عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

مارينا فارس تكتب: على جدار الذاكرة

مارينا فارس تكتب: على جدار الذاكرة
مارينا فارس تكتب: على جدار الذاكرة

حين دخلت المطعم الفاخر, كنت تجلس علي طاولة منعزلة, اثرت ان الملم ارتباكي وابتعد قليلاً وامهد مساحات من وجداني تكفي لاستحضار كل الماضي, واخلو بنفسي ليتسنى لي رؤيتك و تذكر كل شيء. والأن تطل الذكريات برأسها من بقعة ما من روحي, اجلس لأحتسيها علي مهل كما احتسي قهوتي ذات صباح  شتوي. و تمر امامي كل القصة كصور متتابعة, كفيلم سينمائي صنعه مخرج عبقري بالكثير من الجنون.



افتش بين تلال ذكرياتي واستدعي كل الحكايات وانفض عنها التراب فتتجلي لي الوانها واضحة وحية كما لو لم يمضي عليها يوماً واحداً. وبين صفحات الذاكرة الذي خضبها الزمن باللون الاصفر اتذكر ذلك اليوم جيداً, يبدو لي جديد ولامع, اتذكر حين رأيتك للمرة الاولي منذ عقدان من السفر في العمر فسرقت للتو انتباهي و ضاعت كل افكاري في دوامة عينيك واخذت عيني تقطع الطريق بين الكتفين مروراً بغابات سوداء تحتل رأسك الجميل, حينها كنت اقرأ كتاباً عن التاريخ اليوناني. حتي الكلمات ادهشها حضورك وشتتها ولم يبقى سوى بعض الاحرف التي رسمت وجهك بأصرار فوق كل الصفحات. الكتاب الذي يحدثني عن شموخ اله الاغريق, لم يري جبينك العالي! لم يسمع صوتك الذي اشعل الحنين في دمائي! لا اقول انه كان ما يسمونه حب من النظرة الاولي, بل انني شعرت اني انتمي إليك حتى قبل ان اراك. او اني التقيتك مرارا في زمن مضى وما لقائنا حينها غير استكمال لما كان بيننا من لقاء. فكأنه لقاء جديد لا لقاء اول. يختلف تماما عن لقائي بك الان. فالان أنت غريب القاه للمرة الاولي, اراك ولا اراك.

كنا حينها نخطو في دراستنا الجامعية بثقة, كنت دائماً اكثرنا تفوقاً و املاً و شجناً, كنت تشعل حماس الهتافات الثورية, تكره الحروب والكذب وتركض خلف الديموقراطية لكنك وسط كل هذا اصدرت علي حكم ديكتاتورية صوتك وضعتني تحت الاقامة الجبرية لعينيك. من سواي انا كان يسمع الالحان التي تنساب حين تقبل كعصا مايسترو ماهر, من سواي كان يستنشق العبير الذي يفوح حين تحرك يديك بحماس وانت تتحدث عن احلامك فتعزف علي اوتار قلبي. ماذا اختلف بعد عقدان من السفر في العمر؟! الان صرت انت ذلك السياسي اللامع الذي يملأ صوته الفضائيات وكلماته الجرائد, اه من ذلك الصوت الذي كان لا يرتدى سوى الصدق ليحفر خربشاته بالنار علي ذاكرتي الان صار يحلل الوضع الراهن والمؤامرات الدائرة.

كنت تسألني متعجبا: لما لا تطيلي الحديث و لما تتركيني انا اتحدث كل الوقت ؟!

وكنت اجيبك بسؤال اخر: اتعرف كيف استمع أنا إليك؟! .. فأنا لا استمع إليك بكل حواسي فقط, بل كل ذرة في وجداني تصغي إليك في ولع. فحين تتحدث تقف كل ذكرياتي واحلامي كطلاب منتظمين في صف. كجياع منتظرين وقت الطعام.. حتي الافكار التي تتصارع داخلي و الكلمات التي تشتعل داخل رأسي في حرب لا تهدأ تعلن الهدنة حتي تتفرغ للاصغاء إليك أنا اسمع ما تقوله و ما يقوله صوتك و ما يدور في عقلك و لا تقوله.. استمع إليك كأني لأول مرة اكتشف انني لدي اذان.. و كأني طفل لأول مرة يعي مذاق الكلمات, كأني اكتشفت هواية جديدة.. فكيف يمكنني قطع هذا الهدير لاتحدث انا باي كلام ؟! من الطبيعي ان اسكت حتي يواصل ذلك الهدير بوحه.

يا ترى هل هو نفسه صوتك الذي يتعالى في البرامج الحوارية الان!.. صوتك الذي تخلى طوعا عن مبادئه السابقة امام بريق السلطة.. هل هو نفسه صوتك الذي تردد صداه في قلبي منذ عقدان من السفر الطويل؟! هل هو نفسه صوتك الذي كان يشعل المظاهرات الجامعية مطالبا بالعدل والمساواه؟!

كنت دائمة الاسئلة وكانت تأتي كلماتك لتغطي كل مساحات استفهامي وتستر جسد التعجب. ذات مرة سألتك: تري لماذا العصافير في بلادنا رمادية؟!, اذكر جيدا انك للتو اجبتني بثقة: لان الحرية في بلادنا رمادية الاجنحة, وثمن الحرية في بلادنا ان تبقي رمادية. ما بين البين وسط كل شيء فاتر المعاني, كفنجان نصف فارغ. وقدر من يطالب بها ان يحارب شريعة القبيلة رمادية الاحكام صريحة الطغيان..

والان عدت لأجلس علي طاولة امامك في هذا المطعم الفاخر. و كأني تركت مكاني منذ خمس دقائق. لكن من المؤسف ان اخبرك ان هذا الكيان الجالس امامي في المطعم الفاخر ما هو إلا نسخة مكررة من هؤلاء الذين كانوا يثيرون غثيانك في الماضي!!  ليتك احتفظت برماديتك ولم ترتدي تلك الالوان الفاضحة.. لون الدماء والجوع!! صرت تتحدث بلسان الفقراء في الفضائيات لكنك تأكل على كل الموائد, تضبط رأيك حسب الوضع الراهن, وتبدله من النقيض الي النقيض كما تبدل ربطات العنق الفاخرة, كل مبادئك وافكارك النظيفة سقطت منك تباعا حين غرقت في هذا العالم المفروش بالأكاذيب والحديث الخاوي من الحقيقة و كنت انا واحدة من مبادئك التي تخليت عنها وقت الحاجة. والان كم اود لو اخبرك انك قد صرت شخصا اخر, لكن اظن إن حدثتك الان فلن تعرفني ذاكرتك, فقد انطفأت عيناك القديمتان وحل محلها عينان تتصيدان التهام اعدائك, ورحل صوتك الاول وقد خيم النفاق علي لمعانه.

فهل أنت حقاً أنت؟!

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز