عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

الهايكو.. أحدث "بدع" الشعراء !!

الهايكو.. أحدث "بدع" الشعراء !!
الهايكو.. أحدث "بدع" الشعراء !!

محمد نسيم



 

زهــرة تسقـــط

تصعــد إلــى غصنهـــا

كــلا، إنهــا فــراشـــة

ـــــــــــــــ

(موريتاك ــ هايكيست ياباني)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

((1))

الهايكو يرفض الخيال اللغوي، أو تجلي (الخيال) في اللغة، بكل أشكال هذا التجلي (المجاز، الاستعارة، الكناية، الرمز،...).. الزهرة في هذا النص مثلا هي بالفعل زهرة، والغصن غصن، والفراشة فراشة، وكل المفردات والتعبيرات المذكورة تدل على معانيها الحقيقية في اللغة.

يرفض الهايكو أيضا ــ أو يكره ــ من المفردات كل ما يمكن أن يكون مجالا لعمل الخيال، مثل المفردات المعبرة عن العواطف المبالغ فيها، أو تلك المعبرة عن أشياء معنوية غير محددة الدلالة.

«هنري برونل»، يقول في «فن الهايكو»: «على مؤلف الهايكو التخلي عن الصفات في أغلب الأحيان، وعن الاستعارات دائما، عن (كمنجات الخريف)، والتأججات، والغضب، والرومانطيقية، والحنين المجامل».

موقف الهايكو من الخيال ــ إذن ــ واضح، ومعروف، أيضا، لكل مبتدئ في تذوق أو ممارسة هذا الفن.

ولا شك أن هذا الموقف قد يؤيده كل من أصابه الملل وخيبة الأمل من قدرة شعرنا التقليدي على تقديم الجديد من المعاني والمضامين، اعتمادا على لغته التقليدية المعتمدة على المجازات والصور الخيالية.

وقد يؤيده أيضا أصحاب الاتجاهات والميول الواقعية والعقلانية والمنطقية في التفكير والتعبير.. ويرون فيه اتجاها شعريا جديدا ربما يجعلهم يرضون عن فن الشعر، ذلك الفن الذي طالما اعتبروه فنا خياليا بدائيا، لا يناسب الإنسان المعاصر والحياة الجديدة.

ولكن.. هل الهايكو فعلا، في رفضه للتعبير الخيالي، وتجلي الخيال في اللغة، هل فعلا هذا الفن ينتصر للعقلانية والمنطق..؟!

((2))

في جلسته من أجل التأمل، يجتهد الراهب في التركيز، وكبح كل ما يمكن أن يتسلل إلى رأسه من خواطر أو خيالات أو أفكار.

وفجأة، يلمح بطرف عينه زهرة تسقط، فيكتب: «زهرة تسقط»!!.. ثم يلمحها تصعد مرة أخرى إلى غصنها، فيكتب: «تصعد إلى غصنها»!!.. وهنا ينتبه إلى هذا التناقض، فينظر ليجد أنها ليست زهرة ولكنها فراشة، وتخطر على ذهنه كلمة «كلا، إنها فراشة»، فيكتب: «كلا، إنها فراشة»..!!!

نستطيع أن نتخيل أن هذا هو ما حدث..!!.. ونصحح القصة قليلا بأن نقول إن الراهب طبعا لم يكن يكتب أثناء التأمل، وإنما قام بتسجيل خواطره بعد أن انتهى من جلسته..!!

المهم......

ما ينبغي أن يفعله كاتب الهايكو هو أن يقلد هذا الراهب البوذي.. عليه أن يُفرِّغ ذهنه تماما من كل أنواع الخيالات والخواطر، وأن يراقب العالم متمثلا في اللحظة الراهنة فقط.. وأن يكون منتبها ومستعدا للتسجيل، فقط التسجيل، بمنتهى الهدوء والحيادية.

الهايكو هنا هو مجرد التقاط وتسجيل لحدث بسيط جدا، ولكنه استثنائي جدا، لأنه يخفي وراءه تلك الفكرة المركزة التي تمثل (الاستنارة).

المهم هنا هو: كيف وصلنا إلى هذه (الاستنارة)، وكيف سجلناها في نص (الهايكو)..؟؟

الجواب: عن طريق الانتباه الصامت، المجرد تماما من أي (تفكير خيالي) أو أي (تفكير منطقي).

الزهرة تشبه الفراشة، والإنسان لا يستطيع التمييز إلا بالتدقيق الشديد، وملاحظة التناقضات.. الزهرة تسقط إلى أسفل بفعل الجاذبية، والفراشة قد تطير إلى أسفل.. لكن الزهرة لا تطير إلى أعلى.. هكذا ربما يفكر الفيلسوف أو المفكر أو العالِم: الأشياء تتميز بأضدادها، وبدون وجود المتناقضات لا وجود للعقل البشري ولا وجود للإنسان.

وربما يفكر بطريقة أخرى: الأشياء كلها في الحقيقة شيء واحد، فقط عندما يتدخل فيها الإنسان بعقله تصبح عدة أشياء مختلفة.. ينقسم العالم ويتفتت عندما يدخل في عقل الإنسان، ذلك العقل الذي لا يستطيع العمل إلا بناء على تجزيء العالم وتفتيته، لكي يتناسب مع حجم خلاياه الصغيرة.. الزهرة كانت هي الفراشة والفراشة زهرة، حتى أعمل فيها العقل قانون التناقض الموجود بداخله هو فقط.

وربما كانت هناك طرق أخرى للتفكير، ولكن الراهب البوذي لا يفكر أبدا..!!.. إنه يستمر في الصمت والتأمل، في انتظار هايكو آخر، ربما يكشف له جزءا أكبر من الحقيقة..!!

...

«جان لوك تولا»، في كتاب «فلسفة الزن» يقول: «أمام الصحوة، فإن ممارسي الزن يسعون للتحرر من العقل والمنطق.. وقد فضل المصلحون البوذيون التخلي عن الدراسات النظرية والأبحاث الفكرية التجريدية لصالح التجربة المباشرة من خلال التأمل».

ليس الوصول إلى الهايكو فقط هو ما ينبغي أن يتم عن طريق إسكات العقل والكف عن التفكير المنطقي، ولكن لغة الهايكو أيضا ينبغي أن تتخلص من كل تجليات العقلانية والمنطقية.

«تولا» يقول في كتابه: «التشكيك في اللغة وواقع الماضي، بل وحتى التشكيك في وجود بوذا نفسه، هي بعض الأنظمة التي ينبغي للمريد أن يلتزم بها.. كل ذلك يمكن مقابلته بالحكمة المقدسة (الحرف يقتل لكن الروح تُحيي)».

يجب تخليص لغة الهايكو من كل مظاهر وتجليات العقلانية والمنطقية، كما خلصناها من كل تجليات العاطفة والخيال.

** في لغة الهايكو لا يوجد ترتيب زمني، لا يوجد ماضٍ ولا مستقبل، الهايكو لا يعبر إلا عن الزمن الحاضر فقط، ولا يستخدم غالبا إلا الفعل المضارع.. وإدراك الترتيب الزمني من أهم ما يعتمد عليه التفكير العقلاني وعلم المنطق.. ولهذا ينبغي ألا يحتوي نص الهايكو على حروف العطف التي تفيد الترتيب، مثل: (ثم)، وفاء العطف.

** في لغة الهايكو لا يوجد ما يعبر عن العلة أو السبب، ومعروف أن مبدأ السببية من أهم مبادئ المنطق، ومن أهم ما يعتمد عليه العقل في تفسير الواقع.. ولهذا ينبغي ألا يحتوي نص الهايكو على كلمات مثل (إذ) و(حيث إن) و(لأن)، ولام التعليل، وغيرها من الألفاظ المعبرة عن العلة والسبب والنتيجة.

** في لغة الهايكو لا يوجد ما يعبر عن الارتباط أو الشرط.. وارتباط بعض الأشياء ببعضها وكون بعضها شرطا لبعضها من المبادئ المنطقية والعقلية الأساسية في النظرة إلى مكونات العالم.. ولهذا فإن نص الهايكو ينبغي ألا يحتوي على أي أداة مثل (إنْ، إذا، لو،...)، إلا إذا كانت مستخدمة لمعنى آخر غير الشرط.

** في لغة الهايكو يتم التخفيف بقدر الإمكان من استخدام كل أدوات وحروف الربط بين المفردات والعبارات.. وبدلا من ذلك يتم الاعتماد على ما يعرف في اللغة بـ(الحشد)، أي ذكر المفردات والعبارات إلى جوار بعضها.. لدرجة أنه لا يُستحب استخدام حرف العطف البسيط (الواو).

وهكذا فإن الهايكو يحارب كل تجليات (العقل والمنطق) في اللغة، تماما كما يحارب كل تجليات (العاطفة والخيال) فيها.

...

والآن.. أين إخواننا العقلانيون..؟!.. لقد كانوا معنا..!!

لا شك أنهم قد أصابتهم خيبة الأمل في الهايكو أيضا، كما أصابتهم في الشعر التقليدي..!!

((3))

الآن.. ينبغي أن نكون أقلية..

ينبغي ألا يبقى معنا إلا أقل القليل.. بعد أن يتركنا هؤلاء الذين يصرون على كتابة الهايكو بنفس رومانسية وخيالية الشعر التقليدي، وأيضا هؤلاء الذين يعقّدون نصوصهم تعقيدا منطقيا فلسفيا لا علاقة له بجلسة تأمل مَرِحة تحت شجرة.

لقد خلعنا نصف مُخِّنا الأيمن (المسؤول عن العاطفة والخيال) في الجزء الأول من المقال.. وخلعنا نصف مخنا الأيسر (المسؤول عن الرياضيات والمنطق) في الجزء الثاني منه.

والآن فقط، نستطيع أن نكتب.. هكذا...

 

عينـــاكِ الآن

لا تُمْلِيَــــانِ شَيئًــــا

ولكنــي أَكْتُـــب

...

صَــوْتُ كَـــرَوَان

أَعْــرِفُ أنَّـــهُ يقــــول

مَــا لا أَعْــرِفُـــه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

** الهايكو: فن شعري ياباني قديم، قصيدة قصيرة من ثلاثة أسطر، عرفتها أروروبا منذ قرن تقريبا، ويدخل على استحياء مؤخرا إلى العالم العربي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز