عاجل
الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

محمد محمود يكتب: الاعتراف الأخير

محمد محمود يكتب: الاعتراف الأخير
محمد محمود يكتب: الاعتراف الأخير

عبرتْ الباب الخشبي بخطى مترددة، وبصدرٍ يعلو ويهبط مع صرير الزمن الذي خلّف آثاره على المُفَصِّلات المُثبتة في عضادة الباب ليزيد ذلك من حدة توترها، ظلتْ تجوب الغرفة بعينيها في محاولة طبيعية لإستكشاف الأماكن الجديدة، لم تكن الغرفة كبيرة ولكنها كانت مُنظمة بشكل مُبهر، مكتب خشبي متوسط الحجم في مواجهة الباب مُلقى عليه عدة دوسيهات للديكور، زهرية وردية قديمة تحوي عدد من الزهور الصناعية البائسة، وعدد من الأقلام الجافة الموضوعة في عُلبة فضية اللون، بالاضافة إلى مُسجل صوت رصاصي اللون في حجم اليد، يُمسك به رجل بدين غزا الثلج الأبيض شعره الناعم المُستقر في إنسيابية فوق رأسه، ووجهه تعلوه ابتسامة ثابتة بلهاء لا تتسع ولا تنقبض ولكنها مع ذلك لمحت جسدها في عينيه، فهي تعلم جيدًا أنها جميلة، إمرأة في أوائل الثلاثينيات بيضاء البشرة، عيونها الخضراء الواسعة تشع بريقًا وحزنًا على ماضٍ سحيق، صدران عامران مُنتصبان في إباء، وخصرًا يتقاتل عليه الرجال لروعة ودقة استداراته، وقدمان تم نحتهما بعناية ليُتما صُنع أفروديت العصر كما أطلق عليها أحد الرجال يومًا ما، نهض ليرحب بها فرأته قصير القامة ممتلئ الجسد بشكل ملحوظ، مما طغى على مظهر البِزة الرمادية التي كان يرتديها، دائماً ما كان يضحكها مظهر الرجال المُمتلئي البطون حين يرتدون البزات الأنيقة، تشعر أنهم مُهرجين على وشك تقديم فقرة كوميدية للجمهور، تقدَّم نحوها ليصافحها فمدتْ له يدها، فأخذ راحتها بين كفيه مع نفس الابتسامة البلهاء، كانت مصافحته قوية تدل على حفاظه على فحولته على الرغم من أعوامه التي تتجاوز الخمسين بوضوح، ضحكتْ في قرارة نفسها من تلك الأفكار التي راودتها من مجرد مصافحة يدْ!؛ ولكن مَنْ غيرها أقْدَرُ على تمييز الرجل وسط الآلاف، دعاها لتجلس قبالته على المكتب، ولكنها لمحتْ على يمينها ما يُدعى بالشازلونج، ذاك الذي يُعرف بأنه ماركة مُسجلة لدى الأطباء النفسيين، فذهبتْ إليه دون أن تنظر إلى الرجل الواقف بجانبها وكأنه يجذبها دون مقاومة منها، فإقتربتْ تتحسسه بيدها قبل أن تُسدي جسدها المُرهق له، كانت بدأت تشعر بالإعياء ولكنها تمالكت نفسها، فلم يتبقى الكثير من الوقت وهناك الكثير لكي يقال، لم يُبدي الرجل أي اعتراض على الرغم من دهشته التي كست وجهه الأبيض المُستدير، فسحب كرسيًا خشبيًا وأخذ معه المُسجل وجلس بجانبها، لم يسألها عن شئ، فقط تركها لتتحدث، ظلتْ تُحملق في سقف الغرفة هربًا من ذلك اللون الأحمر الخافت المُسلَّط على وجهها لمدة قاربت العشر دقائق تقريبًا، ثم بدأتْ بالحديث.
 
 
أتعلم .. لطالما اعتقدتُ أنّ الحياة شئ مثير للسخرية ولكنني أدركتُ أني كنتُ مُخطئة، لأنها مثيرة للحزن .. مثيرة للأوجاع .. مثيرة للألم الذي يرافقنا في تلك الرحلة اللعينة منذ الصرخة الأولى وحتى الصرخة الأخيرة، وإلا فقل لي: لماذا يموت والدي وهو على سريره بعد تناول العشاء معنا ونحن نضحك على كل ما مررنا به في ذلك اليوم المشئوم؟ ولماذا تتبعه أمي بعد خمسة أيام حزنًا عليه وأنا مازلتُ في الثامنة عشر من عمري؟ ولماذا أُصبحُ أنا في ليلةٍ وضحاها رب الأسرة المكونة من أربع أشقاء أكبرهم أصغر مني بستة أعوام كاملة؟ ولماذا أصبحتُ ما أنا عليه الآن، والسؤال الأهم: لماذا ماتْ هو، لا تُجيب الآن، فقط استمع ..
 
 
في الليلة الأولى عندما قررتُ أن أبيع جسدي .. ولكن قل لي أولًا: كيف تختذلون شرف الإنسان في قطرتان من الدماء؟ لا عليكَ .. فلن تجد جوابًا على أية حال، أين كنا؟ آه تذكرتُ، في تلك الليلة قررتُ أن أذهب إلى إحدى الأحياء القاهرية المعروفة، وقفتُ على الرصيف أنتظرُ من سيذبحني في مقابل حفنة من النقود التي ستسد تلك الأفواه الجائعة المُنتظرة في البيت، وقفت وساقي غير قادرة على الصمود والاحتمال، وعبرات تتساقط رغمًا عني مُختلطة بلون الكحل الأسود، لم أدرِ لحظتها أهي دموع الخوف أم الندم، ولكنني رأيتُ سيارة تقترب مني رويدًا رويدا ثم وقفتْ بجواري ليهبط منها شاب أنيق في منتصف العشرينيات، وعرض ما سيدفعه في مقابل الليلة، ولكنني ضاعفته ثلاث مرات ووافق عندما علم أني مازلت بكرًا وأنها المرة الأولى، ركبتُ بجواره وأنا أضم ساقي بحركة غريزية لم أعتدها من قبل وذهبنا إلى بيته، كان أنيقًا مليئًا بالتحف واللوحات القديمة، وقبل أن أنبثُ ببنت شفة، حملني في حركة مفاجئة بين ذراعيه إلى الغرفة الرئيسية، لن أنسى تلك الساعة ما حييتُ، لم أصرخ على الرغم من كم الصفعات التي صوبها إلى وجهي، لم أتوسل إليه أن يتوقف عن كم السباب الماجن الذي يملأ به أذني، ولم أشعر حتى بالغثيان وهو يبصق في فمي، ولكنني وبعد أن فرغ مني وفي داخلي .. بكيتُ، بكيتُ بدموعٍ هبطت باردة على وجنتيَّ المُشتعلة خجلًا وعارًا وأنا أضع على ملابسي، وهو يغتصب في تلك الأثناء سيجارة بين شفتيه وينفث دخانها في سماء الغرفة، وعندما انتهيتُ لم ينظر إليّْ، بل قذف ماله في وجهي وأمرني بالخروج ..  وخرجت
 
 
 
مررتُ بجوار عدة عربات مُسرعة، فكرت في أن أتخلص من كل ما مضى، ومن كل ما سيأتي، ولكنني تراجعتُ عندما تذكرتُ إخوتي، ليس حبًا كما تعتقد، ولكنه شئ آخر غير الحب، شئ يُدعى رباط الدم، ذلك الشئ الذي يجذبك إليه وأنت لا تعرف لماذا ولا كيف تتوقف، فعدتُ إليهم وأنا أحضر طعام العشاء، ثم دخلت إلى المرحاض لأغتسل، ولكن المياه كانت أوهن من أن تذيل آثار الدنس من على جسدي، ومازلتُ حتى هذه اللحظة أشعر بكل يد عبثتْ في ثنايا جسدي، وعزمتْ على عدم الرجوع إلى ذلك الشارع مرة أخرى، ولكنني عُدت .. عُدت بعد خمسة أيام، بعد أن نفدت نقود تلك الليلة، ومرت الأيام والسنوات وأنا على تلك الحال، حتى قابلته
 
 
كنتُ واقفة في مكاني المعتاد، آه نسيتُ أن أخبركَ أنّ لكل ناصية إمرأة بعينها ولا تستطيع أي واحدة أخرى أن تأخذ مكانها، شئ مثل الكود السري بيننا، لا يهم .. ولكنني رأيتُه قادمًا إليّْ، كان وسيمًا هادئًا، أبيض البشرة، متوسط الطول، وكان يرتدي نظارة طبية سوداء زادته وقارًا ووسامة، وكانت ابتسامته عذبة، ألقى التحية وقال أنه يتابعني منذ عدة أيام وأنه يريدني، وقبل أن أعرض سعري قال أنه سيدفع ما أطلبه، وذهبتُ معه، ولكنني فوجئتُ به يصحبني إلى مطعم لتناول العشاء، لم أعترض، شئ لم أفهمه كان يجذبني إليه، لم أكن خائفة، وتلك سابقة لم تتكرر، أجلسني في مواجهته على منضدة مستديرة في وسطها شموع حمراء ذات رائحة نفاذة، وتحدثنا .. تحدثنا في كل شئ وعن أي شئ، حكيتُ له عن حياتي وعن ما دفعني للوقوف في ذلك المكان، وحكى لي هو بدوره عن نفسه وعن حياته، وعرفتُ أنه ناشط سياسي وأنه مُهتم بالعمل السياسي والأدب والفن، لم أدرِ كم مر علينا من الوقت، ولكن المؤكد أنني لم أشعر به يمر، كما أنني لم أرد أن تنتهي تلك الليلة، ولكنها ككل الليالي الجميلة تنتهي سريعًا، وأعطاني المال، ولم أعرف أنه كان مبلغًا ضخمًا إلا بعد أن عدتُ إلى البيت.
 
 
تكررت لقائتنا كثيرًا حتى في بيته، ولكنه لم يقترب مني أبدًا، كان دائمًا ما يتحدث معي عن الأشياء التي يحبها، وكأنه يريد أن يشاركني إياها، كان يتحدث معي عن الواقع السياسي وضرورة تغييره، وعن فن الرواية الذي يعشقه، وعن الموسيقى وأثرها على الروح، حتى صمت في إحدى المرات وهو ينظر في عيني وهو يقولها للمرة الأولى ..  بحبك .. لم أدر: هل ترنحتُ سكرًا من وقع الكلمة وسحرها، أم من تأكدي من بداية فصل جديد من المعاناة في حياتي، ولكنه أدرك ما كان يجول بخاطري في تلك اللحظة، فمضى يردد علي أذني أنني لست عاهرة، وأن كل واحد منا عاهرٌ بطريقته، ولكن المُجتمع الذي نحيا فيه هو الذي صنع منا العاهر والمُرتشِ والمُغتصب، واستطرد في حديثه، فقص عليْ إحدى الحكايات المذكورة في الإنجيل، ومفادها أن مجموعة من الأشخاص أتوا بإمرأة زانية إلى السيد المسيح وطلبوا منه أن يرجمهوها، فانحنى المسيح على قدميه ودوّن خطاياهم على الأرض، ثم نهض ونظر في عيونهم وقال لهم «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر»، ثم أنهى حديثه معي بأنّ مَنْ لا يستطيع أن يمنح الغفران في تلك الدنيا لن يجد الرحمة في الآخرة.
 
كنتُ قد امتنعت عن العمل ومكثت في البيت، ومرت الأيام والأشهر ونحن على تلك الحال، وفي احدى الليالي رن هاتفي فظهر اسمه فابتسمت، لم أستطع أن أفسر قط تلك الابتسامة التي تعلو وجهي لمجرد رؤيتي لاسمه، كيف أصبح هو خمري وانتشائي الى ذاك الحد، هل هناك من يقولون حقاً أن الحب وهم كبير، هل تنفس هؤلاء الوهم كل مساء في رائحة من يحبون، هل ارتشفوا الوهم حتى الثمالة في قبلات من يعشقون، هل عاشوا الوهم ليلة واحدة بين أحضان من يتمنون، لا أظن..  في تلك الليلة دعاني إلى منزله، كنت قد تعودته، ولكنني بمجرد دخولي فوجئت بكم البالونات ومواد الزينة التي تستخدم في الاحتفالات، فلقد كان يريد الاحتفال معي بيوم مولدي، ولقد كانت تلك أول وأخر مرة أحتفل بها بهذا اليوم، أخبرني وهو يناولني قطعة من الحلوى في فمي أن هذا اليوم هو أحب الأيام الى قلبه، فهو اليوم الذي جئت فيه إلى الدنيا لكي يلقاني، لكي يحبني، قال لي أنه كان يبحث عني طوال عمره، في تلك اللحظة لم استطع الصمود، فاقتربت من شفتيه وأنا مغمضة العينين، شعرت بأنفاسه تقترب وبأنفاسي تتلاحق، هبطت بشفتي العذراء على شفتيه التهمها في قبلة طويلة، لا أعرف كم دامت ولكنني ظللت أرتشف من رحيقها حتى الثمالة، لم أشعر بنفسي الا وهو يداعب ثنايا جسدي، كان يعرف جيداً خارطة هذا الجسد ومفاتيحه، اخذت يده تزحف على جسدي تعرف طريقها جيداً حتى وصلت إلى نهدي فضغط علية بقوة فانطلقت مني أهه غير متوقعة، ظل يملأ جسدي بقبلاته من شعري حتى اخمص قدمي، فأخذت أنفاسي تتلاحق وجسدي يرتعد ودمعة تترقرق في عيني راجيةً اياه ألا يتوقف، وفي تلك اللحظة رفع رأسه ومال علي وهو ينظر في عيني طويلاً وكأنه يريد أن يراني في لحظة الاتصال، في تلك اللحظة نسيت كل شئ وكأنني لم اتعذب قط، لا الماضي يهم ولا المستقبل ايضاً، أريد أن احيا هذا الحاضر أريده أن يدوم، أريد لروحي أن تتطهر بين أحضانه ولجسدي أن يغتسل بحبات عرقه، لا أعرف كم المدة التي قضيناها على تلك الحال ولكنه ظل يعزف على أوتاري حتى الصباح
 
أشرقت الشمس وأنا أتوسد زراعه، ولكن هل ترى أشرقت من الغرب في ذلك اليوم، لا أعلم ولكنني أتذكر جيداً أن هاتفه هو الذي أيقظه من نومه وليست هي، كان احدى اصدقائه يخبره أن المظاهرة بدأت وأنه يجب أن يحضر حالاً، فنظر إلى وكأنه لا يعرف ماذا يقول أو بماذا يعتذر، فابتسمت له مخففةً فمال على اذني وقال لي أنه لن يتأخر، ثم طبع قبلة على شفتي واخذ قميصة وذهب، وانتظرت ولكنه تأخر ولكنني ظللت منتظرة ولو كان سيأتي بعد أربعين سنة كنت سأظل منتظرة، ولكن هبط الليل، الليل الذي تربيت في احضانه، وكأنه يريد أن يعاقبني على خيانتي له، كأنه يرفض أن اتركه وحدة وأذهب إلى غيره فأراد أن يعيدني اليه، رن هاتفي لأجد رقماً غير مسجل لدي، لم أكن سأجيب ولكن بعد الحاح أجبت، أخبرني أنه صديقه ثم صمت وعرفت، أخبرني في جملة مقتضبة بموته في المظاهرة، لم أدرِ ما حدث إلا بعد ثلاثة أيام وأنا في المشفى، قالوا أنها غيبوبة مؤقتة، وقتها فقط بكيتُ، بكيتُ كما لم أبكي من قبل، لم أبكي الشخص بقدر ما بكيتُ الرمز، فهو لم يكن ابداً مجرد شخص بل رمز، رمزاً للحب والتسامح والرحمة، وهنا تكمن قيمة الإنسان الحقيقية، وإختياره أيضًا
 
حدث كل هذا في الأسبوعين الماضيين فقط، ولكنني لم أعد أبكي، فلقد استطعت أن أجد الراحة والخلاص، فهناك لحظة ما في الحياة يا صديقي تذوب فيها كل المعاني، تنحدر فيها كل القيم، تخبو كل رغبة في الوجود، ولقد أدركتني تلك اللحظة الفارقة، فهي التي تختارنا ولسنا نحن من نختارها، وها هي الساعة تقارب التاسعة إلا خمس دقائق، أي تبقى لي في تلك الحياة خمس دقائق كاملة، لا تخاف فالسم يُمزق أحشائي منذ الثامنة تمامًا، منذ أن عبرتُ من ذلك الباب المُهترئ، ولن تستطيع أن تفعل شئ لتنقذني، لقد حرصتُ على هذا، كما أن التسجيل الذي تحمله بيديك سيبرئك من أي إتهام، فلا تقلق ولا تخاف، فلقد كنتُ شاهدًا الآن على تجربة نادرًا ما تتكرر في العمر، ولكن كل ما أريده منك الآن هو أن تنشر قصتي تلك، أريد أن يعرفها الجميع، فربما تُلهم شخصًا ما، أو تعظ آخر، وأطلق عليها .. أطلق عليها .. آه عرفت، أطلق عليها «الإعتراف الأخير».



تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز