عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

في الصين: الإجتهاد سر النجاح

في الصين: الإجتهاد سر النجاح
في الصين: الإجتهاد سر النجاح

بكين - محمد عاشور

الصينيون الذين يتحدثون اللغة العربية أو يدرسونها في الجامعات لهم أسماء عربية تسهيلا لتعاملهم مع العرب الموجودين بكثرة هناك.
كتيب صغيرأجاب عن كل الاسئلة التي دارت في أذهاننا حتى لا نقع ضحية لأي عمل استغلالي.
زيادة عدد الأجانب يعني توفير فرص عمل جديدة وفتح مجالات أوسع مع بلدان هؤلاء لأنهم في النهاية رسل بلدانهم في الصين.
لا يوجد تعامل مباشر بين المواطن والموظف المسئول عن الخدمات وهو الأمر الذي قضى على فكرة "فتح الدرج، وثمن الشاي".
يوجد في الصين ما يزيد على 300 مليون دراجة تقوم الشركات المالكة بتأجيرها للمواطنين من خلال "ابلكيشن" على تليفوناتهم المحمولة.


 



على مدى تسع ساعات ونصف هي المسافة التي تقطعها الطائرة ذهابا من مطار القاهرة الدولي إلى مطار بكين الدولي، أخذت تراودني الخيالات، والصور، والأحلام، عن تلك البلد الذي استطاع في سنوات وجيزة أن يحقق طفرة اقتصادية وسياسية واجتماعية، لم تصل إليها دولة نامية من قبل، كنت أتخيل أثناء جلوسي على مقعدي في الطائرة، شكل المباني، واتساع الشوارع،وعدد السيارات في بلد يعرف عنها الإزدحام الشديد، والرياح المحملة بالأتربة، التي تهب في لحظات فتحول الهواء النقي إلى غازات سامة تهيم في الهواء الذي نتنفسه، أخذت أتذكر عدد قطع الملابس الشتوية التي أحملها في حقيبتي، وهل هي كافية أم لا؟، لأن الجو في الصين، وفي العاصمة بكين على وجه التحديد جو متقلب (كما قيل لي) يتحول من الحرارة العالية إلى البرودة القاسية في لحظات، ولكني أبعدت عن ذاكرتي تلك الخيالات التي من شأنها أن تعكر صفو أي رحلة، وعدت إلى الصين أو بمعنى أدق إلى خيالاتي التي أتمنى أن أراها في هذا البلد التي سأصل إليها بعد ساعات قلائل.

 ( في مطار بكين )

ما أن هبطت الطائرة المصرية إلى ارض المطار، وكانت البداية مع ذلك الجو الخريفي الدافئ في العاصمة بكين، ودرجة الحرارة العالية بعض الشئ، لا توجد أتربة في الجو، في هذه اللحظة تبددت مخاوفي عن طبيعة الجو، وهنا أدركت أنه في كثير من الأحيان تتكون الصورة الذهنية عن الأخر وفقا لوسائل مغرضة تهدف إلى نشر رسائل مغلوطة، ووقتها أيضا أيقنت تماما أن "من رأى ليس كمن سمع"، واخذت القرار بأن أرى بعيني الصين هذه البلد المترامية الأطراف، والتي تصل مساحتها إلى 9,6 مليون كم، المزدحمة حيث يبلغ عدد سكانها مليار وأربعمائة مليون نسمة، وكانت البداية في المطار، حيث الطوابير الطويلة الممتدة في انتظام أمام موظف المطار، الذي يمنح الجميع صك الدخول إلى بلد التنين، نعم كانت هناك تجاوزات قليلة جدا من البعض الذين تخطوا دورهم دون إحترام للأخرين، وبالتحديق في وجوههم أيقنت أنهم ليسوا من أهل الصين، الذي يلتزم أهله بالقانون وحقوقهم وواجباتهم نحو الأخرين في كل شئ.

(العربية الفصحى)

ما أن تجاوزنا موظف المطار وحصلنا على ختم الدخول أنا وزملائي المرافقين لي، إكتنفنا القلق فنحن الآن في بلد لا نعرف لغته، ودارت بيننا العديد من الأسئلة، كيف سيكون التواصل بيننا وبين أهل هذا البلد الكبير؟، كيف سنصل إلى الفندق الذي سنقيم فيه؟، وأي وسيلة مواصلات ستحملنا إليه؟، وماذا نقول للسائق؟، وغيرها الكثير من الأسئلة.. ولكن في حقيقة الأمر لم يدم قلقنا طويلا، حيث استقبلتنا "فرحانة" تلك الفتاة الصينية التي درست اللغة العربية في جامعة بكين للغات، وبعد التحية التي ألقتها علينا بعربية فصيحة، والتي طلبت منا الإلتزام في الحديث واستخدام الفصحى، لأنها لا تفهم عامية الشعوب العربية، وكانت "فرحانة" ومعها "ديما، ومنة" هؤلاء الفتيات اللائي يدرسن العربية في جامعة بكين هن حلقة الوصل بيننا وبين أهل الصين على مدار 15 يوما، (غالبية الصينيون المسلمين أو من يتحدثون اللغة العربية أو يدرسونها في الجامعات لهم أسماء عربية تسهيلا لتعاملهم مع العرب الموجودين بكثرة هناك).

بعد لقاء "فرحانة" التي تحمل على وجهها أمارات الفرح، والإبتسامة التي لا تفارقها، والتي إكتشفت بعدها أنها سمة غالبة في كل ربوع الصين، فما أن تلتقى عيناك بعين أي صيني رجلا كان أو امرأة، شاب أو فتاة، إلا ويبتسم في وجهك، قائلا لك "نيهاو" أي مرحبا بالصينية، مع انحناءة خفيفة للأمام تحمل الإحترام لكل أجنبي أو وافد.

(تفاصيل صغيرة هامة)

قامت "فرحانة" بتوزيع كتيب صغير يحمل بين طياته برنامج الزيارة كاملا، أو بمعنى أدق برنامج الزيارة في العاصمة بكين، حيث أن الزيارة كانت مقسمة إلى جزئين، الأول في بكين، والثاني في مقاطعة أخرى تحمل اسم "قانسو"، وهي مقاطعة ذات أغلبية مسلمة، وتبعد عن بكين مسافة  6 ساعات بالطائرة، و33 ساعة بالقطار فائق السرعة، كما أن "سور الصين العظيم" ينتهي في هذه المقاطعة، بعد آلاف الكيلو مترات التي يقطعها السور من بكين إلى قانسو، وتحديدا إلى مدينة "جياقوان" بمقاطعة "قانسو".

هذا الكتيب الصغير الذي لا يتجاوز عدد صفحاته العشرين صفحة من الحجم المتوسط، أجاب عن كل الاسئلة التي كانت تدور في أذهاننا جميعا، مكان الفندق الذي سنقيم فيه،ومواعيد تناول الطعام، ووسائل المواصلات التي نحتاجها في الإنتقال بين الأحياء والمدن الصينية في العاصمة بكين، وأسعارها، حتى لا نقع ضحية لأي عمل استغلالي، وكذلك أماكن التسوق والمولات الكبيرة، ووسيلة المواصلات المناسبة لها والأجرة المناسبة من الفندق إلى هذه الأماكن ذهابا وايابا، هذا إلى جانب بطاقة تعريفية باسمائنا، وعنوان الفندق، وأرقام هواتف الموظفين بالفندق، وماذا نفعل في حالة ما إذا ضل أحدنا في بلد التنين الواسعة، بالاضافة إلى أرقام هواتف المكلفين من قبل وزارة التجارة الصينية "المُضيف"، والمجموعة الصينية للنشر الدولي "المسئولة عن التدريب الإعلامي في الصين"، وهي شبكة إعلامية تم تأسيسها عام 1949 لتقوم بتقديم الصين للعالم الخارجي من خلال الكتب والمجلات، ثم عبر النشر الالكتروني، أو المواقع الالكترونية مؤخرا، وقد طبعت الشبكة ما يزيد على 3000 عنوان لكتب تتحدث عن المجتمع الصيني، وتتولى مهمة تقديمه للعالم، كما أنها تحوي أكثر من 50 دورية تتنوع بين جريدة، ومجلة أسبوعية وشهرية، ومواقع الكترونية بأكثر من 10 لغات، في أكثر من 180 بلدا حول العالم.

(مدينة شيجياو)

وما أن وصلنا إلى الفندق إلا وطلبت منا "فرحانة"الذهاب إلى غرفنا في الفندق الذي سنقيم فيه مدة إقامتنا في بكين، لأخذ قسط من الراحة، وهي رغبة كانت تلح علينا جميعا، بعد أكثر من 20 ساعة مابين الطائرة وموظفي المطارات في مصر وبكين، اسم الفندق بالصينية "سيدياو" كما ينطقها العرب، و "شيجياو" كما ينطقها أهل الصين، وهو في الحقيقة ليس فندقا بالمعنى المعروف، ولكنه أشبه بمدينة للطلبة، في مراحل الدراسات العليا وما فوقها، ذو مستوى أربع نجوم، صمم على طراز خاص ليتناسب مع شكل النهضة الجديدة وحجمها في بلد التنين، حيث "نافورات" المياه في كل مكان، إلى جانب الأشجار والازهار والمناظر الخلابة التي تحيط بالفندق من كل جانب، وطلبت منا أيضا قراءة الكتيب الصغير جيدا، ومعرفة وفهم ما يحتويه من معلومات، حفاظا على سلامتنا، في حالة حدوث أي ضرر.

في الحقيقة شدني في هذا الكتيب ملاحظتان هامتان، لو طبقت في بلادنا لصار لنا شأن عظيم، أولهما:الإلتزام بالقوانين وتعليمات رجال الأمن، حيث جاء في الكتيب "أنت تحت حماية القوانين الصينية عند بقائك في الصين، لكن يرجى منك في نفس الوقت الإلتزام بالقوانين والعادات الصينية"، وثانيهما: المرور "إذا ركبت سيارة أجرة من اللازم أن تطلب الفاتورة من السائق حتى يسهل البحث عن الأشياء المفقودة عند الضرورة، وكذلك الأمر إذا قمت بالتسوق حتى تتمكن من تبديل البضائع عند الضرورة"، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل  ذكرنا ذلك الكتيب بوزن الأمتعة المقررة للفرد الواحد على متن الطائرة في رحلة العودة، هناك ملاحظة ثالثة رأيتها في الشارع الصيني أثناء التعامل مع الأجانب" فهم يعرفون جيدا أن زيادة عدد الأجانب في بلدهم يعني توفير فرص عمل جديدة، وفتح مجالات أوسع مع بلدان هؤلاء الأجانب، لأنهم في النهاية رسل بلدانهم في الصين"، ولذا هناك ثقافة سائدة ومنتشرة يعيها الجميع، هي إحترام الأجانب، وعدم استغلاهم بأي شكل من الأشكال، ومساعدتهم في حال عدم المعرفة، وكانت هذه الملاحظة مصدر ألم لي عندما تذكرت ما يفعله البعض في بلادنا مع الأجانب والسياح.

 (مفيش مشكلة في الفكة)

ومن الأشياء اللطيفة في بلد التنين أنهم لا يعرفون المشكلة البالغة التي نواجهها "مشكلة الفكة، وربنا يكرمك يا باشا"، فالفكة في بلادنا ليست من حق صاحبها، ولكنها حق مكتسب لسائق التاكسي، وبائع السوبر ماركت، ومن يطالب بها سمع ما لا يرضيه، وهكذا تغتصب الحقوق دون وجه حق بدافع الحياء، لكن في بلد التنين المتعدد الأديان بين البوذية، والاسلام، والمسيحية، واللادينيون، مستحيل أن ترى مثل هذا الموقف، فإذا ركبت التاكسي مثلا، وتبقى لك نصف يوان (العملة الصينية تسمى يوان، وهو يعادل 2,65 قرشا بالمصري، والنصف يوان كنصف جنيه مصري)، إلا وأعطاك السائق إياه مع الفاتورة التي تحمل في طياتها المسافة التي قطعتها من المكان الذي طلبت فيه التاكسي، إلى مكان الوصول، مشتملة على خط السير، وعدد المرات التي وقف فيها التاكسي في اشارات المرور، وهي كثيرة، ولكن الجميع يلتزم بها من سائقين ومشاه، فهم جميعا يعرفون أن ذلك في مصلحة دولتهم الناهضة، وكذلك الحال أذا قمت بالتسوق من أي مكان، أو شراء طعام.

(مارثون الدراجات)

ومن ناحية أخرى استطاع المسئولون في بلد التنين القضاء على الفساد المالي والإداري ، حيث لا يوجد تعامل مباشر بين المواطن الصيني والموظف المسئول عن الخدمات، وهو الأمر الذي قضى تماما على فكرة "فتح الدرج، وثمن الشاي"، التي نعيش مأساتها في دولنا العربية، فهناك التعامل تكنولوجي بحت في كل مكان، عندما تطلب تاكسي، أو تذهب إلى السوق لشراء الخضار أو اللحوم أو غيرها من ضروريات الحياة.

كما استطاعوا القضاء على الزحام في الشارع باستخدام "الدراجات" في التنقل، وهي وسيلة مواصلات رسمية تديرها شركات كبرى، ويوجد في الصين ما يزيد على 300 مليون دراجة، تقوم الشركات المالكة بتأجيرها للمواطنين عن طريق الانترنت من خلال "ابلكيشن" خاص على تليفوناتهم المحمولة، وتخصم قيمة الإيجار من رصيد المستأجر، وكذلك الحال في كل شئ، مما ساهم بصورة كبيرة في القضاء على الفساد في الصين، وتخفيف حدة الزحام، حيث أن بكين تعد أكبر مدن العالم إكتظاظا بالسكان، ويبلغ عدد سكانها وحدها 21,729 مليون نسمة، ولكنك لا تشعر بالازدحام في شوارعها بفضل استخدام الدراجات، واتباع تعليمات المرور، وقالت "ديما" التي كانت تتولى مهمة الترجمة لنا مع "فرحانة، ومنة"، أن أغلب المواطنين الصينيين يمتلكون الأموال، لكن لا يمكنهم شراء السيارات، حيث أن شرائها يتم عن طريق "القرعة" وسعيد الحظ هو من يحصل على سيارة من بين 300 مواطن صيني، حيث أن شراء السيارات ليس متاحا للجميع لتقليل الإزدحام، وأتذكر ما قالته جيدا "من الطبيعي أن تجد مسئولا كبيرا في طريقه إلى عمله فوق دراجة"، ولذا حققت الصين نهضتها الاقتصادية المتميزة عالميا.

ورأيت أيضا كيف يحترم الشعب الصيني تراثه التاريخي والحضاري، ويعمل على تسويقه للعالم بشكل متميز جدا، وهو الأمر الذي أحزنني كثيرا عندما تذكرت حال متاحفنا في مصر المليئة بالقطع الأثرية النادرة، والتي سمعنا الإشادة بها من كل مسئول صيني إلتقينا به، الى جانب قوة مصر وريادتها، وهو الأمر الذي يعيه الصنييون جيدا، وكان ذلك مصدر فخر للوفد المصري الذي كان متوجدا معي في الصين، وكان يزداد فخرنا عندما يسأل أي مسئول نلتقي به هل يوجد بينكم مصريون؟، ولم نلتقي بمسئول صيني إلا وقد زار مصر أكثر من مرة، وبعضهم عاش بها فترات طويلة وعمل بها أيضا.

(الاجتهاد اساس النجاح)

ورأينا على مدار 15 يوما إلتزام وجد واجتهاد "ديما" المترجمة، الطالبة في السنة النهائية بقسم اللغة العربية بكليات اللغات بجامعة بكين، التي كانت بمثابة دينامو سريع الحركة لإنجاز المهام المطلوبة لراحتنا، وإزالة المعوقات التي تواجهنا، إلى جانب اجتهادها الذي كان ملحوظا في الترجمة من الصينية إلى العربية، كما ساعدتنا في التعرف على الكثير من أصناف الطعام الصيني، والتي بكت كثيرا عند مغادرتنا بكين ونحن في طريقنا الى المطار للعودة، وشاركتها "منة" المترجمة والطالبة بنفس القسم، وهي مرحة،مجتهدة، ترغب في دراسة الإعلام في مرحلة الدراسات العليا، بعد الانتهاء من دراسة اللغة العربية والتي ستحصل على إجازتها في شهر يونيو الحالي، ومعهم الشاب النحيل "ليان" الذي وثق لحظات استمتاعنا بالصور، وكانوا جيعا تحت قيادة واشراف الصامت دائما، الهادئ عندما يتحدث "لي هينج شن" نائب مدير مركز التدريب التابع للمصلحة الصينية للنشر والتوزيع باللغات الأجنبية.

في الحلقة القادمة نتحدث عن سور الصين العظيم وعين الهلال وطريق الحرير والإعلام والمسرح في الصين.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز