عاجل
الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

چيهان جمال تكتب: جرعة ذائدة

چيهان جمال تكتب: جرعة ذائدة
چيهان جمال تكتب: جرعة ذائدة

قصة قصيرة



أحياناً كٓثيرة يكون التأقلم مع  مصاحبة الوٓجع .. 
وٓجٓع أٓشد! 

حتى انه شيئ فشيئ يُصبح  هذا التأقلم  ثقيل على النٓفس .. كٓتِلكالواجبات التى نُجٓبٓر على القيام بها .. فٓتُصبِح سخيفة الاعتياد. 

وأحيان أُخرى قد يٓكُون هذا التأقلُم أٓشبٓه بِرحِلة .. قٓد يُرافقك فيهامٓجموعة من الأصدقاء الأوفياء حِين يٓعتنون جِداً بك .. 

لكِن بشرط أن تٓكُون أنت الآخر قد أٓحسٓنت ضِيافتهم . 

فلا بُد أٓن تٓكون معهم .. 

شٓديد الالتزام . 

 وشديد الاحترام بتلك المواعيد التي تٓجمعكم . 

مساء أحد الأيام .. 

يقف دكتور   " فؤاد”  مُندهِش  أمام العُمارة التي تٓقطُن بها عِيادته ، وشقته  التى  ظلت رفيقة  دربه  لأكثر  من  أربعين  عام .

وها هو  ككل  صباح  أو  مساء  يجد  قدميه تُحسّن  رفقته  فتتقدمخطوة .. ثم تٓخذُله  ، وتتراجع خطوات  . 

ليٓتوه  مع  كثير من الخطوات السابحة في بحور متلاطمة الأمواج ومع الذكريات .. ليرى مشوار حياته  وقد كان بعضه هاديءالترحال ، والبعض الآخر كان جرئ متحدى . 

ثم يٓترُك العمارة ،  ويسير هائم  .. إلى أن تأخُذه قٓدميه  ..إلى الجانب الآخر من الطٓريق .. وقد أثقلتها الذكريات .
 تٓلفٓح رائحة البحر وجهه الذي عٓاشت على ملامحه حتى تِلْكاللحظة كُل تفاصيل الحكايا
فٓيستعيد معه  نٓبض الحياة للحظات  .

ويٓزور فيها ذٓاك الزمن الطيب الذي تٓركه هو الآخر وولّى ٓ .

ثم يقف عِند هذا الكٓافيه الذى لم يٓزل يقف هو الآخر شٓامِخ فىمواجهة الزمن .. مُستشهِد بأمواج البحر التى راحت  ،  وجاءتبحكايا من مروا من أمامه  مرور الكرام  .. أو من جلسوا مثلهأمامه  العُمر كله  . 
اعتاد “فؤاد” الجلوس على هذا الكٓافيه .. كُلَّمَا هٓدّهُ الشٓوق أليها . 

نادية .. زميلتهم بالجامعة، كان الجميع يتحاكى عن جٓمالها ، وذكائها ، وشغفها بدراسة الطب ، وحُب الموسيقى   .. وهذا ماجمع ببنها وبين فؤاد .. “”الشِعر والموسيقى”” .
ففؤاد .. شاعر الجامعة  .. الذي  كان يٓشغل بال مُعظٓم زٓميلاته  ..إن لم يٓكُن يأسر  قُلوب جميعهن .
 إذ كان يُقيم الندوات الشعرية  ، ويٓحصُد الكثير من الجوائز أثناءالمُسابقات التي كانت تُقام على مستوى الجامعات .
كٓذلك كان هو ضمن مجموعة من الشباب الثوريين  ، ولكنه بالذاتكٓان هو الوحيد الذي تٓخطّى كُل الخطوط الحمراء .
فٓكثيراً ما كانت تٓأخُذه حِمية الكلمات  ، وتصفيق الحُضور الحاد إلى كثير من التجاوزات في حق النظام  .. حتى ولو كانت في كلماتهكٓثير من الحقائق! 
مما كان يُخيف نادية على مستقبلها معه .. 

إذ ان  “نادية” رغم مٓشاعِرها الواضحة تِجاه “فؤاد”  .. إلا أنها منشِدة رٓهبتها من المجهول تٓجدها ،  وكٓأنها كانت تتأرجح على حِبال الهوى   .. ثم ما لبثت  أن  ٓتوارت خٓلف خٓوفها من التصريح بهذاالحُب خٓشية التورط .. لتتماسك  بعد ذلك بالوقوف على أرضثابتة . 
أما “فؤاد” فكان حُبُّه لنادية ناري .. مثل قٓصائده ..  فُكل قصائدالعِشْق  التى كتبها كانت فيها ، ولها  .. إلى أن تٓم القبض عليه فيإحدى الندوات  ، ويُحبس من بعدها  لعدة شُهُور . 

هُنَا تٓحقق شُعور “نادية” بالخوف منه على مُستقبلها . 

لتُوافق على أول طٓارق يٓطلب يٓدها عن طريق العائلة  .. فقد رأتأنّ زِيجات الصالونات أكثر استقرار . 

ليٓعُود “فؤاد” من مٓحبسه ليجد “نادية” قد تم خُطبتها ..  فيتوارى هوالآخر عنها ، ولكن خٓلف انكسار قٓلبه  ، ثم يلملم شتات أمره  ،ويحاول أن يجتهد  ، ويُنهي دراسته بتفوق . 

مقرر  من حِينهٓا  أن يُغلق قٓلبه تٓماماً خلف حُب نادية  ، وما سٓمحلأحدهُن بالدخول . 

يواصل  دكتور  فؤاد  شروده  مع  الموج  ،  يترجاه  ألّا  يبعد ، و يتركه  دون  أن  يأخذه  معه  كما هؤلاء  الجالسين  أمامه  إلىمُدن الصُحبة التي كٓانت .. 
والجيرة ،  والأهل  ، والأحباب الذين ولّوا .. 
 ثم يركٓن إلى تِلْك الأعذٓار  ، والمُبررات التي تُطٓيّب خٓاطِر وحدتهويقول .. 
رُبما فٓرضت عليهم ظُروف الحياة  ، أو فراق الموت كُل هذاالبعاد  .. 
يُشعِل سِيجارته ويطلب من “الجارسون” 
فنجان قهوته المُعتاد .

وما زالت عيناه تفيض بذاك البريق الذي بدا يٓنعكِس كالنجومالمُتلألئة على الموج  .. كُلَّمَا كٓاد طٓيف الوحدة يطبق على أنفاسه .

 فتٓارة يُغازل الموج بضحكة من عينيه   ، وتارة تٓفِرّ دمعة منالأحداق  اتّشحٓت بِذات لون عينيه الحٓزينتين  ، لتشي لمن يتعمقفي نظرتهم  بما آل إليه حٓاله .

 لِتٓطول صُحبته التى تأبى المشيب مع البحر ووجوه الناس الذاهبةهُنَا وهُناك على كُورنيش الإسكندرية .

فٓتنتعِش أحياناً مَعَهُم  ، وبهم بعض من أوقات المساء . 

يُطيل النظر حنيناً ظٓناً منه أن تٓطول عينيه  من تحت النظارة شُرفةعيادته  . . أو شُرفة منزله كٓما كان بالسابق  .

يضحك من بعيد أشتياق  للذى  كان .. فالمنزل ، والعيادة هماالشيء الوحيد بحياته الذي لم يٓزل مُحافظ  على ود الجوار!  

ثم  يٓلعٓن ويٓسب في تِلْك النظارة التي كُلَّمَا ازداد سُمك زُجاجها  ..أٓيقن أن نٓظره قد طاله البعاد هو الآخٓر  .. كٓما طٓال الكثير ممنحٓوله فٓهجروا .

وأن سنوات العُمر هي الأُخرى قد طٓالها الانحسار في هذا الممرالضيق من رتابة الأيام .

ينُهي فنجان القهوة  ، وينتهي معها آخر ضوء لشُعلة سيجٓارته فتنطفئ .

بعد أن ترك الكافيه.. ينهض متكئ على عصاه يُحاول أن يصل إلى عمارته التى لم تٓزل باقية على عشرتها معه.. تُلملم  هى الأخرى ذكرياته التى سكنت بها ، وما هٓجٓرت.

أما عيادتُه المجاورة لشقته  بتِلك  العمارة  فهو الذي  هجرها رغماًعنه .. وشيئ فشيئ هٓجره المٓرضى .. بعد أن كان من أٓمهرالأطباء في تٓخصّص الباطنة والقلب. 
وكما هي طبيعة الأيام ..  إذ أن  دوام الحٓال من المُحال  .

فالجميع يعلم أن دكتور “فؤاد” كان في يوم من الأيام من كِبارأطباء الأسكندرية .. 

كٓما يٓعلمون تٓماماً هذا السِّر الذي أٓوصله لتلك الحٓال  .. حين استسلٓم ..  وصٓار مٓريض 

بالاكتئاب  ، وبات زبون دائم التٓردد على صيدلية الحٓي . 

ظٓنا منه أنه سيطيب من مٓرضه ،  ولكن الطبيب المٓاهِر ما طٓاب  .

يٓعم  عليه الليل وهو لم يٓزل يسير متكيء  على عصاه ..  تلاصققدميه  ذٓات الرصيف الذى ما مٓل  منه يوما .. وهو  يسير معنجومه يسامر القمر حتى يصل  عائدا 
حٓارس العمارة .. 

يُلقي عليه تٓحية المساء ويقول .. مساء الخير يابيه .

دكتور فؤاد: مساء الخير. 

ثم يصحبه الحارس حتى باب الأسانسير .. ليتوقف بهم  الأسانسيرعند الدور الذى تقطن به شقته .

ويظل مسترسل بالحديث .. 

طلباتك حضرتك يا دكتور حطيتها كُلها في المطبخ.

دكتور فؤاد: شُكراً.

وقبل  أن  يُغلق “ربيع” الباب  ، ويمضي.. 

يقول .. 

البت "عايدة" بنتى يادكتور جت النهاردة تتغدى معايا انا، وامها، وحاسس انها ضعفانة حبتين من بهدلتها مع بناتها الصغيرين  .. اكتبلها حبة مقويات يادكتور الله يكرمك 

يضحك فؤاد انه  مازال يوجد احد يتذكر انه طبيب ويقول 

حاضر "  ياربيع  " من عنيا ، وانا  نازل الصبح باْذن الله تعالىمعايا الصيدلية  .. وانا هاشتريلها الڤيتامينات  اللازمة  هدية  منى ، وسلمى عليها، وعلى ام عايدة.

ربيع .. تسلم ، وتعيش يابيه .. خيرك مغطينا الله يكرمك يادكتور ..تصبح على خير .

فؤاد .. وانت من أهله .

أقفل الباب وراك ياربيع .

أكثر من عشرين عٓاماً مُنذ كانت الحياة في تِلْك الشقة تٓدب فيهاالروح “وربيع” هو الأمين على كٓافة طلبات دكتور فؤاد.. حتى انه  مع  الأيام صار يأتمنه على  حياته  كلها  تاركا معه مفتاحشقته .
يضحك فؤاد ساخرا من نفسه  .. لأنه  كان يرى  "رب"

 

*كاتبة روائية وقصة قصيرة ومقال 
 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز