عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

حــســـن زايــــد .. يكتب : مـن الــدروس الـعـمــريـــة

حــســـن زايــــد .. يكتب : مـن الــدروس الـعـمــريـــة
حــســـن زايــــد .. يكتب : مـن الــدروس الـعـمــريـــة

 
تناولنا في مقالات سابقة ، مسألة التسريبات الهاتفية ، التي وجدت طريقها إلي الفضائيات ، باعتبارها سبق إعلامي ، ومن ثم أصبحت مادة خصبة لاجتهادات وتخمينات مواقع التواصل الإجتماعي . والواقع أنني انحزت إلي جانب الضرورات الأمنية الملجئة ، إذ كيف للأجهزة الأمنية الإضطلاع بدورها ، في متابعة الأنشطة الإجرامية ، والتخريبية ، والإستخباراتية ، في ظل حروب المعلومات المعولمة في الوقت الراهن ؟ ! . إن القول بإقصاء الأجهزة الأمنية عن هذا الجانب هو درب من الخطل ، إذا أردنا حماية أمن الدولة ،



والحفاظ عليها من الإختراقات المحتملة من القوي المعادية ، والمتنافسة . قد يذهب البعض إلي القول بأن التجسس ، والتنصت علي أجهزة العصر الخاصة ، فضلاً عن كونه انتهاكاً دستورياً وقانونياً ، فإنه نقيصة أخلاقية مرذولة . وقد يبدو قولاً له وجاهته ، وقد يكون منطلقاً ذهبياً لمهاجمة أجهزة الأمن . إلا أن هذا القول يتصادم مع قاعدة أصولية ، مفادها أن : " الضرورات تبيح المحظورات " ، وكذا القاعدة التي مؤداها : " ما لا يلزم الواجب إلا به فهو واجب " . ولا أقول ذلك انسياقاً ،

في إطار تبريري ، للأجهزة الأمنية . وفي الإطار ، لا يمكن واقعياً، أن تغل اليد خلف الظهر ، ثم يطلب من صاحبها التصرف ، إذ لابد من تكافؤ السلطة مع المسئولية ، حتي يتسني العمل بالكفاءة والفاعلية المطلوبة . وأظن أن الظروف الموضوعية ، التي يتوفر فيها شرطي الضرورة واللزوم ، قد توافرت كافة عناصرها ، مع ما ضرب أطناب الوطن ، فيما عُرف بثورات الربيع العربي . أما في الظروف العادية ، فيلزم إذن القاضي المختص ، حتي ينتفي من روع المواطن أنه مراقب ، لغير أسباب موضوعية ، وهذه الشعرة الدقيقة يتعين مراعاتها ، حتي لا نفقد الثقة المجتمعية اللازمة ؛ لتماسكنا ، وتكاتفنا مع بعضنا البعض . ولا تلزمنا أمثلة من الخارج ، لنستدل بها علي أخلاقية التصرف ، لأن الأصل في الأخلاقي واللأخلاقي ليس فعل الغير ، وإنما الأصل العام . وتحضرني هنا واقعة تاريخية ،

عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، إذ خرج ذات ليلة ، وبرفقته عبد الله بن مسعود ، يعس بالمدينة ، متفقداً أحوالها ، وحراستها . والمدينة في الليل تغط في الظلام . وبينما هما كذلك ، لمح عمر كوة مضيئة ، في حائط بيت بعيد ، فأمر عبد الله بن مسعود بالبقاء مكانه ، حتي يستطلع الأمر ، ويقف علي الحال . وعندما دنا عمر من البيت ، سمع صوت رجل يتغني ، فتسور عليه البيت ، أي قفز من فوق السور ، كي يدنو أكثر ، فوجد باب البيت مجافياً ، أي موارباً ، فدفع الباب فانفتح ، فإذا بشيخ جالس ، وبين يديه شراب " خمر " ،

وقينة تغنيه ، فلم يشعر بدخول عمر رضي الله عنه . قال عمر : " ما رأيت كالليلة منكرا أقبح من شيخ ينتظر أجله " . فرفع الرجل رأسه قائلاً : " بلى ، يا أمير المؤمنين ، لا تعجل علي ، ما صنعت أنت أقبح . إن أكن عصيت الله واحدة ، فقد عصيت الله في ثلاث ، قال تعالى : ولا تجسسوا ، وقد تجسست ، وقال الله عز وجل : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ، وقد تسورت علي ، ودخلت علي من ظهر البيت بغير إذن ، وقال الله عز وجل : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ، فقد دخلت بغير سلام " . فخرج عمر رضي الله عنه ، يعض علي يديه وهو يبكي قائلاً : " ثكلت عمر أمه ، إن لم يغفر له ربه " . ولم يسمع أحد من أهل المدينة ، بهذه الواقعة . وقد كان الرجل يعيش مستخفياً ، خافياً ذلك عن أهله ، وكان يقول في نفسه : " الآن رأي عمر ، فيتتابع فيه " .

وقد دفعه الخوف إلي هجر مجالس عمر حيناً . ثم عاد يرتادها مستخفياً ، فبينما عمر رضي الله عنه ، بعد ذلك ، جالس بعيداً ، جاء الرجل ، وجلس في أخريات الناس ، فرآه عمر ، فقال : " علي بهذا الشيخ ". فقيل له : أجب . فقام الرجل ، وقد وقع في روعه ، أنه مفضوح لا محالة ، وأن عمر سينبئه بما رأي علي رؤوس الأشهاد . فقال له عمر : " ادن مني " . فما زال يدنيه حتي أجلسه بجانبه . فقال عمر : « أدن مني أذنك ، فالتقم أذنه » ، فقال : أما والذي بعث محمداً بالحق رسولاً ، ما أخبرت أحداً من الناس بما رأيت منكرًا ، ولا ابن مسعود ، فإنه كان معي . فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ، أدن مني أذنك ، فالتقم أذنه ، فقال : ولا أنا والذي بعث محمدا بالحق رسولاً ، ما عدت إليه حتى جلست مجلسي ، فرفع عمر صوته فكبر ، ما يدري الناس من أي شيء يكبر . والشاهد في هذه القصة ، أن الأمن ضرورة حياة ، وأنه شقيق الطعام ،

قال تعالي : " الذي أطعمهم من جوع ، وأمنهم من خوف " . وأن أمير المؤمنين عمر قد مارسه بنفسه . وأنه حين مارسه ارتكب مخالفات شرعية أشار إليها الشيخ ، وأن الخطأ في الإجراءات لم يرتب عقوبة ، رغم وجود المخالفة ، وأن الستر مطلوب ، لسلامة المجتمع ، حتي لا تشيع بين أفراده الفاحشة . وأن المخالف لا تصل به مخالفته حد الفجور، وأن يلتحف بالحياء ، ويتدفأ بالتوبة والإستغفار . ونعود إلي قضية التسريبات لنقول ، أنه لا غضاضة ، من المراقبة ،والمتابعة ، والتسجيل ، طالما كان ذلك بإذن من القاضي المختص ؛ لضمان سلامة الإجراءات ، وعدم انتهاكها للحصانة التي تتمتع بها الحياة الخاصة .
 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز