عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

«مقابلة مع الموت» - رمضان سلمي

«مقابلة مع الموت» - رمضان سلمي
«مقابلة مع الموت» - رمضان سلمي

تَقَابَلْتُ مع الموت غير مرة؛ بعد كل مرة كنت أُولَدُ مِنْ جديد، فتأتي المرة التالية كي ألقى حدفي مِنْ جديد؛ أما الآن فأنَا أُجَهِزُ لموتتي الأخيرة التى لا بعث بعدها إلا يوم الدين.. رحماك ربي!.



كيَّفَ كان مذاق الموت في المرات الماضية؟ ماذا كان شعوري وقتها؟ أحاول أن أَتَذَكَرُ، أحاول أن أَسْتَجْمِعُ تلابيب ذاكرتي، أحاول أن أُفَتِشُ بين براثن الدهر عن رفاة ذكرياتي.. رحماك ربي!.

الخوفُ مِنْ الموت؛ هذا ما لا أَشْعُرُ به الآن، فلم يعد بالحياة ما يجعلني شَغِفْاً لمواطأتها، ما عُدْتُ أرغب بها، أَتَأَفَّفُ مِنْ فكرة أن أَنْتَظِرُ الموت ليطرق بابي، بيد أنه باستطاعتي الذهاب إليه، والحقيقة أني مُتَحَمِسٌ لتلكم الفكرة؛ أن أرتمي بنفسي بين أحضانه، وكأنه صديقاً حميماً! ولِمٓ كأنه؟ الموت بالفعل صديقاً حميماً زارني غير مرة؛ كانت زيارته الأولى والدي رحمة الله عليه.

***

أقر أيضاً ..«المسخُوطة»..قصة قصيرة

كان أبي بالعقد الرابع مِنْ العمر أنذاك؛ وفي الصباح، أَشْرَقَتْ الشمس على مَضَضِ؛ وقد كان يوماً بارداً باهتُ الألوان؛ زَحَفتْ فيه الآليات صوب بلدتنا، مدعومة بالدبابات والمدرعات، وبجنود الإحتلال، وبدأوا إِجْلَاءَنا بمكبرات الصوت. اِسْتَيّقَظَ أبي مبكراً ذاك اليوم وكأنه على موعد مع حبيب يَشْتَاقُ إليه. خَرَجْتُ أنَا وأطفال الحي؛ نَصْرُخ ونَرْشُقُ الجنود بالحجارة، يردون علينا بالرصاص؛ فَيَسْقُطُ بعضنا.

كنت بالعاشرة مِنْ عمري آنذاك ورشقتهم بالأحجار، وبكيت ولعنتهم. وفجأة؛ دَلَفَ أبي تجاه الجنود والمدرعات، فصوبوا مدافعهم إليه؛ اِقْتَرَبَ منهم أكثر، أطلقوا رصاصهم على قدميه، ولكنه اِنْتَصَبَ سامقا قبالة البيت أمامهم ودماؤه تَنْزِفُ، قال بصوت جهور:

- لن تهدموه إلا فوق جثتي يا مخنثين؟!.

رَكَضَ صوبهم، وسمعنا دَوِيُّ انفجار، وتَنَاثَرَتْ أشلاء الجنود ممتزجةً بأشلاء أبي مِنْ حولنا، اِشْتَعَلَتْ النار بمدرعاتهم، وَقَفْتُ بعيداً فاغرا فمي، وتوقف قلبي عن الخفقان، ولم أر سوى سواداً في سواد؛ لقد كان أبي على موعدٍ مع الموت... رحماك ربي!.

***

اِستَيْقَظْتُ صارخاً:

- أبي ... أين أبي؟.

سَمِعْتُ أمي تقول:

- أبوك بالجنة... لا تنزعج يا ولدي؟.

مرت السنون؛ وأَكْمَلْتُ حياتي متنقلاً بين المخيمات؛ وكانتا معي أمي وأختي الصغيرة. ولما وَصَلْتُ لسن الرابعة عشرة؛ خَرَجْتُ لأتدرب مع المجاهدين على حمل السلاح. تَزَوَّجَتْ أختي مِنْ أحد المجاهدين، وأمي أصابها مرض السل، ولم تتحمَّل الحياة بالمُخيمات؛ لم تتحمَّل البرد القارس، لم تتحمَّل الجوع القارس، لم تتحمَّل الحياة بلا أبي، عاشت مثل جثة لم تستمتع بالحياة أبداً؛ وهل في حياتنا شيء مُمتع؟ انتقلت للرفيق الأعلى؛ وزادت من الصدع الذي تركه موت أبي بقلبي، زادت من عذاباتي، وقابلتُ الموت من جديد؛ الأولى كان أبي، والثانية أمي، والثالثة... حتماً أنَا... رحماك ربي..

***

تَقَدَّمْتُ بالتدريبات بطريقة مبهرة.

- أَحْسَنْتَ؟ بهذا تكن قد اِقْتَرَبْتَ مِنْ تحقيق حلمك!.

قالها لي قائدي، حينما رآني أبلي بَلاءً حسناً بتمارين الرماية، والاشتباك. كان حلمي أن اَنْتَقِمْ لأبي مِنْ جنود الإحتلال، ولكني أريد أن أَقْتُلُ كتائباً منهم، ولن يُشْفِ غليلي جندي أو اثنين، لكن الحقيقة سلاحي لن يُنْجِعُني في تحقيقه. قَرَرَ قادتي أمراً وأَطْلَعْوُني عَليهِ؛ عمليةٌ استشهاديةٌ! وأنَا مَنْ سينفذها، وَافَقْتُ بعد تفكير قليل.

سَأُقَابِلُ الموت بنفسي، وسأرتمي بين أحضانه، سَأُنْشُرُ الذُعر والرعب في قلوب الصهاينة، ومرحباً بالموت لكن يموتون معي ويحترقون بناري..

***

أما الآن؛ فأنَا في دَارٍ صَغيرٍ بأطراف "غزة".

- هيا لتستعد؟.

يأتني صوت قائدي يدعوني للتهيؤ. أقول:

- أريد أن أَقُومُ بزيارة لأختي؟.

- لك هذا ... ولكن احترس؟.

- إن شاء الله لن أموت إلا ومعي العشرات مِنْ جنودهم المخنثين، لا تقلق؟.

أنَا الآن بصحبة رهط مِنْ المجاهدين جالسين نتدارس الخطة. وفجأة؛ أَفِذُّ عنهم، أَلْبِسُ جلبابي، أَلْتَحِفُ الشال، وأَهُمُّ بالخروج مِنْ الدار. وفجأة؛ نَسْمَعُ أزيز طائرات الكيان الصهيوني تَشُقُّ السماء...

- غارة على غزة!.

يَصْرُخُ فينا القائد؛ فَيَتَجَمَّعُ المجاهدون سريعاً، ويَصْدُرُ أمره؛ يقول:

- اِنْزِلْوا إلى النفق سريعاً واِنْزِلْوا معكم الأسلحة والزخيرة؟.

وراح يَكْشِفُ عن غطاء لنفق أسفل الدار.

أصيحُ بغضب:

- كنت أنوي زيارة أختي، ثم أعود لأقتل منهم العشرات، لماذا يستبقون القدر... لماذا؟.

ويَبْدَأُ المجاهدون بانزال الزخيرة والأسلحة إلى النفق الآمن، وأنَا مُنْتَصِبٌ لا أَتَتَعْتَعُ قيد أنملة... يَصِيحُ بي القائد:

- اِنْزِلْ؟.

أَتَمَلْمَلُ ولا أُجِيبُ. يقول:

-  اِنْزِلْ... لابد مِنْ المحافظة على سلامتك فلن نُفْشِل حلمك أبدا؟.

يبدأ دَّوِيُّ القنابل والصواريخ يُهَتِّكُ الآذان تَهْتِيكاً، وتبدأ المنازل بالانهيار جراء القصف. صرخات الأطفال والنساءتَتَحَشْرَجُ بين الأزقة والطرقات المسدودة بأكوام الأنقاض!. الكل يَصْرُخُ، الكل يَبْتَهِلُ، الكل يَبْحَثُ عن ملاذ آمن. أَنْظُرُ مِنْ النافذةٍ، أَتَأَمَّلَهُمُ صامتاً!.

-اِيهِ... ماذا قَرَرْت؟.

يسألني القائد؛ بماذا أُجِيبُه؟ أَأَدْفِنُ نفسي بالنفق والنساء والأطفال تَعُجُ بهم الطرقات تحت ضجيج القصف؟ أم أَنْسَٰ قتل العشرات الآن وأَخْرُجُ إليهم؟!.

فجأة؛ يُسْقَطُ صاروخاً فوق دار ملاصقة لدارنا؛ فتهتز الأرض مِنْ تحت قدماي؛ الآن أُقَرِرُ!.

- سَأُرجّيِ الحلم القديم، وسَأَخْرُجُ لِأُدافِعُ عن حلمي الحاضر!.

أقولها ثم أرتدي بذلتي العسكرية الخضراء، والقناع والحذاء الأسودين؛ بعد أن أخلع الجلباب، وأُخْرِجُ بندقيتي الكلاشنكوف مِنْ الصندوق الخشبي المسجى بين أيديهم قبل نزوله إلى النفق، وأتناول حقيبة مملوءة بخزنات الرصاص، وينزلوا هم إلى النفق ويسقطون غطاءه فوقهم.

وأَنْطَلِقُ أنا خارجاً مِنْ البيت بسرعة صوب صراخ النساء والأطفال لآخذهم إلى ملجأ آمن مِنْ الغارات. وريثما أَبْتَعِدُ عن الدار؛ إلا ويتم قصفه بصاروخ مِنْ طائرةٍ صهيونية!.

عندها أُقْذَفُ بعيداً من شدة الانفجار، وأَسْقُطُ أرضاً، وبجانبي الكلاشنكوف والحقيبة، أَنْهَضُ من هول المفاجأة؛ أَسْتَدِرُ وأَنْظُرُ إلى البيت فأجده قد صار كومة أنقاض! أُتَمْتِمُ:

- الحمد لله!.

أَتَقَلَّدُ بالكلاشنكوف وحقيبة الزخيرة؛ أَرْكُضُ صوب الأطفال والنساء والشيوخ؛ وأُرْشِدَهُم إلى المخابئ الآمنة تحت الأرض، ويَنْضَمُّ إلي مسلحين أكثر ونعمل على إرشاد الناس إلى المخابئ. وفجأة؛ تَصْرُخُ امرأة مِنْ داخل المخبأ:

- أين طفلي!؟.

أَنْزِلُ إليها، أتأمل قسمات مِنْ حولها، تَزِيدُني الدموع والرجفات اصراراً، أسألها:

- ماخَطْبُكِ يا أمي؟. تقول مُرتجفةً:

- إبني فَقَدْتُه بالطريق ونحن قادمون!.

- لا تَخَافِ سأحضره إن شاء الله؟.

يَنْظُرُ إلي شاب مِنْ المسلحين، يقول:

- بعض القوات الصهيونية تَقْتَحِمُ غزة برياً للبحث عن جهاديين... خُذْ حذرك؟.

أقول له مِنْ خلف قناعي الأسود:

-  اِطْمَئِن ... ليس هنالك عقاب أقسى مِنْ الموت يستطيعون فعله بنا!.

وأَنْطَلِقُ إلى الطريق الذي وصفته لي المرأة؛ اَبْتَعِدُ مستكشفاً؛ أَسْمَعُ حسيس النار، وأرى الأدخنة المتصاعدة، ومِنْ فوقي الأزيز يَغِيضُ ويعلو، وفجأة؛  أَسْمَعُ صراخ طفل، أَرْكُضُ صوب الصوت؛ أَجِدُه يبكي خلف أكوام الهديد، يُغَمْغِمُ:

- أينَ أَنْتِ يا أمي؟.

أَنْزِلُ على ركبتي أمامه، معلقاً بندقيتي فوق كتفي وأَحْتَضِنُه بشدة، وأُرَبِّتُ على ظهره، أقول:

- أمك بخير.

وأَهُمُّ أن آخذه مِنْ يده وأعود ولكني أَسْمَعُ صَلْصَلَةُ آلياتهم، وصيحات جنودهم، فَأتَيقْنُ بأنهم قادمون!. أَصِفُ للطفل طريق المخبأ؛ يُومِئُ بأنه يعرفه، أقول له قبل أن يذهب:

- ما هو حُلْمُكَ يا صغير؟.

يقول حانقاً:

- حُلْمِي أن أَقْتُلُ منهم العشرات.

مُشيراً بيده إلى المُقاتلات بالسماء، أَبْتَسِمُ، أقول:

- إذاً اِذْهَبْ لأمك؛ لتعتني بك كي تُحَقِّق حُلْمُك؟.

يَنْطَلِقُ راكضاً، ويَغِيبُ بين أكوام الهديد والمنازل.

تَظْهَرُ أمامي جليةً آلياتهم العسكرية؛ أَنْظُرُ خلفي إلى الطريق الذي مَرَقَ منه الطفل وأَجِدّهُ قد اِخْتَفَى؛ أَصْرُخُ:

- مرحباً بكم في أرض الأحلام!.

وَأَسْمَحُ لنيران الكلاشنكوف أن تَنْطَلِقُ صوب خنازير الصهاينة لتجلدهم بسياطها.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز