عاجل
الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

نشوى سلامة: هناك دائمًا ما يبقى

نشوى سلامة: هناك دائمًا ما يبقى
نشوى سلامة: هناك دائمًا ما يبقى

سبحان الذي يغير ولا يتغير، نعم هي حقيقة نعلمها ونقر بها، لكننا لا نستطيع تطبيقها على أنفسنا، فأصبحت كالكثير من العبارات الرنانة في حياتنا، نتناولها لنتباهى بها، لنقول لأنفسنا وللغير أننا أشخاص نمتلك المرونة والكياسة تجاه كل شيء، أننا طوع ما تلقيه علينا الأيام، فتمر ويمر معها كل شيء، نقولها لنبرز إنسانيتنا، وكأننا بالفعل نتعامل بالإنسانية المنزهة التي لا شائبة فيها وكأننا ملائكة، عذرًا، ولكننا بشرٌ.



ودائمًا ما تدور حولنا أحداث كثيرة، لها أبطالها، التي تلعب دورًا محوريًا في هذه الأحداث، ربما يوازي دور البطولة أو أدوارا ثانوية، هذا الأحداث في الحب، في الصداقات، في العمل، في كل أمور حياتنا، حتى في السياسة.

ولو تكلمنا عن الحب مثلا، فهنا الأبطال محددون، هي وهو، وأبدأ بها لأنها من يندفع أكثر، ومن يخسر أكثر أيضا، ففي كل الحكايات والقصص التي تنتهي نهايات غير محمودة، نجد أن هناك ندبًا وجروحًا لا تندمل، بل تظل ذات أثر موجع، ربما للطرفين، ربما لأطراف كثيرة.

قد تُنسى الحكاية برمتها، قد لا يتذكر حتى أبطال الحكاية أنفسهم أي شيء، وتراتب الأحداث، وما الذي أحدث النهاية، لكن أبدا لا يستطيع أحد أن ينسى ماذا وقع عليه من ألم بسبب تلك الحكايات، ماذا أضر به، بكيانه، بحياته كلها، لا يستطيع نسيان أن هذا الألم اجتر عليه أياما وشهورا وربما سنوات من العذاب حتى يتخلص من ذكرى سيئة، تجعله يفلت كل شيء، من بين يديه، كلما هم وحاول أن يتعافى، ويمسك بأطراف الحياة مره أخرى، فكل شيء قابل للنسيان، إلا الأثر السيئ لا يُمحى أبدا.

ومن الحب إلى معنى أسمى وأبقى ألا وهو الصداقة، وهنا نقف طويلا ونتذكر كثيرًا، وأتكلم عن الصداقة التي تبنى على الصدق والأمانة، وليست التي يملؤها نفاق ورياء، وهذا ما يلخص كل الحكايات الملتصقة بالصداقة، فأنت دائمًا تتذكر الشهامة والسند والدعم، كلما مر عليك موقف مشابه تذكرت على الفور وأصبحوا هؤلاء الأشخاص بالنسبة لك رمزًا ملتصقًا بهذه الصفات الحميدة، وتتذكر أيضا استهانة البعض بك، نفاقهم معك، تملقهم الزائف غير المطلوب، أو ربما طعنك من الخلف، ويكفيك أنها من الخلف، إذ إنهم لا يقوون على مواجهتك، لن تتذكر الأشخاص كالعادة، وتجد نفسك تسقطهم من حساباتك تباعًا، لكن لن تنسى ألمًا تسببوا مجتمعين أو فرادى في إحداثه لك.

كذلك لو انتقلنا، إلى نطاق أوسع، إلى ساحة العمل، وما أدراكم ما العمل، خاصةً إذا كنت تعمل مع أفراد لا يهتمون طيلة الوقت إلا بكيفية تعطيلك، أو إفساد عملك، قد تجد نفسك مُقدمًا بكل ما أوتيت من روح الجدية في العمل لتجعل من المكان خلية نحل، لترى مع زملائك نجاحًا مشتركًا، لكنك تجد هناك من يأبى ذلك، ولا عمل له إلا العراقيل، أو الانتقاد لمجرد أنك ستنجح والآخر سيعمل فقط، والفارق كبير، فمنا من يعمل فقط ومنا من يعمل ويلمع، وهذا لا يعجب الكثيرون، وتترك عملا وآخر ويدور الزمن، ولا تجد نفسك متذكرًا هؤلاء الأشخاص، أو كيف كان أداؤهم معك، لكنك أبدا لن تنسى ما تسببوا فيه لك، ولن تنسى كم تأذيت بسببهم، ربما كلما نظرت إلى شيء كنت على وشك تنفيذه ووجدته خرج إلى النور وأنت متفرج فقط، ربما كلما مررت بمكان كان مقدرًا لك أن تكون أنت فيه.

ومن العمل إلى السياسة والجغرافيا والتاريخ، فالثلاثة كحلقة واحدة متكاملة، فالتاريخ في الأساس عرفناه عندما حكي لنا عن الأماكن بجغرافيتها، والجغرافيا فهمناها عندما علمنا بتاريخ الأمم وحدودها، فعرفنا لماذا يعتمد كل منهما على الآخر، أما السياسة، فهي البطل الثالث، الذي اعتمد على الجغرافيا ليدون التاريخ، وتظل هكذا الحلقة لا انفصال.

وعلى مر العصور (تاريخ) قرأنا عن شعوب عاشت وأقامت حضارات، ثم ما لبثت أن اختفت وانهارت، ربما بسبب جغرافيتها، من أراض، وثرواتٍ، ومياهٍ، وقنواتٍ، ربما بسبب أطماع الآخرين في كل ذلك، وهنا نجد الأبطال كثيرين، منهم البطل الحقيقي الذي ناضل للنهاية، ومنهم البطل الذي لا نستطيع أن نصدق الحكاية بدون وجوده حتى إن كان خائنًا، لكنه بطل أساسي، وهناك أدوار كثيرة لشخصيات كثيرة، لكننا أيضا لا نستطيع تذكرهم ولا حصرهم، بقدر تذكر نتاج أدوراهم.

من التاريخ الفرعوني، مرورًا بالعصور اللاحقة، والعصور الحديثة والحالية، نتذكر أسامي المعارك مثلا والمدن التي كانت يومًا ما عواصم، لا نتذكر جيدًا كيف قامت ولا كيف انهارت، وعن الحوادث المفجعة، والأحداث العظام، حادث دنشواي، موت الآلاف في حفر قناة السويس، حرب ٤٨ وحرب اليمن ونكسة ٦٧، حتى انتصاراتنا لكرامتنا في ٧٣، احتلال العراق، تقسيم اليمن، الانقضاض على سوريا، تدمير ليبيا، اغتصاب فلسطين، ناهيك عن محاولات لا تنتهي من تفكيك مصرنا الأبية، كل هذه الأحداث لا يتذكر من عاشوها كيف كانت ومن أحدثها فنحن سريعو النسيان، لكننا أبدا لن ننسى انه في كل ذكرى حدث من هؤلاء، نتجرع مرارًا، نفجع لمجرد الشعور بأن الإنسانية تبيت وتنهض في عذابات لا تنتهي.

أنا لا أنسى في كل عيد أضحى أنهم نحروا رقابنا وأسقطوها عندما أعدموا صدام حسين، وكلما ذكروا نوبل للخائنة توكل كرمان لا أنسى ملايين الأطفال في اليمن الذين نفقوا جوعا أو بسبب الكوليرا، وكلما ذكروا جوائز المنظمات لا أنسى تلك العفنة التي أطلقوا عليها أيقونة من أيقونات يناير وهي تتسلم الجائزة من الصهاينة مكافأة لها لمساهمتها فيما آلت إليه بلدي من دمار وخراب كاد أن يتحول لانهيارها، وكلما ذكروا الناتو لا أنسى الفوضى والذبح الذي دمر ليبيا وأحدث فراغًا في قلوب مصرية فقدت شبابها مذبوحين هناك، ولن أنسى في كل صلاة كنيسة الذين ماتوا منفجرين، ولن أنسى في كل خطبة جمعة من غُدرَ بهم قتلًا وهم قائمون يصلون لله.

هذه هي الآثار التي عنها أتحدث، هذه الآثار التي لا أستطيع أن أمحوها أو أتجاهلها يومًا ما.

وكل شيء يمر وينتهي من حياتنا آخذًا وقته كما يشاء، إلا وجع القلوب، يعاند الزمن، فيأبى أن يتراجع أو يهدأ، يظل كالجمر تحت الرماد، كلما عبثت به أو حوله، اتقد من جديد، مُذكرًا أصحابها بالألم مجددًا، فسبحانه وحده الذي يغير ولا يتغير، أن يترفق بحال هؤلاء، وأن يعينهم على ضجيج قلوبهم، وأن يبدل ألمهم أملًا، وغمهم سرورًا، وأن يجعل من هذه الابتسامة التي على وجوههم ليست مجرد رسمًا منقوشًا وإنما فرحة يعكسها اندمال جروح قلوبهم، حتى إن كان هناك ما يبقى.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز