عاجل
الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

د.عزة بدر تكتب : قطة مغمضة

د.عزة بدر تكتب : قطة مغمضة
د.عزة بدر تكتب : قطة مغمضة


إنها المرة الأولى التى تحررنا فيها من عالم البنات!  المرة الرائعة التى أود من كل قلبى أن تتكرر فبت أحلم بها، بخروجنا معا أنا وصديقتى وثلاثة طلاب من المدرسة المجاورة، أستعذب الآن أن أهمس لأوراقى بأسمائهم.. عائد، ومالك، وشهاب.
كانت تلك فكرة صديقتى زينة، هى تحب «عائد»، وطلب إليها أن يخرجا سويا، لم يكن هذا لائقا من وجهة نظرها، كانت تريد أن يتعارفا من خلال مجموعة من الأصدقاء، ولم تجد سوايّ يوافق على الصُحبة، وافقت لأنى كنت أدخرها ليوم ما مشابه إذا خفق قلبى لأحدهم، لهذا السبب تجاوزت عن جفوتها طوال الاجازة الصيفية بعد عام دراسى شاق، سنحقق أحلامنا معا، نتعرف على عالم الرجال، ندخله من أوسع الأبواب، هى من باب «عائد»، وأنا من باب المغامرة لأتعرف أكثر على عالمهم الغامض، يخرجون بحريتهم، يمكنهم أن يبيتوا فى أى مكان، أن يرتادوا المقاهى والكافيهات فى أى وقت، أن يدخنوا السجائر أمام الجميع على ناصية الشارع، وأن يجلسوا على رءوس السيارات، ويصفِّروا للبنات، وللعابرين، وللدنيا .
وكما يحبون ينطلقون على غير هدى، يقذفون بعلب المياه الغازية المعدنية، يركلونها بأقدامهم، يهشمونها أو يضغطون عليها بيد واحدة فتصبح مثل ورقة تالفة، تتبدى عضلات بطونهم six packs يفتحون أزرار قمصانهم إلى المنتصف فتتدلى سلاسل عريضة خشنة يعلقون فيها جماجم من عضم أو أفراس نهر، يعقدون على رءوسهم عصابات ملونة كقراصنة تائهين من سفنهم فى أزقة وشوارع المدينة.
أنا وصديقتى الآن من حسناوات الربان الفائز.. ترى سيكون عائد أم مالك أم شهاب؟
لابد أن أستبعد «عائد» من البداية لأن صديقتى تحبه، ثقتها بى تجعلنى لا أنظر تجاهه أبدا، أتحرج من الجلوس بجانبه أو التحديق فى قميصه المفتوح على خيمة من شعر.
هكذا بصدور عارية  «shirtless»، يواجهون العالم، أسأل أمى لماذا لايكون من حقنا أيضا الخروج بلا غلالات؟
لماذا لانكشف نهودنا مثلهم؟ للضوء، لنور الشمس، للقمر، للظلال، لأوراق الشجر، للندى، لمناقير الطيور العابرة.
لماذا؟ ..... لماذا؟
فتشير إلى المنطقة التى تمتد من سُرتها إلى فخذيها، وتقول:
- يمكنهم ذلك من هنا إلى هنا!
فأقول لها: ونحن ؟
فتقول: لنا أن نكشف وجهنا وأيدينا، وتشير إلى وجهها الذى تنسدل على جنباته خصلات شعرها الغزير كشلالات عارمة، وتشير إلى كفيها رغم أنها تخرج بفساتين قصيرة تكشف عن استدارة ركبتيها، وعن ساقيها البضتين، أراهما مغروستين دائما فى جوارب ناعمة من «الفوال».
هل تعيش أمى ازدواجا ما ؟ ... تناقضا عميقا تقول فيه ما لاتفعل !
استبقنا الموعد مع الفتيان، إعدادات طويلة.. مراسيم.. الذهاب إلى الكوافير، اختيار تسريحة شعر مناسبة، البحث عن الجديد فى محلات الملابس، أحدث بنطلونات جينز الـripped ، الصديريات التى تغطى النهدين، والسُرة وتتدلى حرة على الخصر. 
حيث ارتداء الغلالات فقط تحت هذه الصديريات ذات الحمالات.
الأمهات غالبا ما يعترضن ثم يستسلمن، يردن أن نتدثر وكأننا فى عز الشتاء! 
أمى تقترح عليّ ارتداء فستان، ضحكتُ، كنت أريد أن أسألها، متى كانت آخر مرة شاهدت فتاة فى مثل عمرى ترتدى فستانا؟
كان كل شىء متسقا، شعرى منسدلا، ذراعايّ عاريين، فمى مصبوغا، عيناى مكحولتين ومظللتين، وعطرى فاغما .
وأمى تهتف : « أرسلى اسم المقهى الذى ستذهبون إليه، ومكانه، أرسلى أرقام التاكسى الذى ستركبينه على رسائل الموبايل على أساس أنى ذرة هائمة فى الكون!
التقينا، مضينا معهم ، كنا نمشى بثقة، أسمع فى هدأة الليل خطوات عائد ومالك وشهاب .. ترلم .. ترم .. ترلم، خطواتى أنا وصديقتى «زينة».. تك.. تك.. تاك.. توك!
 نسير فى الليل، فى الأزقة الجانبية حيث العتمة بلا قمر، بلا ضوء، بلا خوف، نسير معهم، نبادلهم ودا بود، ثقة بثقة، صداقة بصداقة، خطواتنا معا.. ترلم .. ترلم .. تك . تك، ترم.. تاك.. توك .
فى أذنى موسيقى كونية جديدة.. خطوات آدم جديد، وحواء جديدة 
الخروج الأول من جنة مدارس البنات إلى أرض آدم التى اختارها وصنعها على عينيه .
تأملنا وجوههم اللامعة، أصابعهم وهم يطفئون السجائر فى أكواب النسكافيه، يضحكون ويلقون بنكاتهم الجريئة 
- انت ولاحاجة!
- ليه بس كده يا أسطى!
نسير معهم فى الليل إلى حدائق بعيدة، ننشق عطر ثمارها الدانيات فى سلال امتلأت بحظها من النجوم، فى شبكات امتلأت على أتم مايكون بالسمكات.. كم كان ذلك رائعا، لم يكن ينقصنا شىء سوى أن نتعانق، نتلامس، نتماس، نتحاذى، ونتوازى، ونتقاطع، ونتحاضن، ونتفارق.. أينك يا أمى؟!
- وكأننى الآن أرى الشق العميق فى شفتيك الذى يهمس بما ليس فى داخلك، الجرح العميق الذى لايلتئم.
سرنا فى الحديقة تحت جناح الليل ثم جلسنا على العشب الندى، غافلنا حارس حديقة الڤيلا الضخمة التى اكتشفناها تنمو على الطريق للتو، فلما رآنا رشوناه بقليل من النقود، وحبات الفول السودانى فمضى يتقافز أمامنا كالقرد.
كان كل شىء مسليا يحمل طعم المغامرة.
قال عائد: فى هذا المكان رأيت رجلا نصفه من لحم، ونصفه من دخان فصفقنا انبهارا .
وأشار مالك إلى نافورة مهجورة  وقال: فى الليل.. فى عمق الليل تخرج امرأة عارية، من فمها ينبثق الماء، وعملات معدنية كان يلقى بها العشاق حتى لايفترقوا أبدا.
تماست ذراع زينة وصدر عائد فانطلقت شرارة كونية لمحنا آثارها وهى تندفع كالبرق فى السماء.
قال شهاب: لنلعب لعبتنا المفضلة 
فقلنا فى صوت واحد: 
never have I ever 
ماما هذه اللعبة تعنى هل سبق لى أن فعلت ذلك؟ وهى لعبة من قواعدها الصراحة التامة.
بدأ عائد اللعبة بسؤال: هل سبق أن دخنت السجائر ولو حتى سيجارة واحدة؟
من فعل ذلك يرفع إصبعه.
رفع مالك، وشهاب ثم عائد أصابعهم ثم رفعت إصبعى 
نظرتُ إلى زينة، لماذا لم ترفعى إصبعك وقد دخَّنا معا أول سيجارة؟!
احمرت وجنتاها وهى تنظر إلى عائد، وقالت بسرعة 
- لم أدخن أبدا ولاحتى سيجارة واحدة 
هكذا فى لحظة أنكرت وكذبتنى، هكذا فى لحظة تدخل عالم الكذب! وصارت لاترفع أصابعها طول اللعبة كأنها لم تفعل شيئا أبدا، كأنها لم تعش أيضا، مجرد صفحة بيضاء.. قطة مغمضة.. أنا فقط التى دخنت، واحتفظت فى جيبى بما أجد تحت قدمى من مشابك غسيل ملونة ألتقطها من على الأرض أنى وجدتها، أنا وحدى التى آكل حبات المانجو، وأجفف ما يبدو منها على شكل قلب، أنا وحدى التى وضعت صحن الزبيب فى حرارة شمس أغسطس ليختمر، وأعرف ما الخمر؟
أنا وحدى التى تتساقط أصابعى واحدا .. واحدا كأوراق الشجر بقدر ماعشت، وغامرت، وأحببت، وقامرت، واكتشفت، وهى قطة مغمضة!
خيَّّم السكون علينا بعد كذبتها، تململ عائد، وكان الصدق يملأ صناديق قلبى، وكان فمى رطبا بثمر الصدق، لقد دخَّنا أنا وزينة معا أول سيجارة، حقا لم أكرر ذلك مرة أخرى لأنها أحرقت شفتى، كانت سخونة الفلتر قاسية كما لو كانت جمرة مشتعلة بين شفتيّ، والدخان يخنقنى مثل ماعز تتردى نطيحة من عل، وكأن كل شىء فيّ يحترق، ورائحة مثل رائحة احتراق أوراق الشجر تمسك بملابسى وشعرى.
لعبت اللعبة حقا  never have I ever  وها أنت يا أمى تدافعين عن زينة التى تكذب، زينة التى لاتعرف أن الكذب ليس له قدمان.
وها أنت يا أمى تقولين: كيف تلقين أسرارك وأسرار صديقتك فى لعبة، وأمام الغرباء؟!
اللعبة كانت هكذا يا أمى أساسها الصراحة، ومن هم الغرباء؟ 
عائد حبيبها، ومالك وشهاب من أصدقائنا.. أين الغرباء؟
تغيرت الدنيا، البنات الآن يدخن النارجيلة وهى تنكر على نفسها سيجارة، أنا لا أقول أن هذا أمر طيب أو صحى ولكنه قد حدث، واللعبة هكذا never have I ever  لقد عرفها عائد على حقيقتها بل ربما يكون معجبا بى لأننى لا أكذب لكنى لم أنظر أبدا إلى فتحة قميصه.
لم ألمس طرف السلسلة التى تتدلى من عنقه لتلامس حبة قلبه لأنى لا أريد لزينة أن تحزن.
تسأليننى عن شعورى الآن بعد كل ما حدث؟ 
لم يعد العالم رائعا كما بدا يا أمى، لم تعد هذه المرة التى عرفنا فيها عالم الفتيان ممتعة، لم تعد موسيقاها تتردد فى نفسى لأن زينة اقترفت الكذب، وأفسدت اللعبة، أصابعها لم ترتفع مرة واحدة! لم ترتكب خطأ واحدا! فإذا كانت الأصابع المخبوءة معيار البراءة من وجهة نظرها فلماذا لم تظهرها؟
المخبوء كذب كله.. ولن يكون أبدا معيارا للبراءة بل بقدر ما عشنا وأخطأنا، واعترفنا، وفرحنا وبكينا، وصرخنا وهتفنا فى وجه الريح، ونظرنا فى عين الشمس، بقدر الصدق تكون البراءة.
عزيزتى أمى
عزيزتى زينة
بوركتما قطتين مغمضتين 
واللعنة لى 
اللعنة الرائعة بسبب كل خطأ رائع يعلمنا المعنى الحقيقى للبراءة . •
 



تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز