عاجل
الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

ياسر عمر أميـن يكتب : طابعُ البريدِ مِن منظورٍ فريدِ فيِ المِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ

ياسر عمر أميـن يكتب : طابعُ البريدِ مِن منظورٍ فريدِ فيِ المِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ
ياسر عمر أميـن يكتب : طابعُ البريدِ مِن منظورٍ فريدِ فيِ المِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ

رغمَ ما حدثَ من عِراكٍ فنيٍّ بينَ الفنَّانينَ بعضُهم البعضَ، بسببِ ما أُثيرَ بشأنِ طابعِ بريدِ قناةِ السِّويسِ الجديدةِ، الَّذيِ صمَّمَه الفنَّانُ الدكتورُ/ أشرف رضا، وأهداَهُ لهيئةِ البريدِ، ورغمَ انتهاءِ القِصَّةِ بأجملَ ما تكونُ النِّهاياتُ، مُستوحيَّةً القاعدةَ القانونيَّةَ الشهيرةَ "صُلحٌ مُجحِفٌ خيرٌ من دعوىَ رابحةٍ"، إلَّا أنَّه يبقىَ للحدثِ حيويتُه، وحرارتُه، وتلقائيَّاتُه، ليبقىَ جِسرُ العلاقةِ بينَ الفنِّ والقانونِ قويًّا متينًا، ولتبقىَ الأحداثُ دائمًا دُروسًا مُتجددةً نتعلَّمُ منها على الدَّوامِ. ولأنيَّ قد وجدتُ في الموضوعِ ما يستوجبُ أنْ يُعرضَ لتوضيحِ بعضِ الرُّؤىَ الفنيَّةِ من مناظيرَ قانونيَّةٍ، من خلالِ قضيَّةٍ غايةٍ في الأهميَّةِ، آليتُ على نفسيِ ألَّا يمرَّ موضوعُها مرَّ الكِرَامِ، وآثرتُ أنْ أتناوَلَه بموضوعيَّةٍ وتحليلٍ واضحٍ شاملٍ شافيِ، ليكونَ مُعينًا لكلِّ مُرتشفٍ، يبغيِ أنْ يرويِ ظمأَه من الفنِّ والقانونِ كليهِما، ولنحفُرَ معًا جُذوَةَ القضيَّةِ حتَّى نُطفىءَ نيرانَها، ويعُمَّ سلسالُ عذبِها كلَّ عاشقٍ ومُحبٍ للمِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ.



وفي الحقِّ، إنَّ ما تردَّدَ أخيرًا على ألسنةِ بعضِ الفنَّانينَ، فيما يخصُّ أمرَ نقلِ تصميمِ طابعِ البريدِ، قد آثارَ كوامنيِ القانونيَّةِ، وحرَّكَ مخبوءَ ثقافتيِ، ما دفعَ ضميرَ الباحثِ القانونيِّ لأنْ يتحرَّكَ، وأُثبتُ من خلالِ ما قيلَ وما أدَّعاهُ الآخرونَ بعضَ المفاهيمِ الجوهريَّةِ، التيِ ارتأيْتُ أنَّه لا ينبغيِ لفنَّانٍ أنْ يحيدَ عنها، فهى بمثابةِ ثوابتٍ ورواسِخٍ أساسيَّةٍ، يتعيَّنُ أنْ تقومَ عليها الحياةُ الفنيَّةُ، لاسِيَّما وأنَّ الفنَّ مُصنَّفٌ غالٍ، يعتمدُ على الإبداعِ الذِّهنيِّ، وتكادُ تكونُ الوشائجُ التيِ تربِطُ بينَ جُدرانِه دقيقةً للغايةِ، تستوجبُ من كلِّ إنسانٍ أنْ يستوعبَ مفاهيمَها، وما تُوحيِ به، حتَّى نستطيعَ أنْ نقِفَ جميعًا على أرضٍ صُلبةٍ، ننطلقُ منها نحوَ غاياتٍ أرحبِ.

ومن ذلك ما ذهبَ إليه الأُستاذُ الفنَّانُ/ محمد طلعت علي ("قوميسيرُ" الدَّورةِ الـــ 37 للمعرضِ العامِ) عن قناعةٍ شخصيَّةٍ، ذلك حينما أرادَ أنْ يُبرِّرَ بحُججٍ وأسانيدَ حقَّ الفنَّانِ أحمد بيرو في نقلِ تصميمِ طابعِ البريدِ الَّذيِ أبدعَه الفنَّانُ أشرف رضا على لوحةٍ، مُدَّعيًّا أنَّ ما فعلَه الفنَّانُ هو أمرٌ مُباحٌ من وجهةِ النَّظرِ الفنيَّةِ، ولا يُعابُ عليه من النَّاحيةِ المنهجيَّةِ، إِذْ قالَ فيما قالَ: "ده مش حرامي للأسباب التاليه: أولًا ده نوع من التصوير للطابع الذي صممته سيادتك يا دكتور ]الفنان أشرف رضا[، الذي أصبح ملكيه عامه ومتداول، معني أن يتأثر فنان بطابع ويعاد رسمه كلوحه فنيه، تحمل الكثير، أولًا: شهره الطَّابع وتأثيره، ثانيًا: الفنان أعلن أنه رسم الطابع حبًا فيه، ثالثًا: لو فيه متابعه للفنان، الفنان رسم معرض كامل عن العملات وعن الطوابع قبل ذلك، أي أنه هذا أسلوب يتبعه في إعاده صياغه الطوابع والعملات كلوحه معاصره، كمان في تاريخ الحركه الفنيه هناك من رسم الأختام والتذاكر والعملات، فهل مصمم العمله المائه جنيه من حقه أن يقاضي فنان بأنه حرامي أو مقلد، أنا لست معك في هذا، فرفقًا بالفن وبالفنانين المفروض تفرح وتشكره".

ولأشدُّ ما زَلْزلنيِ أنَّنيِ حينما تصفَّحتُ هذه الحُججَ، وتأمَّلتُ أسانيدَها، سرعانَ ما صدمتنيِ خيبةُ الأملِ، إِذْ أنَّ جلَّ ما آلمنيِ، منهجيتُه في العرضِ، واتِّباعِه لطريقةِ التَّفنيدِ، كوسيلةٍ تعكسُ مدى قناعتِه بشرعيَّةِ ما تمَّ، فخُيِّلَ إلىَّ حينئذٍ أنَّنيِ سأكونُ أمامَ أُسُسٍ مُعضَّضةٍ، نستطيعُ بها أنْ ندحضَ ما نواجِهُه من افتراءاتٍ، ولكنْ للأسفِ، ما إنْ تفحَّصتُها، وتأمَّلتُها، وجدتُها جميعَها، وإنْ كانتْ تتَّفِقُ مع الفنَّانِ كفنَّانٍ، إلَّا أنَّها تصطدمُ مع رُؤىَ القانونِ الواضحةِ، وسُرعانَ ما يحدُثُ التَّنافُرُ بينَ قطبيهِما، ذلك لأنَّ منهجَ الفنَّانِ وادِّعاءاتِه، كانتْ تسيرُ في اتجاهٍ، وكانَ القانونُ يسيرُ في اتجاهٍ آخرَ مُعاكسٍ، ولأنَّ الفنَّ لا ينبغيِ أنْ يحيَا بمعزلٍ عن القانونِ، لذا فقد ارتأيْتُ أنْ أُبسِطَ على أرضِ الواقعِ جِسرَ العلاقةِ بينَ الفنِّ والقانونِ، وأنْ استوضِحَ بمنهجيَّةٍ فقهيَّةٍ قانونيَّةٍ ما ينبغيِ أنْ يُتَّبعَ في مثلِ هذه الحالاتِ، كى نسهمَ بها في استضاءةِ الجانبِ الَّذيِ خفىَ جلُّه على بعضِ الفنَّانينَ، مُحاوِلًا من خلالِها وضعَ أُسُسِ الرَّواسخِ والثَّوابتِ التيِ ينبغيِ أنْ ننطلِقَ منها لحمايةِ أعمالِنا الفنيَّةِ. وإنيِّ لأرىَ أنَّ هذا الأمرَ ليسَ عيبًا في الفنَّانِ، إنَّما هو قُصورٌ في نشرِ ثقافةِ الـمِلكيَّةِ الفِكرِيَّة وتجلِّيَاتِها في مجالِ الفُنونِ التَّشكيليَّةِ، والتيِ آليتُ على نفسيِ أنَّه كُلَّما ظهرتْ بوادرُ قضيَّةٍ، أردتُ أنْ استغلَّها، لِأعرضَ من خلالِها الأُسُسَ التيِ ينبغيِ أنْ يتَّبعَها كلُّ فنَّانٍ تفاديًّا للوقُوعِ في الخطأِ.

 

طابعُ البريدِ عملٌ ذهنيٌّ فريدٌ

إنَّنا لا يُمكنُنا أنْ نُنكرَ أنَّ ما دعاَ به الدُّعاةُ من إباحةِ النَّسخِ لطابعِ البريدِ لا شكَّ أنَّه أمرٌ جدٌّ خطيرٌ، إِذْ أنَّنا بتفحُّصِ هذه الحيثياتِ التيِ دعُوا بها، نجدُ أنَّها ما هى إلَّا افتراءاتٌ واهِيَّةٌ، وادِّعاءاتٌ خاوِيَّةٌ، لو تمَّ التعويلُ عليها لترتَّبَ على ذلك تشكيكًا في التكييفِ القانونيِّ لتصميمِ طابعِ البريدِ، كونُه عملًا ذِهنيًّا في ضوءِ قانونِ حقِّ الـمُؤلِّفِ، على الرَّغمِ من أنَّهم لمْ يُكلِّفُوا أنفسَهم عناءَ سَبرِ أغوارِ مراحلَ عمليَّةِ إبداعِ تصميمِ الطَّابعِ ومواطنِ الأصالةِ التيِ تكمُنُ في مرحلتيِّ تكوينِ وتعبيرِ هذا الـمُصنَّفِ، لذا لمْ يكُنْ مِنَّا إلَّا أنْ نُبرزَ عينَ اليَّقينِ، كى نستطيعَ أنْ نُوجِّهَ سهامَها تجاهَ تلك الافتراءاتِ، فتدحضُها في مهدِها، لتُؤكِّدَ حقيقةً راسخةً ثابتةً، هى أنَّ تصميمَ طابعِ البريدِ كغيرِه من الـمُصنَّفاتِ الفنيَّةِ، تنسحبُ عليه الحمايةُ القانونيَّةُ متى توافرَ فيه شرطا الحمايةِ، فهو واللوحةُ الفنيَّةُ سواءً بسواءٍ، كلاهُما يخضعُ لحمايةِ الـمِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ.

وهذا ما كرَّسَه تقنينُ الـمِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ المصريِّ، حينَ فوَّحَ عبيرَهُ على نسماتِ النِّتاجِ الذِّهنيِّ الطَّيِّبِ بُمختلفِ أنواعِه، فأحاطَه بما يُشبِهُ مظلةَ الحمايةِ، التيِ تنسحبُ على "كلِّ عملٍ مُبتكرٍ ﺃدبيٍّ ﺃو فنيٍّ ﺃو علميٍّ ﺃيًّا كانَ نوﻋُﻪ ﺃو طريقةُ التعبيرِ ﻋﻨﻪ ﺃو أهميتُه أو الغرضُ من ﺗﺼﻨﻴﻔِﻪ". ومن ثمَّ، فالقانونُ لا يُفرِّقُ بينَ مُصنَّفٍ ومُصنَّفٍ، فالجميعُ أمامَه صفٌ واحدٌ كأسنانِ الـمُشطِ، لا فرقَ فيه بينَ تصميمٍ لطابعِ بريدٍ، وبينَ لوحةٍ فنيَّةٍ عملاقةٍ، وبينَ مُصنَّفٍ مُفيدٍ، وآخرُ غيرُ مُفيدٍ، متى توافرَ في الجميعِ شرطا الشكلِ والأصالةِ، إِذْ القاعدةُ القانونيَّةُ الشهيرةُ قد رسَّختْ مبدأً لا ينبغيِ أنْ نحيدَ عنه: "عندَ الإطلاقِ لا محلَّ للتَّخصيصِ"، وتطبيقًا على هذه القاعدةِ، فقد أكَّدتْ محكمةُ النقضِ المصريَّةِ في حُكمٍ لها بتاريخِ 19 مارس 2014 أنَّه: "من الـمُقرَّرِ - في قضاءِ محكمةِ النقضِ - أنَّه لا يجوزُ تقييدُ مُطلقِ النَّصِ بغيرِ مُخصِّصٍ؛ بحيثُ إذا كانَ صريحًا، جَلِىَ المعنىَ، قاطعًا في الدِّلالةِ على الـمُرادِ منه، فلا محلَّ للخُروجِ عليه، أو تأويلِه، بدعوىَ تفسيرِه، استهداءً بالحِكمةِ التيِ أمْلَتهُ، وقَصْدُ الشَّارعِ منه، لأنَّ ذلك لا يكونُ إلَّا عندَ غموضِ النَّصِ، أو وجودِ لبسٍ فيه".

فطالـمَا أنَّ تصميمَ طابعِ البريدِ أمكنَ تكييفُه على كونِه مُصنَّفًا فنيًّا، فالفنَّانونَ الـمُبدعونَ لتصميمِ الطَّابعِ، وكذا الرسَّامُونَ وغيرُهم، يملِكونَ إذًا حقَّ مُؤلِّفٍ على التَّصميمِ المنسُوخِ على طابعِ البريدِ، أو على التَّصميمِ الَّذيِ أُبدِعَ خصِّيصًا لإصدارِ طابعٍ من طوابعِ البريدِ في مُناسبةٍ ما، مع مراعاةِ طبيعةِ العلاقةِ التيِ تربِطُ بينَ الـمُؤلِّفِ، وبينَ الهيئةِ على نحوِ ما سيأتيِ. وليسَ أدلُّ على ذلك من حُكمٍ لمحكمةِ باريس الإداريةِ صدرَ بتاريخِ 20 فبراير 1962، وفيه أكَّدتْ أنَّ مُجرَّدَ نَسْخِ صُورةٍ فُوتوغرافيَّةٍ لطائرةٍ مُحلَّقةٍ على طابعٍ من طوابعِ هيئةِ البريدِ، يُعَدُّ اعتداءًا على حُقوقِ مُؤلِّفِ هذه الصُّورةِ، إِذْ أنَّ الصُّورةَ الفُوتوغرافيَّةَ تُعتبرُّ عملًا ذِهنيًّا محميًّا بحقِّ الـمُؤلِّفِ. فكما أنَّ لـمُبدعِ الصُّورةِ الفُوتوغرافيَّةِ حقًّا على مُصنَّفِه بأنْ لا تُنْسخَ إلَّا بتصريحٍ منه، فكذا لـمُبدعِ اللوحةِ الفنيَّةِ والـمُصمِّمِ كليهِما له حقُّ الـمُؤلِّفِ على مُصنَّفِه الذِّهنيِّ.

أما عن الرَّغبةِ في تأصيلِ وتوثيقِ مجموعةٍ من طوابعِ البريدِ من خلالِ أرشفتِها، فليسَ هناك ما يمنعُ من أنْ تُصنَّفَ بطريقةٍ مُحدَّدةٍ، وليكُنْ في شكلِ كتالوجٍ متى حصلَ مُؤلِّفُه على تصريحٍ من صاحبِ الشأنِ، إذا لمْ يسقُطْ الـمُصنَّفُ حينئذٍ في الملكِ العامِ، وعلى أنْ يكونَ ذلك في إطارِ احترامِ الحقِّ الأدبيِّ لـمُبدعِ التَّصميمِ، وهذا ما تُؤكِّدَ من خلالِ حُكمٍ لمحكمةِ النقضِ الفرنسيَّةِ بتاريخِ 7 مارس 2006 لصالحِ دارِ نشرِ إيفار وتوليهِ، تلك التيِ أعدَّتْ كتالوجًا يضمُّ عددًا من طوابعِ البريدِ الـمُصنَّفةِ وفقًا لمنهجٍ مُحدَّدٍ كوسيلةٍ للتَّأريخِ، وقد تمَّ فيه إدانةُ شركةِ داليهِ، تلك التيِ طرحتْ للتَّداولِ كتالوجًا آخرَ على نفسِ المنوالِ في وقتٍ لاحقٍ، فقضتْ المحكمةُ العليا بحمايةِ الكتالوجِ الَّذيِ يقومُ على تصنيفِ الطوابعِ، لاسِيَّما بعدَ أنْ استخلصتْ توافرَ شرطِ الأصالةِ فيه، وذلك من خلالِ اختيارِ وتحديدِ وتصنيفِ الطوابعِ، باستخدامِ أرقامٍ أو حُروفٍ أبجديَّةٍ، ممزوجةٍ بالقيمةِ النَّقديَّةِ، التيِ تُمكِّنُ من تمييزِ الطوابعِ تبعًا لألوانِها، وطباعتِها أو إعادةِ طباعتِها. فالكتالوجُ في هذه الحالةِ أشبهُ بقاعدةِ البياناتِ، تلك التيِ تتمتَّعُ بحمايةِ حقِّ الـمُؤلِّفِ.

 

طبيعةُ العلاقةِ التَّعاقُديَّةِ وما يترتَّبُ عليها

وفي الحقِّ، إنَّ مُبرِّراتَ الفنَّانِ أحمد بيرو التيِ اتَّكأَ عليها كمُقدمةٍ لاعتذارٍ واجبٍ للفنَّانِ أشرف رضا، هى كُليْماتٌ لها من الودِّ والتقديرِ ما لها، لأنَّها دونَ أدنىَ شكٍّ تنمُّ وتعكسُ سُلوكًا طيَّبًا وأصلًا عريقًا، غيرَ أنَّ هذا الاعتذارَ قد جاءَ على طريقةِ "ليُكحِّلَ عيونَها فأغشَاهَا"، ليُوقِعَ الفنَّانَ في إشكاليَّةٍ قانونيَّةٍ، إِذْ صرَّحَ بقولِه: أنيَّ قد أُبلغتُ بأنَّ الطَّابعَ محلُّ الجدلِ من تصميمِ مجموعةٍ من الفنَّانينَ، ولصالحِ هيئةِ البريدِ المصريِّ، وليسَ من تصميمِ فنَّانٍ بعينِه.

وإنيَّ لأتساءلُ هل تصميمُ مجموعةٍ من الفنَّانينَ لطابعِ بريدٍ لصالحِ هيئتِه يُعَدُّ تصميمًا لقيطًا لـمُجرَّدِ أنَّ الَّذيِ صمَّمهُ مجموعةٌ، وليسَ فنَّانٌ بعينِه ؟! أمْ أنَّ ما ادَّعاهُ يُعَدُّ مندوحةً للنَّقلِ بلا أدنىَ إذنٍ ؟! وهل يُستخلصُ من ذلك أنَّ التَّصميمَ على حالتِه هذه ليسَ له أبٌ يُنسبُ إليه وبالتَّبعيَّةِ تُعْدَمُ له حُقوقُه ؟! وإنيَّ أودُ أنْ أُجيبَ عن تساؤليِ، بأنَّ ما صرَّحَ به الفنَّانُ أحمد بيرو يتناقضُ تمامًا والقاعدةُ الأُصوليَّةُ الشهيرةُ: "يجبُ ألَّا نُفرِّقَ متى كانَ القانونُ لا يُفرِّقُ" « Ubi lex non distinguit, nec nos distinguere debemus ». ومن ثمَّ، إذا كانَ القانونُ لمْ يُفرِّقْ في الحُقوقِ الـمُكتسبةِ بينَ تصميمٍ لفردٍ وبينَ تصميمٍ لمجموعةٍ، فمن بابِ أولىَ ينبغيِ ألَّا نُفرِّقَ نحنُ خُضوعًا وإجلالًا للقانونِ – مع مراعاةِ الأحكامِ الخاصةِ فيما يتعلَّقُ بتعدُّدِ الـمُؤلِّفينَ في تكييفِ طبيعةِ الـمُصنَّفِ محلِّ النِّزاعِ - ثمَّ إنَّ تصميمَ مجموعةٍ من الفنَّانينَ لعملٍ ما، لا يعنيِ بالضَّرورةِ إهدارَ دمِّ العملِ، وتوزيعِ دمِّهِ بينَ القبائلِ، فالمجموعةُ كالفنَّانِ الواحدِ، حتَّى وإنْ اختلفتْ طبيعةُ العلاقةِ، ويبقىَ الحقُّ لكليهِما محفوظًا بحُكمِ القانونِ.

فلكلٍّ أوجبَ القانونُ حقَّه وحُكمَه، وسواءَ كانَ تصميمُ طابعِ البريدِ من قِبلِ شخصٍ، أو من قِبلِ عدةِ أشخاصٍ، يخضعونَ لهيئةِ البريدِ أو لغيرِها، وأيًّا كانتْ الصِّفةُ التيِ تربطهمْ. وعليه، فإنَّ الحُصولَ على تصريحٍ أمرٌ واجبٌ في كلاَ الحالتينِ. وفي الحقِّ، إنيَّ لتكْسُوَ الدَّهشةُ جميعِ جَوارحيِ من إثارةِ هذه النُقطةِ العجيبةِ والغريبةِ في ذاتِ الوقتِ، إِذْ أنَّه وبحُسنِ نيَّةٍ منه قد فَتَحَ على نفسِه طاقاتٍ كانَ الفنَّانُ في غنىٍ عنها، لو أنَّه تريَّثَ وتمهَّلَ واستدركَ طبيعةَ العلاقةِ التيِ تربِطُ بينَ الـمُؤلِّفِ والهيئةِ.

فإذا كانتْ طبيعةُ العلاقةِ التَّعاقُديَّةِ بينَ فنَّانٍ أو مجموعةٍ من الفنَّانينَ، وبينَ هيئةِ البريدِ أو غيرِها، قد تُؤثِّرُ في ثُبوتِ صِفَةِ الـمُؤلِّفِ تبعًا لطبيعةِ الـمُصنَّفِ، إلَّا أنَّها لا تُؤثِّرُ بأىِّ حالٍ من الأحوالِ على الحقِّ الأدبيِّ للفنَّانِ الَّذيِ يتعلَّقُ بالنِّظامِ العامِ. فلو افترضنَا جدلًا أنَّ الفنَّانَ أشرف رضا قد تنازَلَ عن حُقوقِه الماليَّةِ على ذلك التَّصميمِ لصالحِ هيئةِ البريدِ أو لغيرِها، فينبغيِ أنْ نعرِفَ أنَّ التنازُلَ الحادثَ يقتصرُ فقط على الحُقوقِ الماليَّةِ، وتبقىَ الحُقوقُ الأدبيَّةُ شاهدًا عَيَانًا على حياةِ الـمُصنَّفِ الذِّهنيِّ كما سيأتيِ الحديثُ عنها بالتَّفصيلِ. وفي نهايةِ مطافِ تلك الرحلةِ، ينبغيِ أنْ نُؤكِّدَ على أنَّ الفنَّانَ الَّذيِ يُبدِعُ مُصنَّفًا في إطارِ عقدٍ، أيًّا كانَ هذا العقدُ، يظلُّ الفنَّانُ مُحتفظًا في كلِّ الفروضِ بحقِّه الأدبيِّ. وعليه، فللفنَّانِ حقُّ التَّصديِ لأىِّ اعتداءٍ يقعُ على مُصنَّفِه، إِذْ أنَّ مُجرَّدَ إبرامِ اتفاقٍ من قِبلِ مُؤلِّفٍ لعملٍ ذِهنيٍّ ما مع جهةٍ أخرى، لا ينتقِصُ ولا يُقيَّد بأىِّ حالٍ من الأحوالِ، ولا يغِلُّ يدَه عن حقِّه في مُمارسةِ حُقوقِه الـمُعترفِ بها قانونًا، إلَّا إذا نصَّ العقدُ على خلافِ ذلك.

 

الحقُّ الأدبيُّ لمُبدعِ تصميمِ طابعِ البريدِ

إنَّ الـمُتأمِّلَ لـِمَا أباحَه الأُستاذُ الفنَّانُ/ محمد طلعت، وغيرُه من الفنَّانينَ للفنَّانِ أحمد بيرو، يُعَدُّ ضربًا بالحُقوقِ الأدبيَّةِ للفنَّانِ عرضَ الحائطِ، تلك الحُقوقُ التي نُصَّ عليها صراحةً في تقنينِ الـمِلكِيَّةِ الفِكرِيَّةِ المصريِّ. وفي الحقِّ، لقد غلبتنيِ الحيلةُ من كثرةِ ما كتبتُ عن الحقِّ الأدبيِّ، وبيَّنتُ جلَّ وجوهِه للناسِ، ما يُحرَّمُ فيه، وما يُحلُّ، وذلك من خلالِ مقالاتٍ ثلاثةٍ نُشِرَتْ ببوابةِ روز اليوسف بعنوانِ: "جداريَّةٌ تهزُّ عرشَ الـمِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ في عصرِ التَّنويرِ"، و"سلماويِ والإهداءُ واحترامُ إرادةِ حقِّ النَّحاتِ"، و"آفاقٌ مُستقبليَّةٌ لإدارةِ الـمُستنسخاتِ الفنيَّةِ عبرَ عوالِمِ الـمِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ"، ومع ذلك أشعرُ وكأننيِ أُذِّنُ في ملْطةٍ، أو أزرعُ في صحراءٍ جرداءٍ، لا زرعَ فيها ولا ماءَ.

ولا أُخفيِ عليكمْ أنَّ الأمرَ بالنسبةِ ليَّ قد بَلَغَ مداهُ من كثرةِ ما يدَّعيهِ البعضُ من أنَّ التصرُّفَ في الطَّابعِ أو في غيرِه من الـمُصنَّفاتِ الفنيَّةِ للدَّولةِ، يُعَدُّ مِلكيَّةً عامةً. وفي الحقِّ، إنَّ تحليليَّ لتلك الحادثةِ كفيلٌ بأنْ يجلِبَ على ذاكرتيِ قولَ عنترةِ بن شدادِ في حديثِه مع الملكِ النُّعمانِ حينما غارَ على نياقِه، فقالَ: "أنا لستُ لِصًّا، ولكنيِ مُغيرًا"، وبالقياسِ على ما فعلَه الفنَّانُ أحمد بيرو أشعرُ وكأنَّ الـمِلكيَّةَ الفِكرِيَّةَ ترُدُّ عليه بما كانَ ينبغيِ أنْ يقولَه: "أنا لستُ لِصًّا، ولكنيِ مُعتديًّا". وفي حقيقةِ الأمرِ، إنَّ هذا المفهومَ بهذه الدِّلالةِ يُجانبُه الصوابُ في صميمِه، إِذْ أنَّ الـمِلكيَّةَ العامةَ لا تعنيِ بأىِّ حالٍ من الأحوالِ، وفي أىِّ قانونٍ من القوانينَ، التنازُلَ عن الحقِّ الأدبيِّ الَّذيِ سيظلُّ لصيقًا لذاتِ الفنَّانِ، كالقلبِ من الجسدِ، والجلدِ من العِظامِ، لا ينبغيِ ولا يجوزُ بكلِّ لُغاتِ العالمِ أنْ يُتنازَلَ عنه. وهذا ليسَ ابتكارًا، فقد سبقَ أنْ أكَّدتْ محكمةُ النقضِ المصريَّةِ في حُكمٍ مشهودٍ لها بتاريخِ 10 يوليو 2006: "(...) فقد نصَّ الـمُشرِّعُ على أنَّ هذه الحُقوقَ ]الأدبيَّةَ[ دائمةٌ، غيرُ قابلةٍ للتَّقادُمِ، ولا تسقطُ بالنُّزُولِ عنها، أو عدمِ استعمالِها مهما طالَ الزَّمنُ، وتخرُجُ عن دائرةِ التَّعامُلِ باعتبارِ أنَّ الـمُصنَّفَ هو ثِمارُ تفكيرِ الإنسانِ، ومظهرٌ من مظاهِرِ شخصيتِه ذاتِها، يُعبِّرُ عنها، ويُفصِحُ عن كوامنِها، ويَكشفُ عن فضائِلها أو نقائِصها، هذه الصِّلةُ الوثيقةُ الدائمةُ بينَ الـمُصنَّفِ ومُؤلِّفِه بوصفِه امتدادًا لشخصيتِه، تجعلُ الحُقوقَ الأدبيَّةَ سالفةَ البيانِ من الحُقوقِ اللصيقةِ بشخصِ الإنسانِ، وهى غيرُ قابلةٍ للتَّصرُّفِ بطبيعتِها، وكلُّ تصرُّفٍ بشأنِها يكونُ باطلًا بُطلانًا مُطلقًا مُتعلِّقًا بالنِّظامِ العامِ تحكُمُها القوانينُ القائمةُ بما لها من أثرٍ مُباشرٍ". ومن هنا، لم يكنْ ليَّ من بُدٍ إلَّا أنْ أَهِيبَ بكلِّ الـمُتحدثينَ عن حُقوقِ الفنَّانِ رأفةً بصحَّتيِ التيِ كادتْ تذوبُ ذوبانَ الملحِ في الماءِ، أنْ يتحلُّوا بالصبرِ، ولا يتسرَّعُوا في إصدارِ الأحكامِ، ولا يتذرَّعُوا بالحقِّ الأدبيِّ، لأنَّه ليسَ حقًّا ماديًّا، بل هو حقٌّ معنويٌّ له طبيعتُه الخاصةُ التيِ يتفرَّدُ بها عن غيرِه من الحُقوقِ.

وأودُ أنْ أُؤكِّدَ في سياقِ هذه الحادثةِ أنَّ ذلك الأساسَ الَّذيِ اُنطُلِقَ منه - وهو كونُ الطَّابعِ قد أصبحَ مِلكيَّةً عامةً ومُتداولًا - هو في الحقِّ أساسٌ هُلاميٌّ يُجافيِ القانونَ، ويُخاصمُ الحقيقةَ مع كلِّ الأسفِ، بل يُخالِفُ أبسطَ المبادئِ التيِ كرَّسهَا الـمُشرِّعُ والقضاءُ في مجالِ حقِّ الـمُؤلِّفِ على الـمُستويينِ الدُّوليِّ والوطنيِّ، تلك المبادئُ التيِ اعتنقَها تقنينُ الـمِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ المصريِّ بكلِّ صراحةً، ألَّا وهى - على وجهِ الخصوصِ - ضرورةُ التفرقةِ بينَ: حُقوقُ مالِكِ الدُّعامةِ الماديَّةِ، وبينَ حُقوقِ الـمُؤلِّفِ، إِذْ لابُدَّ من التَّوفيقِ بينَ كلاَ الحقَّينِ، لاسِيَّما وأنَّه من الثَّابتِ الـمُتأصِّلِ جُذورُه في مجالِ حقِّ الـمُؤلِّفِ، أنَّه لا يترتَّبُ على تصرُّفِ الـمُؤلِّفِ الفنَّانِ في العملِ الفنيِّ الأصليِّ - أيًّا كانَ نوعُ هذا التصرُّفِ - نقلُ حُقوقِه الأدبيَّةِ أو الماليَّةِ، وبالأحرىَ الحقُّ في نَسْخِ العملِ الفنيِّ ما لمْ يَتنازَلْ الفنَّانُ عن حقِّه الماليِّ محلَّ التصرُّفِ صراحةً. وعلى هذا، فإنَّ امتلاكَ أىُّ شخصٍ سواءَ كانَ طبيعيًّا أو اعتباريًّا لطابعِ البريدِ في حدِّ ذاتِه، لا يعنيِ أنَّه قد اكتسبَ الحقَّ في نَسْخِه أو استغلالِه بأيَّةِ طريقةٍ من الطٌّرقِ، ذلك لأنَّ الفنَّانَ الـمُؤلِّفَ بُمقتضىَ الحُقوقِ الأدبيَّةِ والماليَّةِ يظلُّ مُحتفظًا بكافةِ الحُقوقِ، حتَّى لو لمْ يكُنْ مالِكًا للدُّعامةِ.

أشعرُ وأنَّ الكلامَ قد جفَّ من حلْقيِ، لذا آثرتُ أنْ الجأَ إلى الوقائعِ الحيَّةِ التيِ دارتْ رَحاهَا عبرَ ربوعِ العالمِ، ومن ذلك تلك القضيَّةِ التيِ تتلخَّصُ وقائعُها في أنَّ الفنَّانَ العالميَّ ماتيسMatisse  (1869-1954) كانَ قد أبدعَ بُورتريهًا نالَ الإعجابَ من قِبلِ هيئةِ البريدِ الفرنسيَّةِ، فأقدمتْ دونَ تصريحٍ من ورثةِ الفنَّانِ على نَسْخِ البُورتريهِ على طابعٍ من طوابعِ البريدِ، وذلك في عامِ 1991، ثمَّ طرحتَه للتَّداولِ، فما إنْ اكتشفَ ورثةُ الفنَّانِ ذلك، حتَّى لجأوا إلى القضاءِ، مُطالبينَ بالتَّعويضِ عن الضررِ الَّذيِ لَحَقَ بالفنَّانِ، نتيجةَ الاعتداءِ على الحقِّ الأدبيِّ لـمُورِّثِهم. هذه واقعةٌ.

وفي واقعةٍ أخرى تُعْرَفُ بقضيَّةِ "دانجريمون"، فقد عُرِضَتْ على مجلسِ الدَّولةِ الفرنسيِّ إشكاليَّةٌ حولَ معرفةِ عمَّا إذا كانَ نَسْخُ صُورةٍ فُوتوغرافيَّةٍ لطائرةٍ على طابعٍ من طوابعِ هيئةِ البريدِ، يُعَدُّ اعتداءًا أم لا، فحكمتْ محكمةُ أولِ درجةٍ (محكمةُ باريس الإداريَّةِ) بأنَّ الصُّورةَ الفُوتوغرافيَّةَ تُعَدُّ عملًا ذهنيًّا محميًّا بحقِّ الـمُؤلِّفِ، ومن ثمَّ، فإنَّ مُجرَّدَ النَّسْخِ يُعَدُّ اعتداءًا على حُقوقِ مُؤلِّفِ هذه الصُّورةِ.

وبتفحُّصِ هاتينِ الواقعتيْنِ السَّابقتيْنِ، نجدُ فيهِما مقدارًا من التَّطابُقِ بينَ إشكاليَّةِ الفنَّانِ أشرف رضا، وبينَ ما دارَ في أروقةِ القضاءِ الفرنسيِّ، لذا فإنَّ حُكمَنا بأنَّ ما حدثَ يُعَدُّ اعتداءًا على عملٍ ذهنيٍّ لمْ يكُنْ ضربًا من الخيالِ، إنَّما هو واقعٌ حيٌّ دارتْ أحداثُه في أروقةِ المحاكمِ، وتُبودِلاتْ فيه الأحكامُ الـمُؤيِّدةُ لما ذهبنَا إليه. ومن العجبِ، أنك تجدُ أنَّ الانطباعَ المصريَّ عن هذه الواقعةِ هو الإباحةُ، في حينِ أنَّ العالمَ من حولِنا يمنعُ، ومن هنا، لابُدَّ أنْ يَعِنَّ السُّؤالُ: هل الحُقوقُ الأدبيَّةُ الـمُخوَّلةُ للمُؤلِّفِ الفنَّانِ في فرنسا وغيرِها من دولِ العالمِ غيرُ الحُقوقِ الأدبيَّةِ الـمُخوَّلةِ له في مصرَ ؟ أم أنَّ تصميمَ طابعِ البريدِ يُعَدُّ مُصنَّفًا ذهنيًّا في العالمِ، ثمَّ يُصبحُ في مصرَ غيرَ ذلك، على الرَّغمِ من أنَّ معيارَ الحمايةِ مُوحَّدٌ ؟ أم أنَّها الغَشاوةُ التي قد أعمتْ أعيُنُنا عن الحقيقةِ ؟!

 

التكبيرُ والتلوينُ في إطارِ الحقِّ الأدبيِّ

ثمَّ لا يسعُنيِ تعليقًا على مَنْ أباحَ وأجازَ، إلَّا أنْ أقتطِفَ من وحيِّ بُستانِ الـمِلكِيَّةِ الفِكرِيَّةِ ثمرةً حُلوةَ المذاقِ، أردتُ أنْ أُهديهَا لـمَنْ يُبيحُ الاعتداءَ على حُقوقِ الغيرِ. هل تعلمُ أنَّ القضاءَ الـمُقارَنَ قد جعلَ مُجرَّدَ إضفاءِ لمعةٍ على لوحةٍ فنيَّةٍ يُعَدُّ من قبيلِ الاعتداءِ على حُقوقِ الفنَّانِ، لما قد يكونُ لهذه اللَّمعةِ من أثرٍ سلبيٍّ على اللوحةِ ! وذلك استنادًا إلى الحقِّ الأدبيِّ في احترامِ الـمُصنَّفِ، فما بَالُنا بمَنْ نَقَلَ، وكَبَّرَ ولَوَّنَ ؟!

وإذا كانَ "التكبيرُ" أمرًا جائزًا ومُباحًا في كثيرٍ من الأُمورِ والمجالاتِ كونُه مِلكيَّةً خاصةً، إلَّا أنَّه في عالمِ حقِّ الـمُؤلِّفِ له وضعيةٌ مُخالِفةٌ، إِذْ أنَّه يصطدمُ مع صخرةِ الحقِّ الأدبيِّ الـمُحصِّنةِ لعملِ الـمُؤلِّفِ الفنَّانِ. لذا فإنَّ إقدامَ الفنَّانِ أحمد بيرو على تكبيرِ تصميمِ طابعِ البريدِ في شكلِ لوحةٍ فنيَّةٍ مُستقلةٍ بدافعِ إبرازِ التَّفاصيلِ الصغيرةِ الموجودةِ بطابعِ البريدِ للجمهورِ، يُعَدُّ اعتداءًا صريحًا على الحقِّ الأدبيِّ للفنَّانِ. ولو كانَ دافعُ الفنَّانِ في هذا شرعيًّا، لكانَ ذلك مُبرِّرًا لجميعِ الفنَّانينَ لنقلِ ما يحلُو لهم من لوحاتِ أىِّ فنَّانٍ بحجمٍ أكبرِ دونَ أىِّ تصريحٍ، بحُجةِ أنَّ ما رُسِمَ كانَ صغيرًا، وأنَّه يُريدُ أنْ يُبرزَ ما في العملِ من جمالٍ، بالطبعِ شىءٌ عجيبٌ ومُضحِكٌ، لأنَّه عُذرٌ أقبحُ من ذنبٍ.

وفي واقعةٍ لا يُنكرُها إلَّا مُكابِرٌ، فقد طلبتْ شركةُ كولمان من الفنَّانِ جارس جونز أنْ يُبدعَ لها رسمًا بغرضِ استخدامِه كدِعايَّةٍ تِجاريَّةٍ، وذلك مُقابلَ قدرٍ من المالِ، وبُمقتضىَ ذلك فقد أصبحَ ذلك الرَّسمُ مِلكيَّةً خالِصةً للشَّركةِ. ولكنْ ما إنْ مرَّ وقتٌ على هذا الإبداعِ، حتَّى أسرعتْ الشَّركةُ في التَّعاقُدِ مع أخرىَ، وسرعانَ ما أعادتْ هذه الشَّركةُ استخدامَ الرَّسمِ السَّابقِ في دَشنِ حملةٍ للمُنتجِ الجديدِ (مُستحضَرٌ طِبِّيٌّ) محلِّ التَّعاقُدِ، فشرعتْ في تكبيرِ الرَّسمِ وتلوينِه وتقديمِه للجمهورِ من خلالِ منشُورٍ، على أنَّه من توقيعِ الفنَّانِ جارس، الأمرُ الَّذيِ جعلَ الفنَّانَ يلجأُ إلى القضاءِ، مُتضرِّرًا من تعديلِ الرَّسمِ جرَّاءَ تحويلِه إلى مُلصقٍ (أَفِيْشٍ) مُلوَّنٍ كبيرٍ، والَّذيِ أدَّى بدورِه إلى تحريفِ طابعِ تكوينِ الرَّسمِ. ومن ثمَّ، فقد طالبَ بإدانةِ الشَّركةِ، فتمَّ انتدابُ خبيريْنِ مُتخصِّصيْنِ، أكَّدَا بدورِهما على أنَّ التكبيرَ قد نُفِّذَ بطريقةٍ غيرِ جماليَّةٍ، ويُمكنُ أنْ يُؤديِ إلى الاعتداءِ على سُمعةِ الرَّسَّامِ. لذا حينما تصدَّتْ محكمةُ العدلِ العُليا ببريطانيَا لهذه القضيَّةِ بتاريخِ 3 نوفمبر 1910، أدانتْ الشَّركةُ، واعتبرتْ الأمرُ برُمَّتِه لا يخرجُ عن كونِه اعتداءًا.

ومن ثمَّ، فإنَّ من يدَّعيِ أنَّ التكبيرَ يخرُجُ عن حدِّ الاعتداءِ، لا شكَّ هو آثِمٌ قولًا وفعلًا، لأنَّ القانونَ قد حسمَها، والقضاءُ عملَ على ترسيخِها.

 

الهِبَةُ والمِلكيَّةُ المعنويَّةُ للفنَّانِ

بادئٍ ذيِ بدءِ، أرىَ وأنَّه قد يحلُو ليَّ الكلامُ عن "الهِبَةِ"، بعدمَا تداولَ بعضُ الفنَّانينَ هذا الـمُصطلحَ أثناءَ مُناقشةِ إشكاليَّةِ تصميمِ طابعِ البريدِ، وكيفَ أنَّهمْ قد اتَّفقُوا على أنَّ تصرُّفَ الفنَّانِ سواءَ بالإهداءِ أو بالهِبَةِ، فقد أصبحَ العملُ بُمقتضىَ ما سبقَ "مِلكيَّةً عامةً" يجوزُ لأىِّ شخصٍ أنْ يستغلَه كيفمَا شاءَ. وفي الحقِّ، إنَّ هذا الأمرَ يُجافيِ ويُخاصِمُ ويُخالِفُ الحقيقةَ الواضحةَ الـمُجرَّدةَ، والتيِ بحَّ صوتُنا في الـمُناداةِ بها، وأُكرِّرُها الآنَ، أنَّ التصرُّفَ في الـمِلكيَّةِ الماديَّةِ لا يعنيِ أبدًا وبأىِّ حالٍ من الأحوالِ، التصرُّفَ في الـمِلكيَّةِ المعنويَّةِ، وكما قلتُ سالِفًا وسأقولُ أيضًا، أنَّ الـمِلكيَّةَ المعنويَّةَ لصيقةٌ بذاتِ الـمُبدعِ ولا تُفارِقُه، إلى حدِّ أنَّ الـمُؤلِّفَ الفنَّانَ لو أرادَ بخالصِ إرادتِه أنْ يتنازَلَ عن الحقِّ الأدبيِّ بطُلَ التصرُّفُ بُطلانًا مُطلقًا.

وهذا المبدأُ ينطبقُ فيما ينطبقُ على الهِبَةِ أو الإهداءِ أو ما ماثلهُمَا من تصرُّفاتٍ مُشابهةٍ تتمُّ بدونَ عِوضٍ. لذا فإنَّنيِ أَهِيبُ بإخوانيِ من الفنَّانينَ أنْ يعلمُوا أنَّ للفنِّ وجهيْنِ: وجهُ الفنَّانِ، ووجهُ القانونِ، قبلَ أنْ يستفحِلَ الأمرُ، ويتحوَّلَ دونَ قصدٍ منَا إلى إشكاليَّةٍ. ومن ثمَّ، فعليِه أنْ يستكمِلَ الوجهَ الآخرَ، ذلك الَّذيِ يتعلَّقُ بالإبداعِ الذِّهنيِّ، والَّذيِ لا يُمكنُ في الحقِّ أنْ يُقدَّرَ مهما عَظُمَ التقديرِ. ولا شكَّ، أنَّ هذا الأمرُ جديرٌ وكفيلٌ بأنْ يُحرِّكَ من ذاكرتيِ، تلك التيِ استقيتُها من ذاكرةِ تاريخِ حقِّ الـمُؤلِّفِّ قولَ الفقيهِ العلَّامةِ إدواردو بيولا كازيلي (1868-1943) E. Piola Caselli، هذا الرَّجُلُ الإيطاليُّ الَّذيِ ظلَّ في الذَّاكرةِ المفقودةِ لتاريخِ قانونِ حقِّ الـمُؤلِّفِ المصريِّ، والَّذيِ خضَّبتْ قدماهُ أرضَ مصرَ، حينَ رسَّخَ في رُبوعِها حمايةَ الحُقوقِ الذِّهنيَّةِ، إِذْ يُؤثَرُ عنهُ قولُه العظيمُ، والَّذيِ أصبحَ يجريِ مجرىَ الحِكمةِ: "(...) أنَّ الـمُصنَّفَ الذِّهنيَّ ليسَ من الـمُمكنِ أنْ يكونَ - في الـمُقابلِ - مُماثِلًا لكيسٍ من البطاطا، نشتريهِ من السُّوقِ، بحيثُ يُمكنُ أنْ نستخدمَه كما يحلُو لنا، أو كيفمَا نشاءُ، أو متى نشاءُ، إِذْ أنَّ الـمُصنَّفَ الذِّهنيَّ شِئنَا أم أبَيْنَا، هو في الأصلِ يرتبِطُ ارتباطًا وثيقًا بشخصيَّةِ الـمُؤلِّفِ، فهو ظلُّ فكرِه، وانعكاسُ مُعتقدِه، حتَّى وإنْ حدثَ وتنازَلَ الـمُؤلِّفُ عن الحقِّ الاستئثاريِّ الماليِّ، فهذا لا يعنيِ تنازُلَه في ذاتِ الوقتِ عن حُقوقِه الأدبيَّةِ على مُصنَّفِه، ذلك لأنَّ الـمُؤلِّفَ سيظلُّ مُحتفظًا بكافةِ الحُقوقِ على مُصنَّفِه، تلك الـمُتعلِّقةُ بمصالِـحَهِ الشخصيَّةِ".

وعليهِ، فإذا كانتْ الهِبَةُ اليدويَّةُ تتمُّ بقبضِ الموهوبِ له للشىءِ الموهوبِ (نتاجُ حقِّ الفنَّانِ)، على اعتبارِ أنَّ المقبوضَ هنا هو الـمِلكيَّةُ الكاملةُ، غيرُ أنَّ المقصودَ بــ"الـمِلكيَّةِ" هذه، فقط هى الـمِلكيَّةُ الماديَّةُ وليستْ الـمِلكيَّةُ المعنويَّةُ كما أقرَّتْ محكمةُ النقضِ الفرنسيَّةِ بتاريخِ 26 فبراير 1919. والأمرُ ذاتُه ينطبقُ على القاعدةِ الأُصوليَّةِ الشهيرةِ "الحيازةُ في المنقولِ سَنَدُ الـمِلكيَّةِ" طبقًا للمادةِ 976 من القانونِ المدنيِّ، وإلى هذا المعنىَ ذهبَ حُكمُ محكمةُ النقضِ المصريَّةِ بتاريخِ 12 مايو 1966.

وليسَ لدىَّ ما أُؤيِّدُ به ما اتُّفِقَ واستُّقِرَّ عليه، أدلُّ من حُكمٍ لمحكمةِ النقضِ الفرنسيَّةِ بتاريخِ 25 يناير 2005، تلك التيِ أكَّدتْ على مبدأٍ مُستقرٍّ عليه، ومُتجذِّرَةٌ جُذورُه في أرضِ الـمِلكيَّةِ الأدبيَّةِ والفنيَّةِ، وذلك حينَ قضتْ بأنَّ الـمِلكيَّةَ الفِكرِيِّةَ مُستقلةٌ عن الـمِلكيَّةِ الماديَّةِ، وأنَّ التَّبرُّعَ بِمعْطَفٍ لا يُبيحُ للموهوبِ له الحقَّ في السَّماحِ باستغلالِه ونشرِ صُورتِه. وتتلخَّصُ الوقائعُ في أنَّ وريثَ الفنَّانةِ (الواهبُ) سونيا ديلوناي (1885-1979) Sonia Delaunay، كانَ قد وَهَبَ مِعْطَفَ الفنَّانةِ إلى مُتحَفِ الأزياءِ والمنسُوجاتِ. وبُناءً على مُوافقةِ الموهوبِ له، قامتْ مجلةٌ بنشرِ نُسَخٍ لهذا الـمُصنَّفِ، بُمناسبةِ إعادةِ افتتاحِ هذا الـمُتحَفِ. فحكمتْ المحكمةُ لصالِحِ الـمِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ، رافضةً الحُحجَ التيِ تمسَّكتْ بها المجلةُ لتبريرِ مشروعيَّةِ النَّسْخِ. ومن ثمَّ، فالقولُ بتصرُّفِ الفنَّانِ في تصميمِه بأيَّةِ طريقةٍ من الطُّرقِ، سواءَ كانَ إلى الدَّولةِ أو لغيرِها، فهذا لا يعنيِ الجَوْرَ على حقِّه الأدبيِّ الثَّابتِ على مُصنَّفِه، لاسِيَّما وقد أصبحتْ كلمةُ "الـمِلكيَّةُ" تجريِ على ألسنةِ الفنَّانينَ دونَ ذكرِ وصفٍ دقيقٍ لها.

ومن الغريبِ والعجيبِ، حينما يكونُ الحديثُ بشأنِ إهداءِ الفنَّانِ عملًا فنيًّا لوطنِه، تتأجَّجُ المشاعرُ الحيَّةُ الـمُقدَّرةُ، وتُسْتَعلىَ قيمةُ الوطنِ في نفسِ الفنَّانِ، إلَّا أنَّه - مع كلِّ ذلك، ومع تقديرِنا لهذه المشاعرِ الطيِّبةِ - لا ينبغيِ أنْ نغفلَ أو نتغافلَ في ظلِّ تأجُّجِ المشاعرِ والتهابِ العواطفِ أنَّ للفنَّانِ حُقوقًا، وأنَّ مُجرَّدَ القولِ باستباحتِها، هو في الحقِّ انتهاكٌ واضحٌ وصريحٌ وفاضحٌ لعِرْضِ الـمِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ، كونُها جوهرةً مصونةً. ومن ثمَّ، عليهِم أنْ يُدركُوا إذا ما أردنَا أنْ نُقارِنَ شيئًا بشىءٍ، فلابُدَّ أنْ تكونَ الـمُقارَنةُ في "الأشباهِ والنَّظائرِ" تمامًا بتمامٍ، دونَ زيادةٍ أو نُقصانٍ.

 

مُقارَنةُ ما يُمكِنُ مُقارَنَتُهُ

ومع ذلك، لأشدُّ ما يستفِزُّ فكرُكَ، أنك تجدُ من بينَ الناسِ مَنْ يتغافلُ حقيقةً غايةَ في الأهميَّةِ، ألَّا وهى أنَّ ما يَصْلُحُ لتصميمِ طابعِ البريدِ مثلًا، قد لا يصلُحُ لغيرِه من الأشياءِ، كالعُملةِ أو علمِ مصرَ أو غيرِه، فلكلٍّ منهم بالتَّأكيدِ ضوابطٌ وقيودٌ لابُدَّ أنْ تُتَّبعَ حالَ الشُّروعِ في نَسْخِ أىٍّ منهم، إِذْ أنَّ الشىءَ لا ينبغيِ أنْ يُقارَنَ إلَّا بنظيرِه أو بشبيهِه لا بضدِّدِه، وهذا ما أكَّدتْ عليهِ قاعدةُ "النَّظائرِ والأشباهِ" في الحضارةِ العربيَّةِ، وهى انعكاسٌ لا شكَّ للقولِ الفرنسيِّ المأثُورِ "يَجِبُ مُقارَنةُ ما يُمكِنُ مُقارَنَتُهُ"« Il faut comparer ce qui est comparable »

ومن ثمَّ، فإنَّ ادِّعاءَ الأُستاذُ/ محمد طلعت بإباحةِ رسمِ الأختامِ أو التَّذاكرِ أو العُملاتِ كما هو مأثُورٌ عن تاريخِ الحركةِ الفنيَّةِ، وأنَّه ليسَ من حقِّ الفنَّانِ الَّذيِ رَسَمَ أو نَقَلَ، أنْ يُتَّهمَ بأنَّه مُقلِّدٌ على حدِّ قولِه، قولٌ مردودٌ عليهِ، بأنَّ الأمرَ بلا أدنىَ شكٍّ ليسَ على الإطلاقِ، إِذْ أنَّ هنالِكَ من القوانينَ ما وضعتْ ضوابطًا صارمةً في هذا الصددِ. ومن جانبِنا، فإنَّنا نؤكِّدُ على أنَّه إذا كانَ الحديثُ بصددِ تصميمِ طابعِ بريدِ، فهل يجوزُ لنا أنْ نُقارِنَ هذا الأمرَ برسمِ عُملةٍ أو غيرِها ؟ أو بعبارةٍ أخرىَ، هل يجوزُ لنا أنْ نُقارِنَ بينَ لوحةٍ فنيَّةٍ وبينَ تمثالٍ ؟

وفي السياقِ، أشعرُ أنَّ ذاكرتيِ قد تداعىَ فيها نصُّ المادةِ ل. 122-3 من التَّقنينِ النَّقديِّ والماليِّ الفرنسيِّ، إِذْ ارتأيْتُ أنَّه من الأمانةِ العلميَّةِ أنْ أُشنِّفَ أذُنُ كلِّ من وردَ في سياقِ حديثِه حديثًا يخصُّ نقلَ أو رسمَ عُملةٍ، أنْ أُهديهِ ذلك النصَّ إذا أَذِنَ ليَّ: "العُملاتُ الورقيَّةُ وقطعُ العُملاتِ المعدنيَّةِ تتمتَّعُ بالحمايةِ الـمُقرَّرةِ للأعمالِ الذِّهنيَّةِ بموجبِ الموادِ ل. 122-4 ول. 335-2 من تقنينِ الـمِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ. وتَثْبُتُ للسُلطاتِ التيِ تصُكُّهَا حُقوقَ الـمُؤلِّفِ". وبالتَّأكيدِ هذا موضوعٌ آخرٌ يضيقُ المقامُ عن استيضاحِ جوانبِه نظرًا لتعدُّدِ وتشابُكِ خُيوطِه.

 

الحقُّ في النَّسْخِ وتقنينِ مُمارسةِ نَسْخِ طابعِ البريدِ

وفي الحقِّ، إنَّ أشدَّ ما صدمنيِ إلى درجةٍ كبيرةٍ قد لا يتصوَّرُها إنسانٌ، أنْ يجودَ علىَّ الزَّمانُ، بأنْ أحيَا لاستَمِعَ إلى تلك المقولةِ العجيبةِ، وهى أنَّ طابعَ البريدِ "مِلكيَّةٌ عامةٌ"، بل يحِقُّ لكلِّ ذيِ بالٍ أو غيرِ ذيِ بالٍ أنْ يفترسَها متى شاءَ وكيفمَا يشاءُ... يا لهوْلُ ما سمعتُ ؟! ولا أُخفيِ أنَّنيِ حينما أردتُ الكلامَ، منعنيِ اللِّسانُ، إِذْ وجدتُ الذَّاكرةَ تتداعىَ بما هو مُتعارفٌ عليهِ بشأنِ الحُقوقِ الواردةِ على تصميمِ طابعِ البريدِ، من خلالِ تقنينِ مُمارسةِ نَسْخِ طابعِ البريدِ من قِبل هيئةِ البريدِ الفرنسيَّةِ، تلك التيِ كمْ تمنَّيْتُ لو سمعَها أو قرأَهَا مَنْ أدَّعىَ أنَّ تصميمَ طابعِ البريدِ ليسَ مُصنَّفًا ذهنيًّا، ليتَّخِذَ منها نمُوذجًا ونِبراسًا يسيرُ على منوالِه، ويهتديِ بهديهِ، وذلك لدحضِ الادِّعاءاتِ، وشقِّ المزاعمِ التيِ طالتْ تصميمَ طابعِ البريدِ في مصرَ.

ومن هنا، وجبَ على الجميعِ أنْ يُلقوا نظرةَ تأمُّلٍ على ما قامتْ به هيئةُ البريدِ الفرنسيَّةِ، إِذْ كرَّستْ على الـمُستوىَ العمليِّ أُسُسًا ثابتةً، كى تُفعِّلَ احترامَ الجميعِ لحُقوقِ الـمُؤلِّفِ على طابعِ البريدِ، ونوَّهتْ في منشورٍ لها أنَّ الطوابعَ البريديَّةَ لا يُمكنُ نَسخُها بأىِّ حالٍ من الأحوالِ دونَ تصريحٍ مُسبقٍ، سواءَ من قِبلِ البوستةِ، أو من قِبلِ الفنَّانينَ الـمُبدعينَ لتصميمِ الطَّابعِ، أيًّا كانوا رسَّامينَ، أو حفَّارينَ، أو مُصوِّرينَ فُوتوغرافيينَ، أو مُصمِّمينَ.

 

الضَّوابطُ الحاكمةُ لعمليَّةِ نَسْخِ طابعِ البريدِ

لقد وضعتْ هيئةُ البريدِ الفرنسيَّةِ حِرصًا منها على حقِّ الـمُؤلِّفِ أُسُسًا صارمةً، فأوجبتْ وألزمتْ كلَّ الـمُتعاملينَ بشأنِ طابعِ البريدِ من هُواةٍ وناسخينَ وغيرِهم، أنْ يتوخُّوا هذه الأُسُسَ حينَ الشُّروعِ في نَسْخِ طابعِ البريدِ. ومنها:

أولًا: الحرصُ على إثباتِ كافةِ البياناتِ الـمُتعلِّقةِ بالطَّابعِ حينَ الشُّروعِ في نَسْخِه، شريطةَ أنْ يكونَ نَسْخُ الطَّابعِ كاملًا مع مُراعاةِ "التحْزيزِ".

ثانيًّا: عدمُ جوازِ طبعِ طبعةً إضافيةً على طابعِ البريدِ الأصليِّ (لتعديلِ قيمتِه)، مع الحرصِ على عدمِ محوِ الآثارِ الرَّسميَّةِ للبوستةِ.

ثالثًا: ثقوبُ طابعِ البريدِ يجبُ مُراعاتُها حالَ الاستنساخِ، على ألَّا يتمَّ تنفيذُها بأىِّ حالٍ من الأحوالِ بطريقةٍ ملموسةٍ على دُعامةِ النَّسْخِ.

رابعًا: اللَّونُ الأسودُ، هو فقطْ اللَّونُ الـمُباحُ عندَ نَسْخِ الطَّابعِ في المطبوعاتِ أُحاديَّةِ اللَّونِ. أما في المطبوعاتِ رُباعيَّةِ الألوانِ، فيجبُ نَسْخُ الطَّابعِ بالألوانِ.

خامسًا: أما عن حجمِ الطَّابعِ، فالطَّابعُ الـمُرادُ نَسْخُه يجبُ أنْ يُنفَّذَ بأبعادٍ تختلفُ عن أبعادِ الطَّابعِ الأصليِّ بمقدارٍ يزيدُ أو يقلُّ عن 25 %. وإذا كانَ الطَّابعُ قد نُسِخَ بالألوانِ وبذاتِ الحجمِ، فإنَّ الخطَّ المثقوبَ ينبغيِ أنْ يظهرَ في إحدىَ زوايَا طابعِ البريدِ.

إنَّ الـمُتأمِّلَ لهذه الشروطِ والضَّوابطِ جيدًا، يُدرِكُ على الفورِ أنَّ طابعَ البريدِ مُصنَّفٌ "ذو طبيعةٍ خاصةٍ"، لذا وُضِعَتْ له ضوابطٌ وقيودٌ ألزمتْ كلُّ راغبٍ في النَّسْخِ أنْ يتَّبِعهَا، وإلَّا يُعَدُّ الأمرُ اعتداءًا. ومن هنا، كانَ تعجُّبيِ على من استسهلَ نَسْخَ طابعِ بريدِ قناةِ السِّويسِ أو نقلِه أو تكبيرِه أو التعديلِ في مُحتواهِ، وكأنَّ الأمرَ بلا ضابطٍ أو قيدٍ.

 

لا تحريفَ في التَّوثيقِ/التَّقليدِ ؟

في الحقِّ، إنَّ ما صرَّحَ به الفنَّانُ أحمد بيرو، مُبرِّرًا تكبيرُه لطابعِ البريدِ من خلالِ شرحِه لمنهجيَّةٍ يتْبعُها في إبداعِه الفنيِّ، ألَا وهى مقولةُ "لا تحريفَ في التَّوثيقِ" - أشعرُ وأنَّ حالَ لسانِه يقولُ "لا تحريفَ في التَّقليدِ" مع خالصِ احترامِنا لــ"حُسنِ النَّوايَا"، - فما إنْ قرأتُها حتَّى أحسستُ أنَّ مطرقةً قد اصطدمتْ برأسيِ، فأسالتْ نزيفَ فكريِ، وتجمَّدَ شعوريِ، وتجلَّطتْ كوائنيِ، وأحسستُ أنَّنيِ قد أفنيْتُ عُمريِ في شىءٍ غيرِ القانونِ، إِذْ ما إنْ وضعتُ عبارتَه هذه على مِسبارِ القانونِ، لوجدتُ أنَّ مُؤشِّرَه قد ارتفعَ إلى أقصىَ درجاتِه، لينعكسَ على "مرآةِ اللَّا قانونِ" بمقولةٍ مُرادفةٍ لها أنَّه "لا توثيقَ بلا تقليدٍ" ! ولكى أُجليِ الحقيقةَ في هذا الموضوعِ، وأُزيلَ عنه غبارَه، فإنَّنيِ أقولُ أنَّ عبارةَ "لا تحريفَ في التَّوثيقِ" ليستْ رواسِخَ ثابتةً، أو آيَةً نتعبَّدُ بها في محرابِ الفنِّ، إِذْ أنَّها تبدو غريبةَ الملامحِ، مُتناقضةَ الشكلِ، مع ذاتِ القانونِ وكينونتِه.

وإذا كانَ الدكتورُ/ حمدي أبو المعاطيِ في إطارِ افتتاحِ معرضِ "قناةِ السِّويسِ: الماضي.. الحاضر.. الـمُستقبل"، قد علَّقَ بقولِه: "أنَّ المعرضَ جاءَ كمُبادرةٍ لإبرازِ دورِ الحركةِ الثقافيَّةِ في توثيقِ الأحداثِ الهامةِ، لتكونَ قيمةً مُضافةً تاريخيَّةً وفنيَّةً وجماليَّةً من خلالِ مُبدعِيها في مجالِ الفنِّ التَّشكيليِّ المصريِّ الـمُعاصرِ، وسيضُمُّ المعرضُ أعمالَ الفنَّانينَ التَّشكيليينَ الـمُستلهَمةِ من مشروعِ قناةِ السِّويسِ، ليُقدِّمَ صُورةً بانوراميَّةً لأعمالِ التَّشكيليينِ، بدءًا من جيلِ الرُّوادِ الرَّاحِلينَ، مُرورًا بالـمُعاصرينَ والشبابِ، الَّذينَ استلهَموا فيها مشروعَ القناةِ مُنذ إنشائِه وحتَّى الآنَ"، مُستطرِدًا بأنَّه "يُسعِدُه دعوةُ الفنَّانينَ التَّشكيليينَ المصريينَ للمُشاركةِ في هذا المعرضِ الَّذيِ يُمثِّلُ فرصةً هامةً لـمُبدعيِ مصرَ من الفنَّانينَ التَّشكيليينَ؛ لإبرازِ دورِهم في توثيقِ الأحداثِ القوميَّةِ الـمُهمةِ في تاريخِ مصرَ الحديثِ والـمُعاصرِ، ودائمًا ما يُضيفُ تفاعُلُ الفنَّانِ مع الأحداثِ التَّاريخيَّةِ والوطنيَّةِ قِيمًا جديدةً فنيَّةً وجماليَّةً، تُخلِّدُها في صُورٍ إبداعيَّةٍ تبقىَ محفورةً في وجدانِ وذاكرةِ الشُعوبِ"، فلا ينبغيِ حينئذٍ أنْ يُتَّخذَ من هذا التَّصريحِ مندوحةٌ أو ذريعةٌ للاعتداءِ على حُقوقِ الغيرِ، مُبتغينَ من وراءِ ذلك هدفًا نبيلًا، وهو "التَّوثيقُ"، لذا فإنَّنيِ أقولُ وبصوتٍ جهورٍ أنَّ التَّوثيقَ وإنْ كانَ شيئًا نبيلًا يُحترمُ، فلا ينبغيِ أنْ يُبنىَ على أُسُسٍ من التَّقليدِ أو النَّقلِ، فهو بالنسبةِ ليَّ كمنْ يبنيِ مسجدًا على أرضٍ مسروقةٍ. إِذْ أنَّنيِ لا أتخيَّلُ في يومٍ من الأيامِ أنْ يقِفَ فنَّانٌ أمامَ قاضٍ، مُتمسِّكًا بحُجةِ النَّقلِ والتَّقليدِ بهدفِ التَّوثيقِ، وكأنَّه أضحىَ استثناءًا مُباحًا، والأمرُ على واقعِه هذا، يُعَدُّ سذاجةً غيرِ معهودةٍ، لأنَّه وإنْ كانَ بالإمكانِ أنْ تتمَّ عمليَّةُ التَّوثيقِ كاملةً، لكنْ ينبغيِ أنْ تكونَ من خلالِ اتِّباعِ طُرقٍ مشروعةٍ قد أقرَّها القانونُ، حتَّى نتفادىَ الوقُوعَ تحتَ طائلتِه.

 

اعتداءٌ مُزدوجٌ وتقليدٌ بطعمِ الكُومبُو

إنَّ الواقعةَ الماثلةَ أمامنَا تُشكِّلُ اعتداءًا صارِخًا على حُقوقِ الفنَّانِ مُصمِّمِ الطَّابعِ، إِذْ أنَّ مُحتواهَا يندرجُ بداهةً تحتَ "جريمةِ التَّقليدِ"، ومن ثمَّ، فمن يدَّعيِ أنَّ الأمرَ على حالتِه هذه لا يُشكِّلُ اعتداءًا، هو واهِمٌ بالطبعِ، ولكى يَقِفَ على أرضٍ صُلبةٍ، كانَ من الأولىَ به أنْ يُراجعَ أحكامَ القانونِ، لأنَّ رأيَه على تلك الشاكلةِ يُعَدُّ لا شكَّ رأيًّا مغلوطًا. وفي الحقِّ، لو إنَّني أردتً أنْ أبحثَ عن مثيلٍ - أو بعبارةٍ أدقُ، تطبيقٍ قضائيٍّ - لما فعلَه الفنَّانُ أحمد بيرو في ضوءِ أحكامِ القضاءِ الفرنسيِّ، لمْ أجدْ أنسبَ من هذينِ الحُكميْنِ اللَّذينِ سآتيِ بهِما، إِذْ أحسستُ وأنا أَديرُهما في معاملِ رأسيِ، أنَّهما يَعُدانِ وكأنَّهما سِربالًا إذا ما ألبستُه لجسدِ تلك الواقعةِ، لوافقَه تمامًا، ذلك لأنَّ النَّقلَ من خلالِهما يُعَدُّ مُكوِّنًا لجريمةِ التَّقليدِ، متى تمَّ دونَ إذنٍ من الفنَّانِ، وفي حالاتٍ كثيرةٍ، أذكرُ منها:

1) نقلُ مُصنَّفِ الفنَّانِ على دُعامةٍ أخرىَ. وهذا ما أكَّدتْهُ محكمةُ استئنافِ باريس في حُكمِها بتاريخِ 19 سبتمبر 1983.

2) نقلُ نُسْخةٍ مُلوَّنةٍ عن مُصنَّفِ الفنَّانِ الَّذيِ رُسِمَ بالأبيضِ والأسودِ. وهذا ما ذهبتْ إليه ذاتُ المحكمةِ في حُكمِها بتاريخِ 31 أكتوبر 1988.

وبُمضاهاةِ هذينِ التطبيقيْنِ القضائييْنِ على تلك الواقعةِ التيِ نحنُ بصددِها، لوجدناهُما وكأنَّهما وجهانِ لعُملةٍ واحدةٍ، إِذْ أنَّهما يَعُدانِ تطبيقيْنِ عملييْنِ على أرضِ الواقعِ، ذلك لأنَّ ما فعلَه الفنَّانُ أحمد بيرو قد تمثَّلَ في نقلِ تصميمِ الطَّابعِ الَّذيِ صمَّمهُ الفنَّانُ أشرف رضا على دُعامةٍ أخرىَ، ودونَ إذنٍ منه هذا من جهةٍ، ثمَّ قامَ بتكبيرِ وتلوينِ الـمُصنَّفِ الَّذيِ كانَ قد أُبدِعَ بألوانٍ مُغايرةٍ من جهةٍ أخرىَ. فإذا ما أردنَا أنْ نُحلِّلَ الموضوعَ على "طريقةِ الـمَنَاطِقَةِ"، لوجدنَا أنَّ الاستنتاجَ تُشيرُ سِهامُه إلى أنَّ فعلَ الفنَّانِ يُعَدُّ وبحقٍّ جريمةَ تقليدٍ.

وعليهِ، فنحنُ أمامَ اعتداءٍ مُزدوجٍ على التَّكامُلِ الماديِ للمُصنَّفِ، يُوقِعُ صاحبَه تحتَ طائلةِ القانونِ، أو بالأحرىَ لك أنْ تقولَ - إذا جازَ التعبيرُ - أنك أمامَ اعتداءٍ بطعمِ الكُومبُو. فإذا كُنتمْ قد أشرتُمْ، بل أكَّدتُمْ في قولِكُمْ، أنَّه "لا تحريفَ في التَّوثيقِ" مع خالصِ احتراميِ لفِكْرِكُمْ، فبماذا تُسمُّونَ النَّقلَ والتكبيرَ والتلوينَ دونَ تصريحٍ من مُبدعِ تصميمِ طابعِ البريدِ ؟ إنَّ مُجرَّدَ النَّقلِ أو التكبيرِ أو التلوينِ لتصميمِ طابعِ بريدٍ دونَ إذنٍ هو التحريفُ بعينِه، فكيفَ نقولُ "لا تحريفَ في التَّوثيقِ" ؟!

 

النَّقلُ الحرفيُّ ليسَ تأثُّرًا

ثمَّ إنَّ الادِّعاءَ بأنَّ ما هَطَعَ إليهِ الفنَّانُ هو نوعٌ من أنواعِ التَّأثُّرِ، هو في الحقِّ ليٌّ لعُنُقِ الحقيقةِ، إِذْ أنَّ هنالِكَ خُيوطًا حريريَّةً، وفواصلًا ماديَّةً ومعنويَّةً بينَ عمليتيَّ "النَّقلِ" و"التَّأثُّرِ". ومن ثمَّ، وجبَ علىَّ كباحثٍ في مجالِ الـمِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ وقانونِ سوقِ الفنِّ، أنْ أُبرزَ على سبيلِ الإجمالِ، أهمَ وأَبرزَ الحُدودِ الفاصلةِ بينهما، - تلك التيِ سبقَ أنْ تناولتَها بالتَّفصيلِ في مقالٍ بعنوانِ: "القانونُ واللُّغةُ وعلاقتهُما بالتَّأثُّرِ والتَّقليدِ في صالونِ الشبابِ" (بوابةُ روزَ اليوسفِ) - والتيِ أرىَ أنَّها تطِلُّ الآنَ بوضوحٍ من سُدَّةِ شُرفةِ حُكمِ محكمةِ السِّين (المدنيَّةِ) بفرنسا، والَّذيِ صدرَ بتاريخِ 10 فبراير 1955: "ولئِنْ كانَ صحيحًا أنَّ للفنَّانِ الحقَّ في التَّأثُّرِ من أحدِ أسلافِه، واعتمادِ نوعِه (أُسلوبِه)، إلَّا أنَّه لا يُمكنُ أنْ يَقتبسَ بطريقةٍ منهجيَّةٍ كلَّ العناصرِ التيِ يتكوَّنُ منها الـمُصنَّفُ السَّابقُ". والتطبيقاتُ القضائيَّةُ في ذلك كُثْرُ.

لذا فإنَّ القولَ بأنَّ ما حدثَ يندرجُ تحتَ بابِ "التَّأثُّرِ"، هو قولٌ غيرُ مُستقرٍّ على أُسُسٍ ثابتةٍ، ويُفتحُ له أوسعُ الأبوابِ، ليرغبَ عنهُ مُطأطأَ الرَّأسِ، خاجلَ الرأىِ والفكرِ، لِأنَّ الأمرَ - ولا اعتراضَ - جافىَ أبسطَ طُرُقِ الحقيقةِ، بل جافىَ التَوصيفَ القانونيَّ الدقيقَ للواقعةِ، وهذا ما أكَّدَه الحُكمُ السَّابقُ، الَّذيِ يُعَدُّ دحضًا لكلِّ ادِّعاءٍ يُخالفُه، لأنَّه سيُعَدُّ من قبيلِ الافتراءِ على الحقيقةِ. والحقيقةُ جليَّةٌ في أنَّ الفنَّانَ قد نَقَلَ الـمُصنَّفَ ذاتَه بجميعِ مُكوِّناتِه وعناصرِه، أى قد أخذَ الجملَ بما حَمَلَ !

وفي السياقِ ذاتِه، أودُ أنْ أُشيرَ إلى أنَّ النَّقلَ عن الأعمالِ الفنيَّةِ قد يكونُ مُباحًا ومحميًّا، بشرطِ ألَّا تكونَ النُّسخةُ المنقولةُ نُسْخةً حرفيَّةً، أو منسوخةً طبقَ الأصلِ، فضلًا عن كونِها تحملُ البصمةَ الشخصيَّةَ للنَّاقلِ كما اُستَقِرَّ عليه قضائيًّا. وهذا ما لمْ يتوافرْ كلِّيةً في الواقعةِ محلِّ المقالِ. لا شكَّ، أنَّ الحديثَ عن النَّقلِ يدفعُنا دونَ أنْ ندريِ لأنْ نتطرَّقَ باختصارٍ لأمرٍ آخرِ غايةَ في الأهميَّةِ، لو فُتِحَتْ له أبوابُ البحثِ والـمُناقشةِ، لابتلعتْ صفحاتُ ذلك المقالِ، ألَا وهى قضيةُ "الـمُصنَّفاتِ الـمُشتقةِ"، أو ما يُعْرَفُ باسمِ "مُصنَّفاتُ اليدِ الثانيَّةِ" كما أَطلَقَ عليها الفقيهُ ديبوا Desbois. وفي الحقِّ، إنَّه بتأمُّلِنا فيما نحنُ بصددِه، نجدُ أنَّ أحكامَ الاشتقاقِ لا تنطبقُ بالمرَّةِ على النَّقلِ محلَّ الواقعةِ، إِذْ أنَّ نقلَ الفنَّانِ لتصميمِ طابعِ البريدِ على لوحةٍ أخرىَ، لا يُعَدُّ مُصنَّفًا جديدًا اُشتُقَ من مُصنَّفٍ سابقٍ بأىِّ حالٍ من الأحوالِ، تلك الأحكامُ التيِ تتطلَّبُ تصريحًا من مُؤلِّفِ الـمُصنَّفِ الأصليِّ، وكذا احترامَ حقِّه الأدبيِّ.

وفي الحقِّ، لقد حاولتُ جاهِدًا أنْ أجدَ مُبرِّرًا قانونيًّا لتلك الواقعةِ، لكنيِ لمْ أجدْ، إِذْ أنِّيِ وجدتُ الأبوابَ كُلَّها مُوصدةً في وجهيِ، وأحسستُ أنَّ الفنَّانَ قد وضعَ نفسَه في قُمقُمٍ لا يستطيعُ الفَكاكَ منه للأسفِ.

 

ومن الحُبِّ ما قَتَلَ

وأشعرُ بالدَّهشةِ من تبريرِ الأُستاذِ الفاضلِ/ محمد طلعت من أنَّ الدَّافعَ لرسمِ الطَّابعِ هو حُبُّ الفنَّانِ له. وفي الحقِّ، أقولُ متى كانَ الحُبُّ دافعًا مشرُوعًا للاعتداءِ ؟! إِذْ لو كانَ الحُبُّ على عقيدتكمْ هذه، لكانَ من الـمُباحِ أنْ تُنقلَ جميعُ أعمالِ الفنَّانينَ دونَ إذنٍ منهم، ولاختلطَ حينئذٍ الحابِلُ بالنَّابِلِ، وحُطِّمتْ الفواصلُ والقيودُ، والنتيجةُ ضياعُ الحُقوقِ. وإذا كانَ الحُبُّ وسيلةً للتَّآخيِ، ولمدِّ جُسورِ الصِّلةِ بينَ الآخرينَ، وهى الوسيلةُ الـمُثلىَ للحفاظِ على الحُقوقِ، فكيفَ نتَّخذُه ذريعةً للاعتداءِ ؟! وفي الواقعِ، إنَّه في رحابِ الحديثِ عن القانونِ، لابُدَّ أنْ ينتفيَ معه انتشاءُ المشاعرِ، ولنا في القانونِ عِبرةٌ. وإذا كانَ الأُستاذُ الفاضلُ قد أثارَ عاطفةَ الحُبِّ باعتبارِها دافعًا غريزيًّا وحيويًّا وأساسيًّا لنقلِ مُصنَّفٍ فنيٍّ، فماذا يقولُ في قُبْلَةِ ريندي سام، وما ترتَّبَ عليها ؟

ذلك أنَّ الفنَّانةَ ريندي سام، وهى إحدىَ الـمُتذوِّقاتِ للفنِّ، ومن الـمُعجباتِ الـمُقدَّراتِ لجمالِه، في أحدِ المعارضِ، أرادتْ أنْ تُظهِرَ إعجابَها بلوحةٍ ما لفنَّانٍ عظيمٍ، فما كانَ منها امتنانًا لعبقريتِه، إلَّا أنْ طبعتْ قُبْلَةً على تلك اللوحةِ، فتركتْ القُبْلَةُ أثرَها، في أحمرِ شِفاهِها، وما كانَ من الـمُتحَفِ إلَّا أنْ أحالَ الواقعةَ إلى القضاءِ. تخيَّلْ ماذا سيكونُ ردُّ فعلِ القضاءِ الفرنسيِّ حيالَ هذه الواقعةِ، وتكييفُها القانونيُّ ؟ تلك التي اعتبرَها في قرارةِ ضميرِه أنَّها اعتداءٌ صارِخٌ على حقِّ الفنَّانِ، فكانَ حُكمُها، فحكمتْ محكمةُ جُنحِ أفينيون بإدانتِها. ومن ثمَّ، ألزمتْهَا بدفعِ مبلغِ (ثمانيةَ عشرَ ألفًا، وثمانُمائةٍ وأربعينَ يورو) (18,840)، لتمويلِ عملياتِ ترميمِ العملِ الَّذيِ أفسدتْهُ تلكَ القُبْلَةُ، فقد قامتْ بإرادتِها وانصياعًا لمشاعرِها بإتلافِ عملٍ فنيٍّ لدى مُتْحَفٍ، ما ترتَّبَ عليه الحُكمُ السَّابقُ. إِذنْ فسِلاحُ الجريمةِ في تقديرِ المحكمةِ كانَ هو القُبْلَةُ !

 

حُقوقُ الفنَّانِ وحُريَّةُ التَّعبيرِ الفنيِّ

ومما زادَ الطِّينُ بِلَّةً، أنْ يُثارَ ضمنيًّا قضيَّةُ "البوب آرت" كأحدِ التيَّاراتِ الفنيَّةِ الـمُعاصرةِ على هامشِ الـمُبرِّراتِ التيِ اِتُّكِأَ عليها، باعتبارِها أحدُ الرَّوافِدِ الهامةِ التيِ ترفِدُ إلى إعلاءِ حُريَّةِ التَّعبيرِ الفنيِّ، وبالأحرىَ إباحةُ نقلِ تصميمِ طابعِ البريدِ. وأودُ أنْ أُوضِّحَ بادئٍ ذيِ بدءٍ أنَّ حُريَّةَ الفنِّ ليستْ مُطلقةً، إِذْ على وجِه اليَّقينِ لابُدَّ أنْ تحُدَّها حُدودًا تُقيِّدُ الفنَّانَ تجاهَ حُقوقِ الغيرِ، لذا فإنَّ تناوُلَ مثلِ هذه المسألةِ ليسَ من البَّساطةِ والسُّهولةِ بمكانٍ، إِذْ أنَّ مثلَ هذه القضيَّةِ تحتاجُ إلى بحثٍ وتحليلٍ وفحصٍ وتمحيصٍ مُستقلَّيْنِ.

وخُلاصةُ القولِ، فالتَّمسُّكُ بالحُريَّةِ الفنيَّةِ لا يُمكنُ على أيَّةِ حالٍ أنْ يكونَ عائقًا لتعطيلِ تطبيقِ نُصوصِ حقِّ الـمُؤلِّفِ. وهذا ما ذهبتْ إليه محكمةُ استئنافِ باريس في حُكمٍ لها بتاريخِ 18 سبتمبر 2013، ذلك الحُكمُ الَّذيِ أحسستُ من خلالِه كأنَّه دعوةٌ وُجِّهتْ إلى الفنَّانِ أحمد بيرو، كى يسترشِدَ بحيثياتِه، وتتلخَّصُ في: "أنَّ مُمارسةَ حُريَّةِ التَّعبيرِ الفنيِّ قابلةٌ لأنْ تُحَدَّ بحُدودٍ، وذلك من أجلِ حمايةِ الحُقوقِ الفرديَّةِ الأخرىَ، وأنَّ سعىَ مُؤلِّفٍ ما للاعتراضِ على إعادةِ نقلِ مُصنَّفٍ بصريٍّ بُناءً على كونِه إبداعًا خاصًا له، لا يُمكنُه - بوجهٍ معقولٍ - أنْ يتغاضىَ عن حُقوقِ مُؤلِّفِ تلك الإبداعاتِ البصريَّةِ". وفي الحقِّ، إنَّ هذه مسألةٌ ذاتُ خُيوطٍ حريريَّةٍ دقيقةٍ، تتشابكُ وتتعقَّدُ، ثمَّ تنفرِجُ، لتُثيرَ إشكاليَّةً غايةَ في الأهميَّةِ، ألَا وهى ضرورةُ التَّوفيقِ بينَ حُريَّةِ التَّعبيرِ، وحُقوقِ الـمُؤلِّفِ، وهى ليستْ محلَّ مقاليِّ الآنَ.

ولا أُنكرُ أنَّه في خِضَمِّ تأمُّليِ لتلك الـمُبرِّراتِ التيِ اُعتُمِدَ عليها، سواءً من الفنَّانِ أو من غيرِه، أنَّها تُعَدُّ من قبيلِ الاعتداءِ الصَّريحِ، لذا لا أُخفيِ عليكمْ أنَّني قد ضاقتْ بيَّ الحِيلُ، وأصبحتُ عاجزًا تمامًا أمامَ كلِّ مُجاهِرٍ ومُكابِرٍ يحاوِلُ أنْ يتخطَّىَ حدَّ القانونِ، وأنْ يُبدِعَ بما ليسَ في القانونِ، بل يَسنِدُ إلى القانونِ ما ليسَ فيه. وأنا أمامَ هؤلاءِ وهؤلاءِ، وبعدَ كلِّ ما خطَّتْ يَمِينِي،ِ وبَحَثَ عقليِ في جميعِ الأحكامِ القضائيَّةِ - سواءَ كانتْ قديمةً أم حديثةً - عن كلِّ ما يتعلَّقُ بتلك القضيَّةِ، أدركتُ أخيرًا أنَّه لمْ يتبقَ ليَّ سوىَ شىءٍ واحدٍ، هو أنْ أُصلِّيَّ إلى اللهِ، داعيًّا إيَّاهُ، أنْ يُلهِمَ الجميعَ الصَّوابَ فيما يكتُبونَ، ويتفنَّونَ، حتَّى لا يُعكِّرُونَ صفاءَ دمِّ الـمِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ، فتتوقَّفُ أنفاسُهَا، وتُصبحُ جُثَّةً هامدةً، ساعتُها لنْ أطلُبُ منكمْ سوىَ دُعائِكم لها بالرَّحمةِ، لأنَّها بالتَّأكيدِ قد ماتتْ مفروسةً.

 

عجيبٌ أمرُ الفنَّان.. أيُطالِبُ بحقِّه ثمَّ يُهان ؟!

فإذا كانَ الأُستاذُ الفنَّانُ/ محمد طلعت قد خَتَمَ مُبرِّراتَه بعِتابٍ راقٍ للفنَّانِ أشرف رضا، قائلًا له على حدِّ قولِه: "فرِفقًا بالفنِّ وبالفنَّانينَ، المفروضُ تفرحُ وتشكُرُه"، أودُ أنْ أقولَ لأخيِ الفاضلِ: إنَّ "الرِّفقَ بالفنِّ" لا يكونُ بالاعتداءِ على الإبداعِ، ولا بتحطيمِ عُنُقِ القانونِ، ولا بسفكِ دمائِه في ردهاتِ محاريبِ الفنِّ، وأنَّ "الرِّفقَ بالفنَّانينَ" يكونُ بتعظيمِ صَرحِ القانونِ، واحترامِ شُموخِه، كى يقِفَ راسِخًا أمامَ كلِّ مُتسوِّليِ الفنِّ، حاميًّا إبداعَ الـمُبدعينَ أمامَ اعتدائِهم، إِذنْ فمن الأَوْلىَ أنْ تكونَ العبارةُ: "فرِفقًا بقانونِ الـمِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ وحُقوقِ الفنَّانينَ التَّشكيليينَ، وحينئذٍ سيكْسُو الفرحُ وجُوهَنا، ويسكُنُ قُلوبَنا، فنتوجَّهُ بالشُّكرِ لربِّنَا"... خاصةً أنَّ الأُستاذَ الفنَّانَ/ محمد طلعت قد ذَكَرَ فيما ذَكَرَ تعليقًا على تلك الواقعةِ، واصِفًا من تحدَّثُوا في هذا الموضوعِ بأنَّهم جُهَلاءٌ، وأنَّهم قد افترُوا على الفنَّانِ أحمد بيرو، مُنطلقينَ من سُلطةِ البعضِ، وقوَّةِ البعضِ، وتطبيلِ (مُداهنةِ) الآخرينَ. أودُ أنْ أقولَ أنَّ ملائِكةَ الـمِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ قد ظهرتْ في ثيابِها الأبيضِ النَّاصِعِ، لتُظهِرَ الحُقوقَ كاملةً، ما للفنَّانِ، وما عليهِ. وأشعرُ أنَّنيِ قد استطردتُ كثيرًا كثيرًا في هذا الموضوعِ حتَّى بحَّ صوتيِ، وجفَّ حلْقيِ، وأصبحتُ بينَ هذا وذاك حالِـمـًا بأنْ تكونَ الـمِلكيَّةُ الفِكرِيَّةُ بُمحتوياتِها قد سَكَنتْ مكانَها من قُلوبِ الجميعِ، لاسِيَّما الفنَّانونَ.

وفي الحقِّ، إنَّ مُناقشتيِ لما وردَ من مُبرِّراتٍ في هذه القضيَّةِ، لمْ أكُنْ فيه صيَّادًا يجلِسُ على الشَّاطىءِ، ليصطادَ من وقائعِ الـمِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ، ما يصنعُ منها إشكاليَّةً، إنَّما ما أنا إلَّا باحثٌ أشبهُ بمِغْنَاطِيسٍ تجذبُهُ القضايا الحديديَّةُ، تلك التيِ يترأىَ ليَّ من خلالِ فكريِ وحسِّيِ ووجدانيِ، أنَّها ما لها أنْ تُتركَ، ولابُدَّ من أنْ تُبلوَرَ وتُهذَّبَ، ثمَّ تُوضعُ في إطارٍ جذَّابٍ، لتكونَ بمثابةِ عِبَرٍ نتعلَّمُ منها، وآياتٍ في محرابِ الفنِّ نسترشِدُ بها. فلا مناصَ من أنْ نَعْلَمَ أنَّ بعضًا من كيانِ عِلمِ القانونِ لا يُبنىَ في أحايينٍ كثيرةٍ إلَّا على تلك الوقائعِ التيِ قد يترتَّبُ عليها تطبيقاتٌ قضائيَّةٌ، واجتهاداتٌ فقهيَّةٌ، تلك التيِ دائمًا يحرصُ كلُّ مُجتهدٍ ومُجِدٍّ أنْ يجعلَ منها لَبِنَاتٍ، يستخدمُها للبناءِ لا معاوِلَ للهدمِ. 

وفي الخِتامِ، فإنِّيِ أُشهِدُ اللهَ بأنَّنيِ لنْ أتوانىَ ولو لحظةٍ حينَ أشعرُ أنَّ الفنَّانَ أحمد بيرو، أو أىَّ فنَّانٍ آخرَ ينطلِقُ من رواسِخِ الحقِّ، وثوابِتِ القانونِ، في أنْ أكونَ حصنَه الحصينَ، والحاميَّ الأمينَ، لفنِّه ولإبداعاتِه. وإنِّيِ في هذا لا استعرضُ قوَّتيِ، إنَّما استعرضُ قوَّةَ القانونِ. اللَّهُمَّ أنَّيِ قد بلَّغتُ رسالةَ الـمِلكيَّةِ الفِكرِيَّةِ، اللَّهُمَّ فاشْهَدْ.

 

باحثٌ في مجالِ المِلكيَّة الفِكريَّةِ وقانونِ سوقِ الفنِّ

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز