عاجل
الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

نشوي سلامة تكتب: الطاعون

نشوي سلامة تكتب: الطاعون
نشوي سلامة تكتب: الطاعون

واستكمالا لمسلسلات التبرعات الذي اصبح بالفعل مستفزًا لدرجة لا تطاق، عندي بعض اللمحات لو اعتبرناها مفاتيح أدلة لسردنا خلفها حكايات وحكايات، منذ خمسة عشرة عامًا تقريبًا عندما ظهر على مجتمعاتنا لفظة جمعيات، ومنها جمعية رسالة التي أُبهرنا جميعًا بما سوف تقدم للمجتمع، في وقت التهى كل فرد في نفسه، وشاهدنا تقطعًا في التواصل والرحمة بين الجميع، وجدنا هذه الجمعية، تحث الشباب على العمل المجتمعي الذي أفلت من بين يدي الدولة طواعية، فلقد اعتمدت هي الأخرى على النمط الجديد الذي هل علينا وأسموه (جمعيات المجتمع المدني)، على أساس انه حينما يتطوع الشباب مع مؤسسات الدولة وبالأخص الشؤون الاجتماعية والبيئة مثلا لا يصح أن نطلق عليهم في هذه الحالة انهم مجتمع مدني، ودي بداية غسيل العقول بالعبارات المؤثرة.



نعود للحكايات، فرحنا جدا أن هناك من سيخلصنا من نفايات البيوت التي أصبحت عبئًا، وبالتزامن مع كراهتنا الشديدة لجامعي القمامة وما يشيع في المجتمع انهم مليونيرات من جمع قمامتنا (ومن أشاع هذه العبارات!)، استخصرنا ان نترك لهم كرسيًا مكسورًا، أو لعبة قديمة تهالكت، وقلنا سيبيعونها ولن يعملوا على إعادة تدويرها كهذه الجمعية العظيمة، ولن يعطوها لأطفال لا سبيل لهم في الألعاب إلا أنهم يسمعون عنها كحكايات الأساطير، كنا نجهل تمامًا أن لكل طبقة اجتماعية ما يناسبها من مستوى مشتروات حتى في لعب الأطفال، وأن الناس مختلفة في اختياراتها بما يناسب دخلها، ولا علاقة لذلك بالمساواة والعدالة ومجموعة الكلمات التي تؤدي بك إلى الانتحار لأنك مجرم آثم لا تشعر بغيرك، الجنة نفسها درجات يا سادة.

هذه الجمعيات صنعت من منازلنا مخازن لأغراضها، نخزنها إلى وقت معلوم يأتون إليك فيه ليتسلموا منك غلة الشهر، ونحن غارقون في رقة القلوب ولينها ونعمل بكل طاقة ونحث القريب والبعيد ليشاركونا العمل النبيل، وجاء الوقت الذي استفحلت فيه القوة، جاء الوقت الذي امتلكت فيه سيارات ومتطوعو هذه الجمعية لكي ينتقوا ما يحملونه، وتبدل الحال، من خرج البيوت كما هو دارج، إلى نقود وإيصالات، الحقيقة لم أعرف للآن قيمه هذه الإيصالات، ولم اهتم يومًا (كسليمان بك نجيب) بقيمة احتفاظي بالوصل في فيلم (الآنسة حنفي)، بس دلوقت فعلا بقول يا ريتنى كنت خدت الوصل، على الأقل أقدر أدينهم.

أصبحوا يرفضون كل شيء خلا ما يستطيعون بيعه، مثل الأوراق، الأثاث، الأجهزة الكهربائية التي نستغني عنها لزيادتها وليس لأنها لا تعمل، والنقود بصورة منتظمة، حيث كانوا يوهموننا بأن لديهم عفاريت التصليح ويصلحون كل شيء ليعطونه للفقراء الذين لا يستطيعون الشراء، يالسذاجتنا وقتها، كيف للفقير الذي لم تدخل المياه ولا الكهرباء منزله ان يفرح بغسالة أوتوماتيكية مثلا، وعلى هذا المثال الكثير مما لم نحاول أن نفكر فيه وقتها، فقد كنا نتعامل بالعواطف وكانت المشاعر هي المتحكم الأول، الم أقل لكم سابقا يغتصبون مشاعرنا ليسيطروا على كل حواسنا.

حدث هذا معي ومع صديقة، وكانوا في منتهى الغلظة في رفضهم هذه الأشياء، ورجعنا للنقطة صفر، الآن لا يوجد جامعو القمامة، الآن كيف لنا أن نتصرف في هذه الأشياء التي قمنا بتخزينها، ولا نعرف من نعطيها له بجانب أن تصليح هذه الأشياء مكلف ولا يليق أن تعطي أحدًا شيئًا لتثقله به، وقد قالت هذه الجمعية سابقًا إن لديهم من يقوم بهذه الأعمال متطوعًا، كل هذا ذهب في الهواء، ولكم التعليق!

وظهرت علينا جمعيات أُخر اقتداء بهذه الجمعية الرائدة في المجتمع التي أصفها بالطاعون، وأصبحت مهنة، وكل جمعية لها مقار وموظفون وتليفونات يلاحقون بها الناس، وسيارات للنقل، وشباب.. شباب متطوع لعمل الخير، ألا بعدًا لهؤلاء الشباب، أين هم من هذا العمل التطوعي حتى في منطقة سكنهم؟ أين مشاركتهم في العقار الواحد الذي يسكنون فيه مع جيرانهم؟ لقد اخذوا على عاتقهم أن هناك من يديرهم وها قد أصبحوا بعد ذلك كالأولتراس يطيعون قائدهم في التوجهات، ولا يحيدون أو ينحرفون عن مسار شريانه إلا من رحم ربي منهم وأدرك انه مسير بإرادتهم ولمصالحهم وليس للمجتمع ولا للناس، ولو أنه لبعض الناس فقط في هذا المجتمع.

ولا يغرنك الإعلانات والمشاهد التي تطل علينا فقد أفقهنا أيضا أن كل ذلك تصوير، ولكن أيضا ادركنا كل ذلك بعد فوات وقت كثير.

ونأتي هنا للمفاجأة الكبرى التي وضعت لكل شيء حروفًا فظهر المستخبي، حينما كان يجلس رجل  في بلدته عند أحد أقربائه ممن يعملون في شراء المستعمل وتكهينه أو تصليحه وإعادة بيعه، تبعًا لمستوى الطبقات التي يروق لها هذه الطريقة بل يفضلونها عن شراء الجديد، هذا هو عمله الذي ألفه ويعرف كل طرقه، دار نقاش حاد بين هذا القريب وبين من يترك له حمولة سيارته من محتويات حول السعر وتقديره، كل المحتوى أثاث، وأجهزة كهربائية، وملابس مستعملة، وتمت الصفقة وغادرت السيارة، واذا بهذا الرجل الذي قص عليّ القصة وما حدث مع قريبه يتفاجأ بأن هذه السيارة تابعه لجمعية رسالة! وكلنا نعلم عُرف الناس في تقصي المعلومة، فلم تنته الجلسة بينهما إلا وكان الثاني قد أرسى الأول على كل شيء من طأطأ إلى سلامو عليكو كما يقال، وكانت سلامو عليكو كالصاعقة عليه وعليّ أنا شخصيًا

إذن محتويات منازلنا السليمة وليست التي تحتاج للتصليح، تباع بأثمان زهيدة جدا لتجار يعملون في تجارة المستعمل، ولكن يضعون السعر الذي يتربحون من ورائه، وقد ابتاعوا هذه الأشياء بأسعار خجل منها مفهوم الفصال حين سمع الأرقام، أسعار بخسة، هنا فقط أسأل، لماذا لم يعطوا هذه الأشياء للفقراء؟ هل يوازي ثمنها الذي حصلوا عليه ان يبتاعوا هم انفسهم مثلها ويعطوها للفقير، لماذا لم يقولوا للناس انهم يبيعونها، فالناس تستطيع حينئذ ان تبحث بنفسها عمن يحتاج إلى سريرًا أو مكتبا وتعطيه له، ولكنهم أبوا ألا يقوموا بدور القائد ونحن جميعًا من نطيع ونعمل لديهم وتبعا لإرادتهم، واهمين أننا نعمل في الخير وانهم يأخذون بأيادينا إلى طريق الجنة، والسؤال الآخر، أين تذهب هذه النقود؟

حدث شيء آخر كان هو بمثابة حكم نهائي لا نقض ولا رد محكمه فيه، حين علمت ممن يعملون تطوعًا بداخل هذه الجمعية أن العطاء والمنع فقط بيد صاحب القرار تبعًا لهواه وتبعًا لمن يراهم يتبعونه، وليس للمحتاجين على اختلافهم، وأن هناك بالفعل من يحتاج ويردونه لأن هناك الأفضلية لغيره، اذن أين التكافل وأين الرسالة في انتقاء الناس والتمييز بينهم، بينما هم أنفسهم يصدعوننا باننا كلنا كأسنان المشط ولا يفرق بيننا شيء، فكيف لهم أن يفرقوا بين أيادي المحتاجين؟ وكيف يكون الحكم آنذاك عليهم؟

ولما سبق ادركت بعد زمن ان كل هذه الجمعيات وعلى رأسها القدوة رسالة ما هي إلا طاعون تسرب بيننا كمجتمع وبعد فترات أخرى ادركت كيفية صناعة الصورة وتثبيتها امامنا حتى لا نستطيع ان نغير ما زرعوه بعقولنا انهم يساعدون ويبنون ويعلمون ويزوجون و و و، إلى اخر كلماتهم التي تتردد على لسان مريديهم ورجالاتهم، على نفس منوال ما شاهدناه في سنواتنا الأخيرة من بث أقاويل وشائعات في وسط الناس ليختلط الحقيقي منها مع المزيف فلا تستطع التفرقة ولا تستطع تكذيب جزء لأنها ممتزجة كامتزاج صفائح الدم في الشرايين، فكيف لنا ان نوقف هذا التدفق إلا اذا قطعنا هذا الشريان، وأقولها مرة أخرى: تيقنوا لمسار تبرعاتكم، أفلتوا أنفسكم من الطاعون.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز