عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

شاهد على زئير أسد في معركة "تبة الشجرة "

شاهد على زئير أسد في معركة "تبة الشجرة "
شاهد على زئير أسد في معركة "تبة الشجرة "

أعدها للنشر- عادل عبدالمحسن

قصة قصيرة من قلب معركة العبور العاشر من رمضان الموافق السادس من أكتوبر سنة1973 كتبها بطل من أبطال هذه المعركة المجيدة محمد شمس موجه عام الفلسفة بالغربية سابقًا، وكان خلال حرب العاشر من رمضان الذي نعيش نسماته وذكرياته حاليًا نقيب احتياط وقائد سرية الرشاشات بالكتيبة 12 مشاة التابعة للواء الرابع بالفرقة الثانية مشاة.



لا أجد أروع مما كتب في عبارات صداقة من شاهد عيان وبطل ساهم في صنع التاريخ.. وإلى تفاصيل القصة:

 في بداية قصته قال البطل: "ما أعظم أن يكون للإنسان إرادة، وما أروع أن تكون الإرادة منتصرة".

هذه القصة لم أؤلفها، إنها أحداث واقعية ومشاعر اختلجت في صدري وظلت تعتمل وتتصاعد مع كل لحظة، من لحظـــات معركة العبور العظيم في السادس من أكتوبر73 حيث كنت وقتها ضابطا من ضباط الاحتياط برتبة ملازم أول قائدًا لسرية الرشاشــات بالكتيبة 12 مشاة "أبطال تبة الشجرة "الكتيبة 12 إحدى كتائب اللواء الرابع ـ الفرقة الثانية مشاة " وذلك قبل الترقية إلى رتبة النقيب بعد الحرب.. علما بأن موقع الكتيبة قبـــــل الحرب كان المعدية رقم 6 بالإسماعيلية على القناة مباشرة.. بطل هــــــذه القصة أحد جنود الكتيبة.

 

نظرات غضب ثائرة تنفذ إلى جسده كسهم ناري، كسوط من اللهب

الشهيد "مصطفى شرف الدين".. قصة لم أؤلفها، كل ما فعلته أنني بعد وقف إطلاق النار قمت بتسجيلها أواخر أكتوبر 73.

الصمت في جميع الأرجاء يخيم، لا يبدده إلا نبضات تلك القلوب التي تكاد تقفز من الصدور.. الوجوه عابســــــة مصممة متحفزة.. النظرات بالعزم ترنوا إلى هناك.. إلى الشاطئ البعيد.. إلى سيناء..

الأيدي بقوة الرجال تقبض على السلاح.. الأقدام في الخندق ثابتة ثبوت الصخر تترقب في شوق إلى الانطلاق ما أقساك يا عقارب الساعة وما أبطأ حركتك!!

في غيظ محبب قالها "شرف الدين" وهو ينظر إلى الســــاعة في معصمه.. راح عقله إلى منطلق رحب

يقلب صفحات الماضي التي سطرتها أحداث ست سنين.. تذكر أنهار العرق في تدريبـات الست سنين..

تذكر سعادته حينما انضم إلى الجندية.. تذكر زهوه بنفسه واعتزازه بها كجندي من جيش مصر.. تذكر نظرات كثيرة إليه، هــــــذه نظرات ساخرة من هزيمة 67 وربما كانت حاقدة، هــــذه نظرات يائسة مستسلمة، هذه نظرات تفاؤل لكنه حذر، هذه نظرات غضب ثائرة تنفذ إلى جسده كسهم ناري، كسوط من اللهب،

ثم تلك نظرات أمل.. نعم الأمل.. مؤخرًا جاء الأمل.. رائعة عيون الأمل.. قوى لامع بريقها.

في صدر "شرف الدين" وفى قلبـــه تسكن تلك النظرات، إنها غذاء عقله اليقظ دائما، إنها مصدر قوته وطاقته وحركته الدائبة الدائمة التي لا تهدأ.. تذكر دمعة في عين أمه.. تذكر نحيبًا من زوجة أخيه..

تذكر نظرة حزينة ارتسمت على وجه طفل صغير لا يدرى ما يدور حوله، لا يدرى ما سببه..

البطل.. حــزين هو ابن أخيه فقط من أجل دمعات أمه.. تذكر ذلك اليـــوم من ست سنوات، ذلك اليوم من يونيو 67 يوم استشهاد "محمد" أخيه الأكبر في سيناء وقد كان مثله الأعلى في كل شيء، فى خلقه ورجولته وبأسه الشديد.. نعم إنه يتذكر هذا اليوم جيدًا.. يذكر أخـــاه.. وكيف ينساه وهو حي باقٍ يعيش في قلبه وفى كل كيانه.. كيف ينساه وقد قرر يومها أن يكون امتدادًا لأخيه

في كل مجال.. فأمه لن تكون ثكلى.. زوجة أخيه لن تكـــون أرملة.. ابن أخيه لن يكون يتيما.

هكذا وبعزيمة الرجال قرر "شرف الدين".. وها هو يفي بوعد قطعه على نفسه أن ينتقم لأخيـــه ويثأر له.. أن يطفئ لهيب الغضب في صدره.. أن يطفئ نــــــــار الهزيمة تلك التي شبت داخل أعماق النفوس.. أن يهزم الهزيمة نفسها.

تذكر كل ذلك بينما الذكريات تتصاعد بمرارتها إلى ذروة نفسه حتى إذا ضاق بها صــــدره المنتفض

إذ هو يسمع في الأفق البعيد من سيناء من يناديه.. هذا الصوت.. إنه يذكره جيدًا.. إنه صوت "محمد" أخيه الشهيد: نعم يا محمد.. إني قادم إليك

أطلقها "شرف الدين" صيحة مدوية زلزلت جدران الصمت.. ثم إذ هي انطلاقة الرجال مع صيحة النصر والتكبير تهب من كل فج.. في جزء من الثانية تجمع الرجــــــــال بغضب الست سنين حول القارب وباسم الله وعزيمــة الرجال يسير القارب.. يشق طريقه عبر صفحة مياه القناة وإذا بها ترحب في صمت برجال مصر وغدت مياهها قيثارة حب ووفاء يعزف عليها الرجال بمجاديف قواربهم لحنًا عذبًا يمتزج بدوى المدافع وهدير "الدانات" المصرية في انسجام موسيقى عجيب.

 

"محمد ".. أخي.. نحن جئنا يا محمد.. نحن عدنا.. لك أنتقم وأثأر.. سأنتقم وأثأر

ما إن وصل القارب إلى الشاطئ، إلا وكان "شرف الدين" أول من قفز.. إنها لحظة عمره كله..

موعده مع القدر هنا قد جاء مؤخرًا بعد تلهف وصبر وانتظار طويل:

 ـ إنها سيناء.. سيناء يا عمرى المفقود ها أنذا قد جئت إليك.. قد عدت إليك.. إني هنا إذن على ترابك...

في فرحة هستيرية يقفز "شرف الدين" تارة وأخرى يسجد يقبل أرض سيناء.. يقبل الرمل..

يقبل وجه أخيه.. لم يترك نفسه للانفعال..ها هو يحمل السلم الخشبي يصعد به حاجز اليأس..

يشق الساتر الترابي الكثيف صـــاعدًا في عزم كريح عاتية تقتلع جذور الشر.. تبدد غيومًا كثيفة..

تشق للنور طريقًا تصعد عليه قلوب غضبى عطشى للثأر.

رنا "شرف الدين" ينظر إلى أسفل حيث الشاطئ فيبتسم في عزة وهو يرى موجات من جيش مصر الأبي تتلاطم.. تتلاحم.. تتسارع.. كل تريد أن تلحق بأخراها.

 ـ الله يحميك يا "مفتى".. الله أكبر

لم يستطع "شرف الدين" إلا أن يطلق تلك الصيحة المكبرة المدوية.. إنه علم مصر شرف مصر يعيد غرسه زميله

"مفتى" في أرضنا سيناء.. علم مصر يرفرف.. يخفق في زهو وعلو وافتخار زهو شعب مصر

وعلوهم وافتخارهم "محمد ".. أخي.. نحن جئنا يا محمد.. نحن عدنا.. لك أنتقم وأثأر.. سأنتقم وأثأر..

هذا علمنا زرعناه إلى جوارك يظلل جسدك الطاهر.. يرفرف بأنفاس روحك الزكية.

وفجأة وكالسهم الخارق انطلق "شرف الدين" في شراسة البأس العتيد لهامة عملاقة.. لم يفـــــكر..

لم ينتظر.. ولم يطق صبرًا وقد وقع بصره على دبابة تقترب في جنون.. تتقدم في ذهول..

تتخبط كأنها تسير في الظلام.. وأى ظلام ؟؟ أهناك أدمس من ظلام الهزيمة ؟؟.. تلك هي تتقدم..

اعتملت في نفسه ثورة عــــــارمة أنفضته وثبة إلى الأمام.. في إحدى ثنايا الأرض وضع نفسه

كصياد ماهر ينتظر بدهــاء فريسته وصيده الثمين.. كتم أنفاسه.. أصبعه على الزناد.. عينه ترقب..

 ـ مهلا أيها الجبناء لن تنفذوا إلى علمي.. بسم الله خذ ياعدو الله

أطلق " شرف الدين " قذيفة من سلاحه "الآربى جي" أحـالت الدبابة نارا وتدميرا،

وفى اللحظة ذاتها إذا برشاشها العاجز اليائس يلفظ أنفاسه الأخيرة بدفعة من الطلقات تسكن إلى صدره..

ها هي دماء زكية تنزف من جسده ملأ أريجها المكان كله.. ابتسم "شرف الدين"

ثم عاد يعانق الأرض.. يعانق وجه أخيه بعد فراق دام ست سنين.

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز