عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

هاك أُذنى

هاك أُذنى
هاك أُذنى

كتب - عماد عبد المقصود

"سارعوا باقتناء نسختكم الحيوية الرائعة من أذن فان جوخ المقطوعة والمحفوظة بعناية فالعدد محدود".



هكذا بدأت إحدى الشركات الكبرى للتقنيات الحيوية الحديثة والباحثة العاملة بمجالي استنساخ وزراعة الأنسجة الحيوية وقطع الغيار البشرية دعايتها لمنتجاتها الطبية.

"هاك أذني

قربيها من شفتيك

وتحدثي إليها أيتها الثرثارة"

هل قال فنسنت ذلك حقًا؟!

هل ينتمي هذا الجزء –أُذنه الذي كتبه المترجم السوري نبيل صالح وكتاب سير ذاتية كثر -إلى الجانب الحقيقي من الرواية؟ أم إلى الجانب الخيالي؟

الكثير من اللوحات التي مثلت فتحًا فنيًا ومجموعة من الرسائل وسرير وكرسي بغرفة نوم داخل بيت، وُصف بالأصفر، أم قلب محطم وأذن مقطوعة؟!

هكذا فعل الرحيل الغامض لفنان ملهم  بمخيلة كل من شاهد لوحاته، التي وُصفت بأنها الأكثر تأثيرًا في مشاهدها.

 وزاد الأمر غموضًا وتعقيدًا رسائله التي لا تخرج عن ذات السياق ، وعلى إثر ذلك تفجر الخيال مطيحًا بكل ما يعترض طريقه من منطق وحقائق.

قال بإحدى رسائله:

"أرُيد صنع لوحات تمس بعض الناس، الحزن مجرد بداية، وربما بعض من المناظر الطبيعية مثل شارع" ميردرفوت"، أو مروج "ريجزويك"، أيضًا مبنى مصنع تجفيف الأسماك تعتبر أيضًا بداية بسيطة. فيها على الأقل شيء ينبع من قلبي مباشرة.

كذلك عند رسم شخصية أو مشهد، كنت أتمنى التعبير من خلاله ليس عن مشاعر سوداوية، بل عن حزن دفين. باختصار، أود الوصول لأبعد من ذلك، أن يقول الناس عن أعمالي: إن إحساسه عميق، ومشاعره حانية، رغم ما قيل عني من فظاظة، بل وربما بسببه أيضًا.

الحديث بتلك الطريقة، الآن يبدو طموحًا، إلا أن ذلك هو ما دعاني لدفع الأمور بكل قوة.

كيف أبدو في عيون معظم الناس؟ شخص نكرة، أم غريب الأطوار، أم شخص كريه مزعج، شخص ليست له مكانة في المجتمع، ولن يحصل عليها أبدًا، باختصار، أسفل سافلين، عظيم جدًا، إذا كان ذلك حقيقيًا، عندها يجب أن أظُهر في أعمالي أن لا شيء من هذا القبيل داخل أعماق ذلك الرجل غريب الأطوار.

ذلك طموحي، الذي، بالرغم من كل شيء، أُسس على الغضب، أقل من الحب، وأسس أكثر على الصفاء، عن العاطفة، في الحقيقة أنا في أغلب الأحيان في أعظم بؤس، إلا أنه لا يزال هناك بداخلي، إيقاع هادئ صاف، وموسيقي. ففي أفقر الأكواخ، وفي أقذر الزوايا، أرى رسومًا ولوحات، وبقوة خارقة يتوجه تفكيري منسحبًا نحو تلك الأشياء.

 

بهكذا مشاعر وأفكار كانت تتثاقل رأسً متعب، لفنانٍ قرر أن يخلق عالمه الفني الخاص، ويسن قوانينه على النحو الذي يُجرم التماهي مع كل أفكار وقواعد الفن التشكيلي القديمة، والتي تتخذ منحى أقرب إلى قواعد الكهنوت.

فنسنت فان جوخ

 

فنسنت فان جوخ

 

 

 

محب بائس وشاعر فيلسوف، فضلًا عن كونه فنانًا ملهمًا واجه كابوس الفشل مرارًا وتكرارًا في كل تجاربه الإنسانية والعاطفية.

ثائر مفكر مجدد، يسعى حثيثًا لتطوير رؤانا ومفاهيم الجمال وفلسفة الفن لدينا،

سابق لعصره، لم يستوعب أحد رؤاه وعبقرية إبداعه وتفرده من معاصريه.

لقد احتكرت المؤسسات الدينية والعادات الاجتماعية البالية، إبداع العظيمين أنجلو ودافنشي، ولنا أن نتخيل القدر الذي كان سيحدث من أثر، على التراث الفني الإنساني لو تُرك حرًا طليقًا.

هل سيستسلم هو أيضًا للقيود الفنية التقليدية المسيطرة على الواقع الفني بالقدر ذاته؟

 

ازهار عباد الشمس لفان جوخ 

أوروبا مطلع القرن التاسع عشر

 

تتحرك النهضة الحضارية بشكل مطرد في اتجاه الحداثة، نتيجة للثورة العلمية، التي تزعمها أفذاذ مثل، نيوتن وليبنتز وباستير وهوك وغيرهم.

لقد وضع نيوتن أسسًا نظرية جديدة بعد أبحاثه واكتشافاته عن طبيعة الضوء وتحليله الطيفي، تتيح مفهومًا جديدًا نشأت عنه ثورة في علم القياسات الضوئية والبصريات، ولتلك الثورة العلمية الحضارية، يجب أن تظهر أصداء تشكيلية مصاحبة تعيد صياغة مفاهيمه وفقًا للواقع الجديد.

 

ومن ثم بدأ الحراك التأثيري يتشكل ويبزغ للنور

 

آكلو البطاطس لفان جوخ 

 

وكرد فعل وتحدٍ للرفض العنيف والنفور المجتمعي من قبل مراكز القوى التشكيلية القديمة، وجحافل النقاد التقليديين، الذين وصموا تلك النخبة من الفنانين العباقرة بالهرطقة الفنية.

فنجد على سبيل المثال لوحة "الغداء فوق العشب"، للرائد إدوارد مانيه، وغير المحتشمة لامرأة عارية تجالس شابين، وفي الخلفية أخرى عارية تغتسل.

 

الغداء فوق العشب لإدوارد مانيه

 

قد رفضت من قبل القائمين على العرض بصالون باريس، لتقفز مجددًا الأحكام الأخلاقية والقيود الفنية والعادات الاجتماعية البالية إلى صدارة المشهد النقدي، فلتسقط تلك الأحكام إذن، والقواعد والنسب وليذهب القياس الخاص بها أدراج الرياح.

فلدينا الآن، مفهوم جديد لدراسة الظل والضوء، لا يعتمد على التباين بين درجات الظلال الرمادية أو البنية، ويوقر الضوء مفردًا له المساحة الأكبر، كما يبدي احترامًا لذات اللون التي تعبر عن هويته بقدر كبير في المساحات المضيئة والمظللة.

وبهذا يمكنك أن ترى الظل، "أزرق أو أحمر أو قرمزي أو أخضر".

ثراء لوني وتشكيلي، يعبرُ إلى روح الفنان ويقربنا إلى حد كبير من رسم ملامحه وتحديد هويته، لم يسبق أن حدث من قبل، مع أيٍ من المدارس الفنية، حيث يمكننا بسهولة تمييز هوية الفنان بمجرد رؤية العمل الفني.

 

لوحة ليل النجوم لفان جوخ 

بالعودة مجددًا لفنسنت البائس

وكما يحدث في الأساطير الملهمة، التي تمثل تراثًا إنسانيًا فريدًا، فهناك دائمًا جانب حقيقي ينُسج حوله الكثير من الوقائع الخيالية، مثل إلياذة هوميروس تحول الرجل بين ليلة وضحاها إلى بطل أسطوري يهيم به البشر، على اختلافهم، بعد أن غدا في السابق مكروهًا ومنبوذًا من محبوبيه وكل المحيطين به، باستثناء أخيه ثيودور كاتم أسراره وراعيه وملاذه الآمن.

نجده قد أسس بعبقريته وإبداعه المتفرد للمدرسة التعبيرية، والتي ظهرت فيما بعد.

ربما أراد لفت انتباهنا إلى أن عالمًا يمكننا أن نرى فيه عددًا أكبر من الألوان الأساسية، سيكون أجمل وأصدق وأوضح.

حسنًا يا فينسنت ... لقد فتحنا أعيننا للتو.

 

شاهد ايضا :

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز