عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

مارينا فارس تكتب: وطن في حقيبة

مارينا فارس تكتب: وطن في حقيبة
مارينا فارس تكتب: وطن في حقيبة

يقولون للأماكن ذاكرة, وأن الوطن ليس رقعة أرض في خريطة, بل هو مساحة أمان تقاسمك نفسك. عساها مساحة صغير جدا, لكنك تجد فيها متسع لأحلامك, ومسرح لشجونك.تجدها تحتويك كوردة بين صفحات كتاب قديم... للقلوب اوطان ايضاً وللشرايين عناوين لا تضل، ولنور الروح وطن لا يخان...نعم, للأشياء والأماكن روح وذاكرة تحفظ الحكايات حتى وإننسيناها نجدها تنبعث بكل الحياة بمجرد أن نخطو فوق مسرح الذكريات, نجدها في حجرات القلب قد نفضت عنها أتربة تتابع الأيام ووقفت كيان ملون لامع وكأنه جديد وطازج وحافل بالحياة. حقا للأشياء ذاكرة وللعطور خبايا لا تنتهي, ثمة قصة تختفي كلها في زخة عطر, أو سوار يلتف حول معصم تماما كما تمسك الذكريات بشرايين القلب, أو عله مجرد باب قديم متهالك تقف خلفه مئات الحكايات الصغيرة. عندها أبسط الأشياءوأكثرها عادية يمكنها ان تقيم عواصف واعاصير عاطفية, في حسابات الذكريات يمكن لمقعدين متجاورين في حديقة مهملة ان يصيران اشهى من أجمل عواصم العالم. وان يكونوا وطن لقلب,أو قوت لروح نابضة..



كل ذلك جال بخاطرها وهي تتحسس صفحات الكتاب بين يديها وتداعبه كوليد باسم بين ذراعي امه.. تشم رائحة الأوراق في تؤدة وتقلب الصفحات في فخر وإجلال. بل كانت هى التي تتقلب بين الصفحات. لطالما احبت رائحة الكتب. لطالما قالت إنهارائحة الحكايات والذاكرة, تماما كرائحة الارض التي تحمل لك الخير والنماء. كانت الكتب الورقية هي المفضلة لديها. فماذا يدعي هذا الكتاب الإلكتروني الابله الذي لا ملمس له ولا رائحة؟! هذا الذي يجمد المشاعر علي الشاشة. لطالما قالت ان الكتب هي كائنات حية، لها حكايات تصطخب بالحياة وتضج بالمشاعر المتناقضة. فالكتب كالبشر, معظمهم يمر مرور الكرام, عابرون مجرد عبورهم ينسينا ملامح وجوههم, وآخرون يضيفون سطور في قصتنا فتصير لهم الفة الاصدقاء, نتعلق برائحة الاوراق وملمسها وصورة الغلاف, نعلقهم على مشجب ذكرياتنا. ومن الكتب الاقلية الباقية, هؤلاء الذين يعصفون بالوجدان و ينزرعون في العمر كسيف. ورغم رحيلهم يبقي حضورهم طاغ, و كلماتهم تتردد صداها, وها هي تمسك بوطنها بين يديها.. ها هي تتأمله كسر عظيم لا تبوح به شفاه الذاكرة.. ها هي لا تصدق انه قد أهداها كتاب يحبه وطالماأخبرها عن تعلقه به. تتابعت على وجهها انفعالات العاصفة فاحمرت وجنتيها من شدة ما اشتعلت داخلها من مشاعر. ستبقي تتذكر تلك اللحظة التي توقف عندها الزمن, تفتش عنها في ذاكرتها كطفل ضائع يبحث عن وجه امه بين وجوه النساء. حين قام من جلسته المعتادة ووقف امامها تماما, رفعت رأسها لتحدث الصاعقة التي تخترق كل وجدانها في كل مرة تتمكن من رؤيةعيناه عن قرب. مد لها يد تحمل الكتاب فامتدت يديها على خجل تمسك بالكتاب ثم تعيده لتخفيه في حقيبتها وكأنها قد قامت بأعظم انتصاراتها. اخفته في حقيبتها وأغلقت فمها علي الحكاية. فقد كانت تشعر انه إذا رأى أحدهم الكتاب سيرى وجهه بين صفحاته تماما كما كانت تخشي ان تهرب من حلقها فراشةوهي تنطق اسمه.

حملت هديتها الثمينة داخل حقيبتها, تسير في الشارع بفخر وكأنها تحمل سلة من الأقمار النادرة. وأخيرا خلت إلى نفسها فيمقهى نائي, طلبت قهوتها دون سكر, فهناك أشياء تكمن روعتها في مرارتها, كان يوم ماطر  والرياح قويه لكنها كانت تسمعها قهقهات أطفال, كانت الشمس مختبئة خلف الغيوم لكنها كانت تراها حبة قمح تتدثر بحلوى غزل البنات فاختارت لنفسها طاولة قرب النافذة التي يغسل زجاجها المطر, وبهذا تكون قد اعدت لنفسها طقوس الاحتفال وجلست تقرأ الكتاب وتقلب الصفحة تلو الأخرى, لم تكن تقرأه بل كانت تلتهمه بعينيها الجائعتين. لم تكن تفهم شيء مما تقرأ من فرط انفعالها. بل كانت فقط تريد ان تمر بعينيها علي السطور ذاتها التي قرائها هو.

لا تدري كم من الوقت مضى وهي تمسك بالكتاب لكنها انتبهت اخيرا انها مازالت تحيا على الأرض وانها مازالت تدور دون كلل وان الشمس قد تزحزحت عن عرشها واوشكت علي المغيب معلنة انتهاء اليوم وحفلة الشوق المعدة للاحتفال بالكتاب, فمن الافضل الان ان تعود كل منهما الي بيتها. دست الكتاب في حقيبتها وغادرت المقهى وهي تسير بفخر كأنها تحمل سلة من الاقمار النادرة, تحمل وطن في حقيبتها الصغيرة.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز