
مصطفى سيف يكتب: ثقافة التعايش في المسرح الإسرائيلي

الأدب ليس بمعزلٍ عن السياسة بأي حال من الأحوال؛ ففي النهاية يصوِّر الأدب وضعًا سياسيًا قائمًا، ويتناول قضية سياسية من منظور أدبي، حين يقرر الأديب أن يعبر عنه من منظور أدبي خالص، سواء أكان هذا الأدب؛ رواية أو مسرحية، أو قصة قصيرة، أو شعر سياسي.
هذا ما حاولت الدكتورة دعاء سيف الدين، الدكتور بكلية الألسن بجامعة عين شمس قسم اللغات السامية، توضيحه من خلال كتابها "انعكاسات مفهوم التعايش على المسرح الإسرائيلي" الذي صدر في معرض الكتاب هذا العام 2017م.
الكتاب يُصوِّر كيف تطور المسرح الإسرائيلي في تناوله للقضايا المُثارة على الساحة السياسية من صراعات داخل "إسرائيل"، وبصفة خاصة تناوله لصورة العربي خلال فترات مُعينَّة مرَّ بها الكيان الإسرائيلي منذ إقامته في عام 1948م، وحتى عام 2008م.
أرَّخت "سيف الدين" في كتابها لفترات تطوّر المسرح من خلال حرب 1948م، وهو نفس العام الذي أُقيمت فيه إسرائيل، ثم بعد ذلك حرب "الستة أيام" كما يصفها الإسرائيليون، أو "النكسة" كما نصفها نحن، مرورًا بحرب 1973م، والتي صححت من صورة العربي، وجعلت له تواجدًا في المسرح الإسرائيلي، وحتى عام 2008م.
المتُابع جيّدًا يعرف أن هذه الفترة ليست بالبعيدة في تاريخ "إسرائيل"، فالدكتورة دعاء سيف الدين، نجحت في تلخيص تاريخ المسرح الإسرائيلي كله في هذه الحروب التي مرَّت بها، وكيف أثَّرت على نظرة الإسرائيليين للعرب، والعكس، بل ونظرة الإسرائيليين لأنفسهم أيضًا.
أمَّا القضايا التي ناقشتها، فكانت بالترتيب؛ مفهوم ثقافة التعايش بين الإشكناز والسفاراد، والإشكناز هم اليهود الذين "هاجروا إلى إسرائيل" من غرب أوروبا، أمَّا السفاراد فهم اليهود الذين "هاجروا إلى إسرائيل" من الدول العربية، مستدلة بعدد من المسرحيات التي ظهرت في الفترة من 1948 إلى 2008، وتناقش قضية الصراع بين الإشكناز والسفاراد.
ثم بعد ذلك تناولت "سيف الدين" مفهوم ثقافة التعايش بين المتدينيين والعلمانيين في "إسرائيل"، ثم مفهوم ثقافة التعايش بين الأجيال وهم: جيل الآباء المؤسس لـ"إسرائيل"، وجيل الأبناء الذين ولدوا وعاشوا في "إسرائيل"، ثم بعد ذلك تناولت مفهوم ثقافة التعايش بين "اليهودي والعربي" في المسرح الإسرائيلي، وهو الذي أفردت له ما يقرب من مائتي صفحة من الكتاب الذي تبلغ عدد صفحاته 387 صفحة.
العربي في المجتمع الإسرائيلي هو "عرب 48" الذين بقوا في إسرائيل، ولم يتركوا بيوتهم وظلَّوا فيها، حتى بعد حرب 1948م، فالمسرحيات التي تناولته، بحسب ما أوضحت "سيف الدين"، فإنه قذر، وقديم جدًا، وقبيح، ومنحني، وبطئ، وسلبي، وغير ناجح على الإطلاق.
تلك النظرة التي وصف بها "دان أوريان" في كتابه "شخصية العربي في المسرح الإسرائيلي" هي نفس النظرة التي ظلت مصاحبة له على مدار عقود منذ الحرب، وحتى حرب 1973م، حسبما جاء في الكتاب.
وللذكر نقول أن أوّل مسرحية عُرضت في إسرائيل لكاتب عربي كانت مسرحية "التعايش" أو "דו-קיום" أوردتها "سيف الدين" في كتابها وكانت عبارة عن تناول لحياة عرب 48 في إسرائيل من خلال حوارات صحفية.
تلك النظرة تغيَّرت رويدًا رويدًا مع حرب 1967 ثم تغيَّرت تمامًا مع عام 1973م حتى أصبحت فكرة التعايش بين العربي واليهودي مُثارة بكثرة على المسرح الإسرائيلي.
ومن خلال المسرحيات التي أوردتها الكاتبة في كتابها؛ ثثير انتباه القارئ حول أن كل محاولات كُتَّاب المسرح كانت دائمًا تصب ناحية العلاقة العاطفية بين العربي واليهودي، والتي أحيانًا تصل إلى العلاقة الجنسية الكاملة، إلا أنَّها في النهاية تفشل لرفض الطرفين طبيعة العلاقة، وتحديدًا جيل الآباء في إسرائيل، الأمر الذي يقتنع معه القارئ أنَّه لا مفر من الحرب، حسبما رأى "سعيد" في رواية "عائد إلى حيفا" للأديب الفلسطيني الراحل، غسان كنفاني.
تحديدًا رواية "عائد إلى حيفا" أعاد صياغتها أديب إسرائيلي وهو بوعز جاؤون، والذي يُعَّد أشهر كُتَّاب المسرحية في "إسرائيل"، تحت مسمى آخر وهو "العودة إلى حيفا"، ولكن الفرق بين "كنفاني" و"جاؤون" أن الأول لم يرى أي حلٍ سوى الحرب، أمَّا جاؤون فحاول أن يجعل التعايش ممكنًا من خلال ما جاء به في المسرحية.
مسرحية "العودة إلى حيفا"، ومسرحية "الليلة للرجل" التي كتبها "موشيه شامير" الذي تُوفي في 2004م، يُعَّدا العمود الرئيس للكتاب، حيث تناولتهم "سيف الدين" بالتحليل النقدي من جميع الجوانب، من خلال الشخصيات، ومن خلال عرضهم على المسرح، ومن خلال لغة الحوار داخل النص المسرحي، وتقنياته، إضافة إلى ردود الفعل التي أُثيرت حول المسرحيتين.
انتهجت "سيف الدين" نهج البحث العلمي في كتابها؛ من خلال مقدمة تفي بالغرض الذي تريده من خلال تأليفها للكتاب؛ ثم بعد ذلك عناصر الكتاب، التي تناولتهم بالبحث، ثم بعد ذلك تناولت المسرحيتين اللذين ذكرناهما من قبل: "العودة من حيفا" لـ"بوعز جاؤون"، و"الليلة للرجل" لـ"موشيه شامير"، بالدراسة النقدية.
للوهلة الأولى تشعر من عنوان الكتاب أنَّه كُتب للمختصين في الشأن الإسرائيلي فقط، وتحديدًا في الأدب الإسرائيلي أكثر، ولكن اللغة السهلة والبسيطة وتوضيح المعلومات للقارئ الذي يقرأ لأول مرةٍ عن الأدب الإسرائيلي، تشعرك وأن الكتاب كُتب لأي قارئ بصفةٍ عامة، وهو ما يميز هذا الكتاب عن غيره من الكُتُب التي تحتوي على كلمات قد يجهلها البعض.
وذكرت في المقدمة: "لأول مرة في تاريخ الدراسات العبرية، حول العرض المسرحية لمسرحية "العودة إلى حيفا"، وعرض تقنيات العرض الإسرائيلي، وكذلك ردود الأفعال المتباينة حول العرض".
في وسط كل هذه الصراعات؛ اختارت "سيف الدين" أن تؤجل الحديث عن "العربي واليهودي" لحين الانتهاء من هذه المشاكل كلها؛ وربما ذلك نابع أيضًا من أن العربي لم يكن له أي تواجد في المسرح الإسرائيلي قبل عام 1973م، إلا فيما ندر والذي كان لا يتعدى 10 مسرحيات منذ إقامة إسرائيل وحتى حرب أكتوبر.
ترابط الأحداث وتشابكها وطريقة العرض يجعل القارئ لا يمل حتى يصل إلى آخر صفحة في الكتاب؛ خصوصًا أن الكتاب علمي بحت، ويتعلق بداخل "إسرائيل" الذي ربما لا يلتفت له الكثير على الرغم من أنَّه أحد الأسباب التي تجعلنا أقرب من العدو فنعرف كيف يفكر من خلال كُتَّابه وأدباؤه.
في النهاية؛ الكتاب يُعَّد أحد الكُتُب الهامة التي تدرس إسرائيل من الداخل وليس من طريق السياسة، ولكن من طريق الأدب، ثم بعد ذلك طبَّقت ذلك على السياسة، وأثبتت بالفعل من خلال كتابها أن "إسرائيل" لا تريد السلام، ولا تريد التعايش مع العرب.