانون" أمامَ ما ينبغي أن يكونَ عليه القانونُ من حيثُ قدرتِه على احتواءِ الواقعِ في بوْتَقتِه لتتلاحمَ الحقيقةُ القانونيةُ مع الحقيقةِ الاجتماعيةِ كإحدى تجلياتِ علمِ الاجتماعِ القانونيِّ.

باحثٌ في مجالِ الملكيِّة الفِكريِّةِ وقانونِ سوقِ الفنِّ

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز