عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

رشا بكر تكتب: سارة

رشا بكر تكتب: سارة
رشا بكر تكتب: سارة

تلعب سارة الحجلة وسط الحارة، ترمي بحجر فيستقر في الخانة الرابعة، تفرد ساقًا وتثني الأخرى فتتحنجل داخل الخانات، ساقا سارة بوصيَّتان كعودين من الخيزران، تثب على قدمها الصغيرة، وانطلقت أظافر الأقدام الحافية تخمش التراب خمشًا كفرخٍ صغير.



 
بوغتت بصوت زوجة أبيها يأتي من داخل المنزل يخترق أُذنيها: " بت يا سارة.. انتي يا مزغودة ردي"!

فهلعت وركضت ركضًا إلى الداخل.


كانت ميرفت تنادي وهي ممسكة بيدها اليسرى مرآة صغيرة، وبيدها اليمنى ملقاطًا لنتف حاجبيها، تنتف وتنتف حتى تجعلهما "على الشعرة".


يرتعش جسد سارة  الهزيل ويهتزّ وبداخلها حنق العالم كله، تسرع نحوها، ولما وقفت أمامها قالت بصوتها اللعوب القاسي "كنتي في أي داهية"؟

- "كنت بلعب الأولى".


وبمجرد أن سمعت ميرفت كلمة لعب! ماذا؟ كيف؟ لعب؟ لا ينبغي عليها اللعب.. هي هنا للخدمة والتعذيب، إما تزهق وتأخدها خالتها لتنفرد ميرفت بالبيت والرجل، وإما يأخدها الله وترتاح.


اشتاطت زوجة الأب وخلعت فردة شبشبها الثقيل وانهالت على جسد سارة.. ارتمت سارة تتلوَّى تحت أقدامها والشبشب يرتفع ويهوي على جسدها الهزيل.. وكانت تلهث وتعوي عواء مكتومًا كالقط الجريح والشبشب يشق الهواء ويعوي هو الآخر..

سارة صرخاتها تتساقط مفزوعة في الأرض تتلوَّى.. وميرفت تفش غلًّا فطريًّا معششًا بين طيات صدرها كالجحيم، سارة تريد الحياة، تطلب النجدة صارخة، لكنها كلما صرخت أكثر اشتدَّ رتم الشبشب وصار أسرع، حتى تعب الشبشب وأوشكت سيوره أن تنقطع.

لم تنهض ميرفت من فوقها عندما تناهى إلى سمعها صوت سارة المتقطع بين نشيج بكائها يزوم تنذرها: "قلبي هيقف.. قلبي هيقف.. هموت وهتروحى السجن.. كفاية بقا".


رمت ميرفت فردة الشبشب على الفور من يدها  وأعادتها إلى قدمها، ثم أشارت بيدها تجاه طاولة الطعام تزأر:

- قومي فزِّي خدي الطبق وروحي هاتي الفول.. وصرخت من حلقها: يلا أبوكي زمانه جاي.

نهضت سارة واستجمعت نفسها وعيناها تطفح بالدموع، وكان المخاط تحت أنفها يسيل، مسحته بفس مكسورة.

تلهث صهدًا وتزفر صهدًا.. عروقها تنحر تشد جسدها الهزيل، فيستقيم، وتجره خلفها وتتجه نحو المائدة الموضوع عليها الطبق، تلاحقها ميرفت بالأمر: اقفي قدامي هنا.


تقف سارة أمام ميرفت وبيدها صحن الفول، تمسكه بحرص شديد وميرفت تفركُ أُذن سارة التي كانت تئن فى كتمان، ثم بصقت زوجة الأب على الأرض بصقة، استقرت بين قدميها وتلت المحاذير:

- الطبق تمسكيه كويس.. ده صيني عمر أمك الفاجرة ما تعرف تجيبه.. وشايفة التفة دي؟

وتفرك أذن سارة..

- شايفاها؟ اعملى حسابك تيجي قبل التفة ما تنشف.. اعمليك همة أبوكي زمانه جاي.. اجري.. طيري.

- حاضر.

خرجت الكلمة ممطوطة وهالعة.

تئن سارة من الألم، ففي كل مرة تحاول أن تشتكي لأبيها يقف الكلام فى حلقها.. تلهث وصوت لهاثها يختلط بالكلمات وتتشابك الحروف تتصادم تتقافز من فمها مع نظرات ميرفت المتوحشة لها .

بتثاقل ودلال تتمطى ميرفت ..

يااااه.. كم من مرة حاولت سارة أن تشكو ولكن فى النهاية يأتي الحق عليها، كم مرة سمعت زوجة أبيها ليلًا واثناء غيابه تساير وتتهامس مع رجال أغراب عبر الهاتف الصغير الذي تضعه في صدرها، اشتراه أبوها لها بدلا من شراء حذاء لأقدام سارة الحافيتين.. إنها امرأة غير مخلصة، والشكوى لا فائدة منها مع أب يريد أن يأتي إلى البيت ليريح رأسه وأعضاءه!

 الشمس تقدح فى البعيد، سارة تجري وهي خارجة من البيت إلى الحارة، تجري إلى الشارع، القرية بيوتها كابية فقيرة ومتناثرة مرمية بلا هدف.. بقع إسمنتية بارزة بناها جني أمرد فى الليل وجرى لاهثا وسط المزارع فى عجل.. وهي تجري  وتطير، تعبُّ الهواء فى جلبابها فينتفخ وتسبح في الفضاء.

وميرفت تقف أمام تسريحتها وتنظر للمرآة لتطمئن، فالصدر مرتفع ورجراج، والبطن طرية، والوجه حلو، ملست بيدها على شعرها في حنان، واستندت لتنظر مؤخرتها في دلال.

الشمس تقدح في السماء والأب قد أنهى عمله بعد جهد جهيد، صار طوال الليل في نقلة قريبة، مسح شاربه وهو يدير مفتاح عربته النصف نقل، فدارت واهتزت العروسة الصغيرة المعلقة أمام عجلة القيادة، وتأرجح ساقاها، فتذكرسيقان ميرفت التي أرهقته كثيرًا في محاولة اللحاق بها وما زالت ترهقه .. جميلة ميرفت.. وظل يفكر فيها طوال الطريق!

سارة تجري وتطير، لمحت عربة الفول، ركضت مسرعة تعبر الشارع..

والأب يسرع ويقترب من منزله، وما زال ينظر للعروسة ويتذكر ميرفت، إنها من أهل البندر، ليست كوجه الغراب بوز النحس الهبلة زوجته الأولى أم سارة، ميرفت من عائلة كبيرة، أقدامها جميلة، أظافرها ملونة دائما بطلاء أحمر،  ميرفت عيناها سوداوان وساقاها بضَّتان  و.. و.. وداس بنزين أكثر، والعروسة تتراقص، كم هي دافئة ميرفت!

ولكن كثيرًا ما تغضب، كثيرًا ما تتدلل وترفض أن تسقيه رشفة من رحيق أنوثتها، وينام ونار الرغبة تأكل جسده.

يقترب فى سعادة بالغة مسرعًا، ومد يده من نافذة السيارة ليلفها الهواء المنعش، ثم تحسَّس كيسًا من البلاستك كان بداخله قميص نوم أسود اشتراه لميرفت.. ياااه ستكون ليلة و...

وس.. وف...

 كان يحاول الضغط على الفرامل، ولكن كان متأخرًا، كان متهورًا، كان أعمى.. لا فائدة.

فقد ارتطمت السيارة بجسد سارة الصغير، فطار في الهواء دورتين ثم انزرعت على رأسها، أوقف السيارة وجرى لاهثا وأمسك سارة بين ذراعيه وخيط الدم ينبثق من طبلة أذنيها، طاردًا معه صوت زوجة أبيها الكريه.

ارتعد الأب ودارت به الدنيا ولفت..

سارة!

ترتعش جفونها وغامت عيناها، كان شيء دافئ يسيل على جسده، كان دمها لزجًا.. فوَّاحًا.. ساخنًا، بل كان أكثر سخونة من جسد ميرفت.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز